أمين صالح
(البحرين)

XXXXXXXXXX عندما عرض أندريه تاركوفسكي فيلمه "المرآة" في موسكو العام 1974، جوبه بهجوم عنيف ورفض حاسم من قِبل بعض السينمائيين والنقاد الملتزمين بالخط الحزبي والمحافظ، فضلاً عن القائمين على إدارة شئون السينما، الذين أدانوا الفيلم باعتباره نخبوياً، شكلانياً، صعباً، غامضاً، مليئاً بالألغاز، مفرطاً في الذاتية، عصياً على فهم الجمهور العام. بالنتيجة، فقد تعرّض الفيلم لمضايقات عديدة تمثّلت في عرضه بشكل محدود جداً، في صالات من الدرجة الثالثة، غير مريحة، بأجهزة عرض سيئة للغاية، ولم يُطبع من الفيلم غير نسخ قليلة، مع حرمان المخرج من النسبة المعتادة من عائدات الفيلم، كما لم يُسمح بتوزيعه إلا في العام 1978.

"المرآة" تحفة فنية لشاعر السينما تاركوفسكي.. من خلالها ندخل عالماً غنياً بالصور والسحر والأحلام، نعايش تجربة تثير فينا البهجة والنشوة، وتحثنا على التأمل في واقعنا الخاص، ورؤية علاقاتنا بالمحيط والآخرين من وجهة نظر جديدة، طرية، مختلفة. إن تاركوفسكي هنا يغذّي العين والقلب معاً، الفكر والروح معاً، يأخذنا صوب منابع الجمال والخلاص في رحلة محفوفة بالوجع والخوف، وهناك ينقّي حواسنا ويغرس في أرواحنا المتعبة بذور الأمل.

في "المرآة" يعرض تاركوفسكي أجزاء من سيرته الذاتية في طفولته وصباه ورجولته، يستعين بأمه الحقيقية لتمثل دور الأم في سن متقدمة، يوظف قصائد أبيه الشاعر أرسيني تاركوفسكي الذي يلقي القصائد بصوته، يستخدم أشرطة إخبارية تصور مراحل مهمة وحاسمة في مسيرة جيله التاريخية.

تاركوفسكي هنا يتذكر، يحلم، يتخيل، ويعترف. لكنه، كعادته، لا يلجأ إلى السرد القصصي التقليدي والحبكة المألوفة والتتابع أو الترابط المنطقي، إنما يعتمد ما يشبه تقنية تيار الوعي حيث الصور تتداعى وتتدفق وتتشظى ضمن نسيج فني يتلاحم فيه الواقع والحلم والرؤى والذكريات.

فيلم مفتوح وحر كما الذاكرة، كما الحلم. الماضي والحاضر يتداخلان. الذاكرة تخترق تخوم الأزمنة والأمكنة، الواقع والتاريخ، الحقيقة والتخيّل. مع الصور الذاتية والموضوعية، الخاصة والعامة، يبثّ تاركوفسكي في هذا الفيلم – الذي تتعدّد طبقاته، وتتعدّد انعكاساته – قراءات شعرية وأدبية، لوحات تشكيلية، أيقونات ورموزاً دينية، أشرطة وثائقية.

"المرآة" ذاكرة تتفجّر وتتشظى في كل اتجاه، ذاكرة تكشف عن ماضي تاركوفسكي وماضي وطن، هذا الماضي الذي لا يذهب بل يظل حياً ومؤثراً في حياة الفرد في حاضره ومستقبله، محدداً وجوده وكينونته.
"المرآة" شهادة، أو إذا شئت، أنشودة حب.. "نحن مدينون لأولئك الذين منحونا الحياة والحب، ويجب علينا أن نظهر مدى حبنا لهم".. يقول تاركوفسكي. يمكن قراءة الفيلم عبر ثلاثة مستويات:
الأول، الحياة الواقعية: علاقة تاركوفسكي بأمه، أبيه، زوجته، ابنه. طفولته في الريف. ذهاب أبيه إلى الحرب والوداع الموجع، ثم الغياب الذي يصعب تعويضه. الفاقة والجوع. تحطم الحياة العائلية بعد انفصال أبويه. زواجه وتطابق صورة الأم وصورة الزوجة (تؤدي الدورين الممثلة الرائعة مرغريتا تريكوفا). إحساسه بالذنب بسبب عجزه عن إقامة اتصال مع أمه وزوجته وابنه. تماثل محنته مع محنة الأب، حيث ينفصل بدوره عن زوجته ويجعل ابنه يعاني الألم ذاته – ألم الفقد – الذي عاناه في صغره وسبّب له جرحاً عميقاً.

