أمين صالح
(البحرين)

لا أحد أجلس معه ليلا

( ليلة أمس، حلمت أننا كنا معا نبحث عن منبع النهر،
و كان يدلنا رجل عجوز. و كلما مشينا، رأينا النهر
يضيق و يتفرّع إلى ألف مجرى صغير. فجأة، عاليا،
تحت قمم مغطاة بالثلج، أشار العجوز إلى قطعة أرض
مكسوة بالأعشاب البريّة في مكان ظليل و رطب.
كل ورقة عشب كانت تحمل قطرات دبقة من الندى،
و التي تتساقط، بين حين و آخر، على الأرض الطرية.
قال العجوز:" هذا المرج هو منبع النهر".
و أنت مددت يدك و لمست العشب الرطب، و عندما
رفعت يدك، تدحرجت بضع قطرات و سقطت على
الأرض أشبه بدموع )

" ثلاثية المرج الباكي"Trilogy the weeping meadow ، التحفة السينمائية الأخيرة التي قدمها المخرج اليوناني العظيم ثيو أنجيلوبولوس في العام 2004 ، هي تجربة سينمائية استثنائية تشكل، مع أفلامه السابقة (الأبد ويوم واحد، تحديقة يوليسيس،خطوة اللقلق المعلقة، الممثلون الجوالون.. وغيرها من الأعمال الرائعة) عالما خاصا و فريدا و متماسكا - شكلا ومضمونا- يتسم بالحس الملحمي و السبر العميق للعلاقات الإنسانية ضمن أحداث تاريخية تتخذ من الواقع اليوناني ركيزة أساسية لها. هذا العالم، عبر رؤى أنجيلوبولوس النافذة و جماليته البصرية الآسرة، يستدعي التأمل لا الفرجة الكسولة، أن تشعر بذاتك - المغمورة بالصور المدهشة- مشدودة إلى الشاشة كما في السحر، لكن دون أن تسلبك القدرة على التأمل و التفاعل و الاستمتاع أيضا لكن على المستوى الشعري و الجمالي الراقي، بعيدا عن الانفعال الخارجي الطارئ. لكن مثل هذه الأعمال "الفنية"، غير الرائجة تجاريا، لا تجذب اهتمام المتفرج الذي لا يرغب في مشاهدة أفلام صعبة، تأملية، "مرهقة"، لا يستطيع أن يتناغم معها لأنها تصدم ذوقه و ميوله و وعيه و حساسيته، و تتعارض مع كل ما اعتاد عليه من فرط إدمانه على أفلام استهلاكية، إثارة، لا تخاطب إلا غرائزه.
هنا، و لمدة ثلاث ساعات تقريبا، نعيش ملحمة أخاذة عن تراجيديا الوضع الإنساني من خلال عائلة يونانية مؤلفة من: سبيروس، زوجته، إبنهما أليكسيس، و طفلة يتيمة تبناها سبيروس تدعى إيليني. هذه العائلة، مع عائلات يونانية أخرى، تنزح في العام 1919 من روسيا، حيث كانت تقيم، هربا من الثورة البلشفية، عائدة إلى اليونان لتستقر في أرض قرب النهر، حيث يبنون قرية.
بعد سنوات، تعود إيليني إلى القرية بعد أن أثمرت علاقتها بأليكسيس ولدين توأمين (يورجي و ياني) تركتهما في منطقة أخرى عند عائلة قبلت أن تتبناهما.