الثاني، مستوى الذاكرة والحلم والرؤى: عبر هذه المظاهر يحاول تاركوفسكي استعادة الماضي، الإمساك بالزمن، فهم الواقع، وضع التجربة الشخصية بكل ما يحيط بها من مخاوف وأمنيات ومشاعر في بؤرة المرآة، سبر الأعماق الدفينة، التحرّر من الوجع.
تاركوفسكي يُدخل المتفرج برشاقة في أجواء الحلم الآسرة، لكنه لا يشبع حاجته اللحوحة إلى الفهم، إلى التحقق من منطق الصور المتوالية.
تاركوفسكي يؤكد دائماً بأن أفلامه لا تحتوي على رموز أو ألغاز أو معان خفية وسرية ينبغي البحث عنها وكشفها وحلها، فدلالات الصور ومعانيها تكمن في ذاتها.. "لكن البعض يريد ما هو أكثر، يحتاج إلى رموز سريّة ومعانٍ خفية، ذلك لأنهم لم يعتادوا على شعرية الصورة السينمائية".. إنه لا يسعى إلى تفجير الأفكار لدى المتفرج، إنما يسعى إلى إثارة استجابات عاطفية عميقة.

هكذا يتعيّن علينا أن ننظر، دون أي تأويل أو بحث غير مجد عن المعنى، إلى الريح وهي تهب فجأة من لا مكان لتموّج العشب في مشهد جميل وأخاذ، أو ننظر إلى الأم الشابة وهي تطفو نائمة في الهواء، أو إلى الطائر وهو يحط على قبعة الطفل، أو إلى النار تخرج واهنةً من شعر الأم، أو إلى جص السقف وهو يتفتت ويهوي. علينا أن نؤخذ بهذا السحر المدهش ونكتفي، فأي تفسير يفسد، وجمال الحلم في غموضه لا في تفكيكه إلى شفرات ورموز.

تاركوفسكي يحلم. هكذا نفهم غرابة الحالات، الانقطاع في البعد الزماني – المكاني، الحركات البطيئة، الاختفاء المفاجئ أو الغرائبي للأشخاص والأشياء (كخاصية سوريالية) حيث الوهم أو التخيّل يترك أثراً مادياً يوحي بالحضور الواقعي والميتافيزيقي في آن.

المستوى الثالث، يكمن في تداخل الذاكرة الجماعية مع الذاكرة الذاتية حيث يتم التحام الخاص والعام، التقاء الهم الذاتي بالهم الموضوعي، وهذا يتمثّل في الأشرطة الإخبارية المبثوثة طوال الفيلم والتي تصور: مآسي الحرب الأهلية الأسبانية، سقوط برلين، احتفالات النصر في موسكو، إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما، الثورة الثقافية في الصين، المواجهات بين المتظاهرين الماويين والحراس السوفييت على الحدود السوفيتية – الصينية.. مثل هذه الإشارات أو الأحداث التاريخية تشكّل علامات فارقة ومؤثرة على جيل تاركوفسكي، بالتالي تمثّل الذاكرة التاريخية التي لا يمكن عزلها عن الوقائع الذاتية بالنظر إلى ما مارسته من تأثير قوي وفعال.

هذه المستويات الثلاثة تتداخل وتلتحم مع بعضها البعض على نحو يستحيل فصمها، وتاركوفسكي لا يلجأ إلى تمييزها أو تحديد تخومها عبر استخدام وسائل المونتاج المعروفة، التقليدية، كالاختفاء التدريجي للصورة أو المزج أو ما شابه، إنما يعتمد على القطع المفاجئ، محطماً بذلك الحدود الفاصلة بين المستويات، محرّضاً إيانا على النظر من زوايا جديدة ومغايرة دونما اتكاء على النظرة المألوفة، المباشرة، السطحية والكسولة.

يبدأ الفيلم بمشهد لفتى مراهق يشكو من صعوبة في النطق. الطبيبة النفسانية تحاول، عبر العلاج بالتنويم المغناطيسي، تخليصه من هذه العاهة. وهي تنجح في جعله يتحرّر من عقدته ويستعيد طلاقة لسانه قائلاً: "أستطيع أن أتكلّم". ولأن الفتى والطبيبة يختفيان ولا نعود نراهما طوال الفيلم، فإنه يمكننا اعتبار هذه المقدمة كمجاز يعبّر عن تحرّر تاركوفسكي نفسه من الصمت الذي وجد نفسه محتجزاً فيه، أو التحرر من صعوبة التعبير عن ذاته على نحو مباشر. إن تحقيقه لهذا الفيلم هو فعل تحرّر مجازي من الصدمة الناجمة عن انفصال أبويه، عن إحساسه بالفقد. لقد استطاع أن يتخلص من أشباح طفولته، وبهذا المعنى فإن الفيلم أشبه بالمطهر.. لهذا نجده يقول، في كتابه "النحت في الزمن": (عندما أنهيت فيلمي – المرآة - تلاشت فجأة ذكريات الطفولة التي ظلت لسنوات تقلقني وتسلب مني الطمأنينة والأمان. لقد ذابت هذه الذكريات ولم أعد أحلم بالبيت الذي عشت فيه لسنوات طويلة).

بعد هذه الافتتاحية مباشرة يدخلنا تاركوفسكي في ذاكرته، حيث نرى أمه الشابة جالسة على سياج خشبي تنظر أمامها نحو الحقل الفسيح، منتظرة زوجها. من هذه النقطة تتوالى سلسلة التخيلات والتذكرات والأحلام، تتخلّلها إشارات معينة إلى واقع تاريخي لا يمكن إغفاله، وإلى اتصالات ثقافية تشكّل عاملاً مؤثراً في مسيرة تاركوفسكي وجيله.

إلى إرهاب المرحلة الستالينية في الثلاثينيات يشير تاركوفسكي بمشهد واحد لكنه يعبّر بقوة عن الخوف والإذلال الذي كان المواطن يشعره في ظل ذلك النظام. إنه المشهد الذي يصوّر الأم الشابة، العاملة في المطبعة الحكومية، وهي تهرع عبر ممرات المطبعة، قلقة وخائفة، لتتأكد من أنها لم ترتكب خطأ في تصحيح بروفات القراءة لإحدى الكراسات الرسمية، إذ أن مثل هذه الهفوة لا تفضي إلى فصلها فحسب بل ربما إلى اعتقالها ونفيها.

إلى الرباط الوثيق بالتراث الثقافي، بالأسلاف الروحيين العظام من الكتّاب والفنانين الروس، يشير تاركوفسكي عبر استخدام المقاطع الشعرية أو الأدبية لبوشكين، تشيخوف، دوستويفسكي. ليس الروس فحسب، بل التراث العالمي أيضاً من خلال دافنشي، روسو، باخ. "المرآة" تعكس هذه المؤثرات، هذه الصلة العميقة، على نحو مباشر.

عبر قصائد والده، يشير تاركوفسكي إلى الموجّه نحو الخلق الفني، إلى الجسر الذي يصل بين الأجيال ويؤكد التواصلية. شعر يستعيد الطفولة النائية، يحتفي بالأم والزوجة، يعكس التناظر ويجسّد التجربة الحية. غياب الأب يستعاض عنه بالشعر المقروء على لسانه، كما لو أنها إشارة اعتذار عن تغييبه من الصورة.

مع كل فيلم لتاركوفسكي يتكرر حضور عناصر الطبيعة الأساسية: الماء، النار، الريح. لكنه حضور طري في كل مرّة، متجدّد وآسر للغاية. هو أحياناً ينتزع هذه العناصر من مصادرها الطبيعية ويضفي عليها حضوراً سحرياً:

المياه تتدفق على الجدران، الأمطار تنهمر باستمرار خارج النوافذ، النيران تلتهم على نحو مخيف المخزن المجاور أو تومض بوهن في الظلمة. الريح تهبّ على نحو غير متوقع وفي مساحة محدودة.