سبيروس، الذي حقق مكاسب مادية و الذي يشعر بالوحدة بعد وفاة زوجته، يقع في هوى إيليني و يعرض عليها الزواج، غير أنها، أثناء الاحتفال بالعرس، تهرب مع اليكسيس، و بمساعدة فرقة من الموسيقيين، يسافران إلى ثيسالونيك. و يتضح أن أليكسيس لديه موهبة في العزف على الأكورديون، لكن الفرقة تجد صعوبة في الحصول على عمل و كسب الرزق. وهما لا يدركان بأن سبيروس، المتعطش للانتقام منهما، يطاردهما من مكان إلى آخر. في غضون ذلك، يجتمع شمل الاثنين مع إبنيهما التوأمين.
في 1936 ،ينضم الزوجان إلى الجبهة الشعبية اليسارية. و أثناء حفلة راقصة يظهر سبيروس لكنه يموت بنوبة قلبية. الجبهة الشعبية تنسحق والفاشيون يبدأون في السيطرة على زمام الأمور. أليكسيس يقبل عرضا من قائد فرقة موسيقية بالانضمام إليهم في جولة إلى أمريكا. وحيدة مع ابنيها، تتعرض إيليني للاعتقال لأسباب سياسية ( إيواء شخص من المقاومة) و تقضي سنوات الحرب في السجن.
في 1946 يطلق سراح إيليني، و تعلم بأن زوجها، الذي التحق بالجيش الأمريكي للحصول على الجنسية و لكي يتمكن من إدخال عائلته إلى أمريكا، قد لقي مصرعه في الأيام الأخيرة من الحرب. إيليني تجد المأوى عند عدد من النسوة القرويات، و هناك – قي العام 1949 - تكتشف مقتل ابنيها بعد أن انضم كل منهما إلى جبهة معادية للأخرى في الحرب الأهلية.
في المشهد الأخير من الفيلم، نرى إيليني جالسة قرب جثة ابنها يورجي تندب قائلة:" يورجي يا بني، يا فتاي، فتاي العذب..استيقظ يا ولدي، انهض. ليس لدي أحد بعد الآن.. لا أحد أفكر فيه. لا أحد أجلس معه ليلا. لا أحد أحبه. أنت كنت هو. أنت أنت. أنت هو." ثم تطلق صيحة ألم و فجيعة.
إن إيليني تعيش في عوالم لا توفر لها الأمان و الراحة و الاستقرار ، لذا نراها على الدوام في حالة رحيل، هجرة، هروب. هي تأتي إلى اليونان يتيمة بعد أن فقدت والديها أثناء الثورة الروسية، و من القرية يتم إبعادها إلى مكان آخر تلد فيه بعد اكتشاف علاقتها العاطفية مع ابن العائلة التي تبنتها و آوتها، ثم تعود لتعيش في قرية سوف تهرب منها بعد محاولة إرغامها على الزواج من رب العائلة.. و في رحلتها الموجعة تفقد حبيبها، حريتها، و أخيرا ولديها.
إن العالم الذي يخلقه ثيو أنجيلوبولوس، بالتعاون مع كاتب السيناريو الإيطالي الكبير تونينو جويرا ( الذي شاركه في كتابة أغلب أفلامه) هو شبيه بعالم التراجيديا الإغريقية حيث القدر يرسم للمصائر دروبها الشائكة، و حيث حادثة صغيرة تجر وراءها سلسلة من الحوادث الرهيبة و من الكوارث و المحن. و كما في التراجيديا الإغريقية، نحن لا نرى الأحداث الرئيسية في القصة: الهرب من روسيا، الولادة، تجارب حبيب إيليني في أمريكا، الحرب العالمية، الحرب الأهلية، مقتل الأبناء.. بل نسمع عن كل هذا من خلال الحوار و المونولوجات الداخلية.
إن أصداء ارتباط أنجيلوبولوس بالميثولوجيا الإغريقية ظاهرة و واضحة هنا كما في أغلب أعماله السابقة. لكن بخلاف أفلامه السابقة، تكون المرأة هنا في مركز الأحداث و في بؤرة المنظور. و الجدير بالذكر أن اسم البطلة إيليني يعني اليونان وفق الجذر أو الأصل اللغوي للكلمة الإغريقية.
يتميّز أنجيلوبولوس، أسلوبيا, باللقطات الطويلة، المديدة، التي تستغرق دقائق طويلة، و التي تدعونا إلى التأمل. و عبر هذه اللقطات، نختبر جمال الطبيعة، و نشهد حضور التاريخ و هو يمر و يترك آثاره و علاماته.
" ثلاثية المرج الباكي" هو الفيلم الأول من ثلاثية يزمع المخرج الكبير أن ينجزها، والتي تحكي عن تاريخ اليونان من السنوات الأولى للقرن العشرين و حتى وقتنا الحاضر، ليس من وجهة نظر فرد واحد بل عبر تجربة جماعية تطرق إليها في أفلامه الأولى.

****

بالماء تولد القرية و به تموت

بعد حديثنا عن الفيلم اليوناني " ثلاثية المرج الباكي"، ننشر هنا ترجمة لحديث مخرجه ثيو أنجيلوبولوس عن مظاهر و عناصر معينة من الفيلم، نقلا عن مجلة sight & sound – عدد فبراير 2005 :

هروب المرأة ليلة الزفاف:
ثوب الزفاف شيء تراه في مواضع مختلفة من الفيلم. إنه يظهر ثانية في مشهد تال عندما ترتديه إيليني، و هي تشعر باليأس و بأنها مهجورة، ثم تأخذ حقيبتها الصغيرة لتترك حبيبها أليكسيس. في المرة الثالثة يكون الثوب معلقا فحسب على أنقاض البيت الذي دمرته الحرب.
في عدد من أفلامي هناك أناس يتزوجون و هناك ثياب زفاف. و تستطيع أن تقول بأنه أحد موضوعاتي أو عناصري الاعتيادية و المألوفة، مثل المظلات السوداء، مثل المعاطف الواقية من المطر، مثل المطر و الضباب و الرحلة.