ربما العناصر هنا مرئية من وجهة نظر الطفل التي تعبّر عن الرؤية السحرية للعالم، غير أن تاركوفسكي كثيراً ما يوجّه أنظارنا، في أفلامه، إلى ضرورة التوحّد بالطبيعة، إلى رؤيتها من منظار آخر أو بعين طافحة بالدهشة كما لو نراها للمرة الأولى. إنه يستعيد للطبيعة سحرها وغموضها وبهاءها.. هذه الخاصيات التي لم نعد نراها أو نلمسها، ذلك لأننا فقدنا الثقة بالطبيعة، وصرنا نسيء إليها وندمرها.

تاركوفسكي لا يهتم بتسجيل العالم الخارجي بل يتخطاه ليتحرى العمق، الما وراء، الجوهر الذي لا يفشي سرّه. الكاميرا لا ترصد أو تلاحظ بل تستكشف. إنها تسبر المنظر الطبيعي والوجه البشري. حركات الكاميرا تعزّز أحياناً خاصية الحلم سواء عبر اللقطات المصاحبة أو الحركة البطيئة أو تكوينات المشهد. الإيقاع بطئ بوجه عام. المشاهد سكونية. حركات الكاميرا متوانية: وكل مشهد يمتلك خاصية جمالية أخاذة، بتكويناته التشكيلية الرائعة.

التغيرات البطيئة للإضاءة، المرصودة من كاميرا ثابتة، تخلق تأثيراً هذيانياً على المتفرج الذي يجد نفسه مرغماً على النظر إلى الظاهرة العادية بطريقة مختلفة تماماً. أما التحوّل في النسق اللوني من الأسود والأبيض إلى الألوان، فإنه يسهم في إدراك العوالم المتباينة وحالات الوعي.

إن تاركوفسكي لا يشعر بالحاجة إلى استخدام الحيل الدرامية والمؤثرات البصرية الاستعراضية في التعبير عن الانتقالات الزمنية أو لخلق التجاورات بين ما هو واقعي وما هو متخيّل. إنه يعرض كل هذا ببساطة مدهشة وقدرة آسرة.. برؤية شاعر وخيال حالم.

تاركوفسكي يتحدث عن "المرآة"

عندما أنهيت تصوير فيلمي "المرآة", تلاشت فجأة ذكريات الطفولة التي ظلت لسنوات تقلقني وتسلب مني الطمأنينة. لقد ذابت هذه الذكريات ولم أعد أحلم بالبيت الذي عشت فيه قبل سنوات طويلة.

قبل أعوام من صنع الفيلم, كنت قد قررت أن أدوّن على الورق الذكريات التي عذبتني, ولم أكن أفكر وقتذاك في تحقيق فيلم عنها, بل أن أكتب رواية قصيرة عن النزوح في زمن الحرب, وكان الموجه العسكري في مدرستي هو محور الحبكة. لكنني وجدت الموضوع واهيا وغير قابل للتنامي في شكل روائي, لذا صرفت النظر عن كتابة الرواية. غير أن الحدث, والذي كان له تأثير عميق علي كطفل, استمر في تعذيبي وسكن في ذاكرتي حتى أصبح جزءا ثانويا من الفيلم.

حين أكملت المسودة الأولى من سيناريو "المرآة", وكان في الأصل بعنوان "يوم أبيض, أبيض"، أدركت أن التصور – سينمائياً - لم يكن واضحاً تماماً.. مجرد قطعة بسيطة من التذكر مليئة بالحزن والحنين إلى طفولتي, ولم أكن أريد هذا. شئ ما كان مفقودا من السيناريو, شيء حاسم. حتى في المرحلة التالية من كتابة السيناريو, لم تأت روح الفيلم لتقطن في الجسد. كنت واعيا بشكل حاد للحاجة إلى إيجاد فكرة رئيسية قادرة أن ترفعه فوق مستوى التذكر الغنائي.

ثم كتبت المسودة الثانية من السيناريو. أردت أن أرصع أجزاء الطفولة بشظايا من حوار مباشر مع أمي, أي أن أجاور إدراكين للماضي (إدراك الأم والراوي) واللذين قد يتشكلان للمتفرج في تفاعل تصورين مختلفين لذلك الماضي في ذاكرة شخصين قريبين جدا من بعضهما البعض لكن ينتسبان إلى جيلين مختلفين. كان يمكن لتلك الطريقة أن تقودنا إلى نتائج مثيرة للاهتمام، لا يمكن التنبوء بها.

مع ذلك, فأنا لست نادما على اضطراري, في ما بعد, إلى التخلي أيضا عن ذلك البناء, الذي هو مباشر جدا وغير مصقول, واستبدال كل المقابلات المقترحة مع الأم بمشاهد تمثيلية. في الواقع, لم أشعر أبدا بأن العناصر الممثلة والوثائقية توجد معا على نحو ديناميكي. إنها تتعارض وتتناقض مع بعضها البعض, ووضعها معا يمكن أن يكون ممارسة شكلية, عقلانية, في المونتاج: وحدة زائفة مؤسسة على مفاهيم عامة. العنصران كانا يحملان الكتل المركزة, المختلفة تماما, من المادة والأزمنة. من جهة هناك الزمن الحقيقي، الوثائقي، الصارم للمقابلات. من جهة أخرى, زمن الراوي في التذكر والذي يعاد خلقه من خلال التمثيل. هذا يذكرنا, إلى حد ما, بسينما الحقيقة وأعمال جان روش.. ولم أكن أريد ذلك على الإطلاق.

الانتقالات بين الزمن القصصي, الذاتي, والزمن الوثائقي الحقيقي, بدت لي – فجأة - غير مقنعة, متكلفة, ورتيبة.. أشبه بلعبة كرة الطاولة. قراري بعدم توليف فيلم مصور على مستويين زمنيين مختلفين, لا يعني أبدا أن المادة الممثلة والمادة الوثائقية لا يمكن أن يتحدا معا. في الواقع, أعتقد أن المشاهد الممثلة والأشرطة الإخبارية, في فيلم "المرآة", تشكلت معا على نحو طبيعي تماما, إلى حد أن البعض اعتقد بأن الأشرطة الإخبارية قد أعيد بناءها أو تنظيمها على نحو مقصود وبشكل مدروس لتعطي الانطباع بأنها أشرطة إخبارية حقيقية: الوثائقي أصبح جزءا عضويا من الفيلم.

هذه النتيجة كانت ناشئة من عثوري على مادة رائعة. كان يتعين عليّ أن أفحص بعناية آلاف الأمتار من الأشرطة السينمائية قبل العثور على سلسلة من اللقطات المتعاقبة للجيش السوفيتي وهو يعبر البحيرة.. وقد صعقتني مشاهدة ذلك. أبدا لم أصادف شيئا كهذا. عادة, يواجه المرء أفلاما ذات نوعية فقيرة, أو نتفاً قصيرة تسجل الحياة في الجيش يوما بعد يوم, أو أجزاء استعراضية تتسم بالكثير من التخطيط والقليل جدا من الصدق. كان اليأس قد تمكن مني عندما وقع بصري فجأة على شريط إخباري لم اسمع عنه من قبل.. ها هنا تسجيل لإحدى اللحظات الأكثر درامية في التاريخ السوفيتي في 1943. لقد كانت قطعة فذة واستثنائية. وكان صعبا علي أن أصدق بأن شريطا هائلا كهذا تم استخدامه خصيصا لتوثيق حدث واحد مرصود على نحو متواصل. كان جليا أن من صوّر الشريط هو مصور موهوب على نحو رائع. عندما ظهر أمامي على الشاشة هؤلاء الأفراد, كما لو كانوا قادمين من العدم, هؤلاء الذين حطمتهم تلك المحاولة اللا إنسانية, المخيفة, في تلك اللحظة التراجيدية من التاريخ, أدركت بأن على هذا الجزء أن يصبح المركز, الجوهر الفعلي, القلب, العصب, لهذا الفيلم الذي كان قد انطلق فحسب من ذكرياتي الغنائية الحميمة.