سبيروس في يأس:
إيليني، ضمن نطاق معين، تكون أم أليكسيس و حبيبته في آن، ذلك لأنها تزوجت أباه سبيروس. إنها علاقة أوديبية. نحن نكتشف أمر الزواج من خلال الحوار فقط. بعد موت زوجته، سبيروس يشعر بالوحدة و يقع في غرام إيليني، و هو يتزوجها ضد مشيئتها، و حتى دون أن يطلب رأيها. في تلك الأيام، كان رب العائلة مخولا بأن يفعل ما يشاء و ينال ما يريد، أما النساء فلم يمتلكن صوتا و لم يسمح لهن بالتعبير عن أي رأي، لذا فإن عملية هروب إيليني من زوجها مع أليكسيس هي حركة جريئة في مسيرة التحرر.

قطار يمر:
كل قطار يصل، يجلب معه مرورا جديدا للزمن. هكذا تتجلى و تنمو قصصي. بالنسبة لي، صفير قطار يعني دعوة للسفر. إنها حالة موسيقية تقريبا. لا أعتقد بأني قادر أن أعطي تفسيرا منطقيا أكثر لأنني، إن فعلت ذلك، فسوف أفقد صوت القطار.

الموسيقيون الجوالون
أحب الموسيقيين الجوالين. العديد منهم جاءوا إلى اليونان من دول البلقان، من الرومانيين و الألبان و الغجر.. جاءوا مع آلاتهم الموسيقية: الأكورديون والكمان. إنهم كائنات مجنونة، و شاعرية جدا. يتكوّن لديك إحساس بأنهم لا يفعلون ذلك من أجل كسب الرزق فقط بل لأنها طريقتهم في الحياة. و ذلك أمر رائع.

البحيرة:
إنها أيضا قصة عن الماء. إننا نبدأ من النهر في بداية الفيلم، مع من سيصبحان حبيبين في المستقبل، و هما الآن صغيران يحاولان أن يعثرا على منبع النهر. من أين يجيء الماء؟ من أين تجيء الحياة؟ الماء هو الحياة.
القرويون حول بحيرة كركيني، حيث صورنا، و الذين يقتاتون من طريق النهر القادم من بلغاريا، جميعهم يعيشون على صيد الأسماك. لمدة ثلاثة شهور، في فترة الشتاء، تفرغ البحيرة نفسها و تصبح سهلا واسعا خاليا من الشجر. أثناء انحسار المياه، قمنا ببناء القرية من جديد، مشيدين مئة بيت من مواد مأخوذة من المنازل المهجورة. و ما إن انتهينا من ذلك حتى باشرنا التصوير على الفور. بعد ذلك انتظرنا زوال الشتاء. و في بداية شهر مارس، غطت المياه الأراضي كلها و تكونت البحيرة من جديد، ثم صورنا مشاهد الفيضان. و كان علينا أن ننتظر فترة أطول، أي حتى السنة التالية، لكي ننفذ المشهد الختامي حيث يؤدي الفيضان إلى تدمير القرية كلها و لا ينجو إلا بيت واحد فقط. هكذا، بالماء تولد القرية و بالماء تموت.

الجنازة:
الجنازة أيضا رحيل، سفر. الأب، سبيروس، ميت و القرية بأسرها تشارك في جنازته. حتى في يومنا هذا، عندما يموت شخص ما، القرية كلها تشارك في توديعه إلى مثواه الأخير.
الفكرة خطرت لي من شيء قد حدث فعلا. تعرّض قارب للغرق في البحر وكان هناك عددا من الغرقى. قارب آخر جاء شاقا المياه و الجثث على متنه، يرافقها رجال بملابس سوداء، و هؤلاء هم الذين غطسوا تحت الحطام في محاولة لإنقاذهم و انتشال الجثث. على الشاطئ كان كل أهالي الجزيرة واقفين ينتظرون.

الشجرة:
النعاج المذبوحة المتدلية من أغصان الشجرة، و نوافذ البيت المجاور المحطمة بالحجارة، هي طريقة القرويين في إفهام أليكسيس و إيليني بأنهما سوف لن يرثا أي شيء من تركة سبيروس لأنهما تجاسرا على مخالفة الوضع أو النظام المؤسس. النعاج هي المصدر الوحيد لكسب العيش و بالتالي فإن نحر أعناق قطيع سبيروس هو تعبير عن ذروة العداء.
الصورة، بالطبع، سوريالية.. و في القرى، تحدث أحيانا أمور تبدو سوريالية لكنها في الواقع حقيقية جدا. مثل هذه الصورة شاهدتها بنفسي ، فقد رأيت نعجة واحدة تتدلى من الشجرة بينما الدم يتقطر من حلقها المنحور.

السفر إلى أمريكا:
كلما أراد رجل أن يسافر بعيدا، تعطيه المرأة شيئا ما كتذكار. في بداية القرن الفائت، كانت النسوة يمنحن الرجال المغادرين إلى أمريكا شيئا قمن بحياكته أو أيقونة تمثل العذراء أو شيئا شخصيا. لقد اخترت أن تهدي إيليني حبيبها، قبل رحيله إلى أمريكا، نسيجا من الصوف.. و هي بالطبع إشارة إلى بنيلوبي في " الأوديسة".