على الشاشة ظهرت صورة ذات قوة درامية غامرة.. وكانت تلك خاصة بي, ملكي.. كما لو كنت أنا الذي حمل ذلك العبء والوجع (هذا الجزء هو الذي اعترض عليه المسؤول عن شؤون السينما وطلب مني أن أحذفه من الفيلم).
كان المشهد يعبّر عن تلك المعاناة والمكابدة التي هي ثمن ما يعرف بالتقدم التاريخي, ويعبّر عن عدد لا يحصى من الضحايا الذين هم, منذ زمن سحيق, وقود لذلك التقدم. كان مستحيلا التصديق للحظة بأن معاناة كهذه هي فارغة ولا معنى لها. الصور كانت تتحدث عن الخلود, وقصائد والدي أرسيني تاركوفسكي كانت إكمالا لذلك الجزء لأنها منحت صوتاً للمعنى الجوهري فيه. كان للشريط الإخباري خاصيات جمالية مركبة حتى الذروة الاستثنائية ذات الكثافة العاطفية. ما إن انطبع ذلك على الفيلم, حتى كفت الحقيقة المدونة في هذا الحدث المتسلسل زمنيا بدقة أن تكون مثل الحياة. فجأة, أصبحت صورة للتضحية البطولية وثمن تلك التضحية.

الفيلم الوثائقي يحرك مشاعرك بحدة موجعة, ثاقبة, لأن في اللقطات هناك ببساطة أفراد.. أفراد يسحبون أنفسهم, حيث الركبة غائصة في الوحل, عبر مستنقع يمتد إلى ما وراء الأفق تحت سماء مستوية وضاربة إلى البياض. لا أحد منهم قد نجا. المنظور اللانهائي لهذه اللحظات الموثقة قد خلق تأثيراً قريباً من التنفيس. في ما بعد, علمت أن مصوّر الجيش الذي قام بتصوير الفيلم, باختراق استثنائي نحو الأحداث التي وقعت حوله, قد لقي مصرعه في ذلك اليوم نفسه.

حتى عندما صورنا أغلب مشاهد الفيلم ولم يبق لدينا سوى 400 متر من الفيلم, أي حوالي 13 دقيقة من الزمن السينمائي, شعرنا بأن الفيلم لم يحقق وجوده بعد. لقد حسمنا أحلام طفولة الراوي وصورناها, لكن حتى هذه لم تمنح الفيلم البنية الموحدة التي كنا نصبو إليها.
الفيلم في شكله الحالي لم تتشكل كينونته إلا بعد إدخال زوجة الراوي في بنية السرد. هي لم تكن مرسومة لا في التخطيط الأولي ولا في السيناريو. الممثلة مرجريتا تريكوفا كانت رائعة في دور الأم لكننا شعرنا طوال الوقت بأن الدور المكتوب لها في السيناريو لم يكن كافيا لإظهار, أو الاستفادة من, إمكانياتها الهائلة. عندئذ قررنا - أنا وشريكي الرائع الكسندر ميشارين - أن نكتب أجزاء إضافية وأن نسند لها دور الزوجة أيضا. بعد ذلك خطرت لنا فكرة نثر أجزاء من ماضي وحاضر الراوي في المونتاج.

السيناريو, بالنسبة لي, بناء حي, هش, متغير دائما. والفيلم لا يأخذ شكله النهائي إلا لحظة اكتمال العمل. السيناريو مجرد قاعدة, نقطة انطلاق, منها يبدأ الفنان في السبر والاستكشاف. و طوال الوقت الذي يستغرقه اشتغالي في فيلم ما, كان ينتابني باستمرار قلق شديد من جراء التفكير بأن العمل قد لا يثمر شيئا.

فيلم"المرآة" يقترح مثالا جليا للكيفية التي بها تصل بعض مبادئي في العمل, بخصوص السيناريو, الى استنتاجها المنطقي.
أشياء كثيرة لا يمكن توقعها وصياغتها وبناءها إلا أثناء التصوير. سيناريوهات أفلامي الأولى كانت مبنية بشكل واضح, لكن حين بدأنا العمل في" المرآة", قررنا على نحو متعمد ألا نجعل الفيلم يتحقق ويكتمل مسبقا قبل تصوير المادة. كان مهما بالنسبة لنا أن نرى كيف, وتحت أية شروط وحالات, يمكن للفيلم أن يتشكل بذاته: وذلك بالاعتماد على اللقطات, على الاتصال بالممثلين, ومن خلال بناء المواقع والطريقة التي بها يتكيف الفيلم مع الأماكن المختارة كمواقع.

لم نرسم تصميمات توجيهية للمشاهد أو الأجزاء بوصفها كينونات بصرية مكتملة ونهائية. لقد اشتغلنا على الإحساس الحاد بالجو والتقمص العاطفي مع الشخصيات, والذي اقتضى - في الموقع ذاته - تحققا تشكيلياً دقيقاً. لو رأيتُ شيئا قبل التصوير, لو تخيلتُ شيئا, فان هذا الشيء يصبح عندئذ الحالة الداخلية, والتوتر الداخلي المميز للمشاهد التي ينبغي تصويرها, والحالة السيكولوجية للشخصيات. إنني أذهب إلى الموقع من اجل أن أفهم بأية وسيلة يمكن التعبير عن تلك الحالة في الفيلم, وما إن افهمها حتى أشرع في تصويرها.

فيلم" المرآة" هو أيضا قصة البيت القديم الذي أمضى فيه الراوي طفولته. تلك المزرعة التي شهدت ولادته, وفيها عاش أبوه وأمه. ذلك المبنى, البيت, والذي مع مرور السنين تحول إلى أنقاض, استطعنا بناءه من جديد, بعثه كما كان, وذلك انطلاقا من الصور الفوتوغرافية القديمة, وعلى الأسس التي ظلت محافظة على بقائها. هكذا انتصب المبنى في الموقع ذاته وتماما كما كان قبل أربعين عاما. في ما بعد, عندما أخذنا أمي إلى هناك, إلى ذلك المكان وذلك البيت الذي أمضت فيه شبابها, تجاوز رد فعلها, لدى رؤيتها للبيت, كل توقعاتي. في لحظات قصيرة عادت سنوات إلى الوراء, إلى ماضيها, وعندئذ عرفت أننا نتحرك في الاتجاه الصحيح. لقد أيقظ البيت بداخلها تلك المشاعر التي ينوي الفيلم أن يعبّر عنها.

أمام البيت كان هناك حقل. أذكر أن الحنطة السوداء كانت تنمو بين البيت والطريق الذي يفضي إلى القرية المجاورة. الحقل كان يبدو جميلا جدا حين يزهر. تلك الزهور البيضاء, التي تعطي الانطباع بأن الحقل مكسو بالثلج, قد مكثت في ذاكرتي كإحدى التفاصيل المميزة والأساسية لطفولتي. لكن حين وصلنا لنقرر أين يمكننا أن نصور، لم تعد الحنطة السوداء موجودة على مدى البصر. لسنوات كانت المزرعة التعاونية تزرع الشوفان والبرسيم في الحقل. حين طلبنا منهم أن يزرعوا الحنطة السوداء من أجل الفيلم, أصروا على إقناعنا بأن الحنطة سوف لن تنبت هناك لأن التربة غير صالحة تماما. على الرغم من ذلك, قمنا باستئجار الحقل وزراعته بالحنطة على مسؤوليتنا الشخصية. العاملون في المزرعة التعاونية لم يستطيعوا إخفاء دهشتهم وذهولهم حين شاهدوا الحنطة تنمو. أما نحن فقد اعتبرنا ذلك النجاح فألاً حسناً, يظهر لنا شيئا عن الخاصية الاستثنائية لذاكرتنا، عن قدرتها على النفاذ إلى ما وراء الحجب التي يسدلها الزمن.. هذا بالضبط ما كان يتعين على الفيلم أن يتحدث عنه: تلك هي فكرته المنوية.

لا أعرف ماذا كان سيحدث للفيلم لو أن الحنطة لم تنبت. . سوف لن أنسى أبدا اللحظة التي بدأت تزهر.
عندما بدأت العمل في "المرآة" وجدت نفسي أتأمل, ليتضح لي بأنك إذا كنت جاداً بشأن عملك فان الفيلم عندئذ لن يكون مجرد المادة التالية في مسيرتك الفنية, بل هو الفعل الذي سوف يؤثر في حياتك كلها. في هذا الفيلم, وللمرة الأولى, قررت أن أوظف وسائل السينما للتحدث عن الأثير والنفيس بالنسبة لي, أن أفعل ذلك على نحو مباشر, بدون اللجوء إلى الحيل والخدع البصرية.

لقد واجهت صعوبة فائقة في إقناع الآخرين بأن, في الفيلم, ليس هناك معنى خفياً, سرياً.. لا شيء غير الرغبة في قول الحقيقة. غالبا ما تثير توكيداتي الريبة وحتى الخيبة. واضح أن البعض يريد شيئا أخر, إنهم يحتاجون إلى رموز سرية ومعان خفية, ذلك لأنهم لم يعتادوا على شعرية الصورة السينمائية. بدوري كنت أشعر بخيبة الأمل. مثل هذه الاستجابة صادرة من الطرف المعارض من الجمهور, أما عن زملائي السينمائيين, فقد شنوا هجوما عنيفا ضدي موجهين إلي تهمة التعالي والادعاء والرغبة في تحقيق فيلم عن ذاتي.

في النهاية لم ينقذنا سوى شيء واحد: الإيمان. بما أن عملنا مهم جدا بالنسبة لنا, فلابد أن يكون مهما بالنسبة للجمهور. الفيلم كان يهدف إلى إعادة بناء حياة الأفراد الذين أحببتهم كثيرا وعرفتهم جيدا. أردت أن أروي قصة الألم الذي عاناه رجل لأنه يشعر بأنه لا يستطيع أن يعوض عائلته مقابل كل ما منحوه وبذلوه له, يشعر بأنه لم يحبهم بدرجة كافية.. هذه الفكرة تعذبه وتعصر قلبه. ما إن تبدأ في التحدث عن أشياء أثيرة إلى نفسك, فإنك على الفور تشعر بالقلق حيال كيفية تفاعل الآخرين تجاه ما تقوله, وأنت ترغب في حماية هذه الأشياء, أن تدافع عنها ضد حالة اللافهم أو عدم الإدراك. كنا قلقين بشأن كيفية استقبال الجمهور للفيلم, لكن في الوقت نفسه كنا واثقين, في عناد شديد, بأن الآخرين سوف يصغون إلينا.

فيلم"المرآة" لم يكن محاولة للتحدث عن نفسي على الإطلاق. انه عن مشاعري تجاه الأفراد الذين أحببتهم, عن علاقتي بهم, إشفاقي الدائم عليهم, كذلك عن إحساسي بالواجب الذي لم أستطع تأديته.

الأجزاء التي فيها يتذكر الراوي, في لحظة بالغة من الأزمة, تسبب له وجعا حتى اللحظة الأخيرة.. تملؤه بالحزن والقلق.
في فيلمي"المرآة" أردت أن أجعل الناس يشعرون بأن باخ وبرجوليسي ورسالة بوشكين والجنود المرغمين على عبور بحيرة سيفاش، أيضا الأحداث المحلية والعائلية الحميمة، أن يشعروا بأن كل هذه الأشياء هي، من بعض النواحي، هامة بصورة متساوية مثلما هي التجربة الإنسانية. في ما يتصل بتجربة الفرد الروحية فإن ما حدث له بالأمس قد يكون له الدرجة نفسها من الدلالة والأهمية تماما مثلما حدث للبشرية قبل مئة سنة.

في كل أفلامي كانت ثيمة الجذور ذات أهمية كبيرة: ارتباطات بمنزل العائلة، الطفولة، الوطن، العالم. كنت دائماً أشعر بأن من المهم أن أبرهن بأنني أنتمي إلى تقاليد معينة، إلى ثقافة خاصة، إلى دائرة من الناس أو الأفكار.
حتى في فيلم"المرآة"، الذي هو عن مشاعر إنسانية ثابتة، أبدية، وعميقة.. هذه المشاعر كانت مصدر ارتباك وعدم فهم بالنسبة للبطل الذي لم يستطع أن يدرك لماذا هو محكوم بأن يعاني ويتعذب على الدوام بسببها، إن يعاني بسبب حبه وعاطفته.
بطل "المرآة"رجل ضعيف، أناني، غير قادر على أن يحب حتى أولئك الأقرب والأعز إلى نفسه، الذين لا يتطلعون إلى شيء مقابل الحب، لهذا السبب يشعر بعذاب النفس في أيامه الأخيرة، حيث يدرك بأنه لا يملك أي وسيلة لإيفاء الدين الذي يدين به للحياة.