اسكندر حبش
(لبنان)
كتابان جديدان صدرا للشاعر البولندي جيسواف ميّوش، مؤخرا، في ترجمة فرنسية، الأول بعنوان (كتاب الألفباء) (عن منشورات فايار) والثاني (الكلب الخشبي) (عن منشورات ألف ليلة وليلة). هنا كلمة حولهما.
واجه الشاعر البولندي جيسواف ميّوش (95 عاما، من مواليد ليتوانيا)، وبشكل مباشر، أكبر أزمتين في القرن العشرين: انزياح الإيديولوجيات السياسية وفقدان نقاط الاستدلال الروحية، في ضوضاء غرب مهدد بالعدمية. في مواجهة هذا الاضطراب التاريخي والأنتولوجي (الأخلاقي)، ناضل صاحب كتاب (الفكر الأسير) (الصادر العام 1935، الذي يعتبر كتابا رائدا حول خيانة المثقفين تحت الحكم الستاليني) بسلاح غير متواز، بكلماته كشاعر ومفكر. لكن، وفي قلب قدره الرمزي هذا، نجد أيضا كل جروح المنفى وندوبه التي لم تندمل. فبعد أن أُبعد قسرا عن ليتوانيا، مسقط رأسه، ومن ثم عن فرصوفيا الشيوعية، عاش ما يقارب عشر سنوات في فرنسا قبل أن يجد ملجأه في (بيركلي)، في بداية الستينيات: فترة أميركية طويلة أغلقها العام 1995، حين قرر أن يعود الى بولندا ليقيم في (كراكوفيا)، وليبدأ من هناك نقده للغرب الذي يعاقب دول أوروبا الشرقية، بعد انهيار الجدار.
يبدو عمل ميّوش عملا هائلا وكبيرا، وفي تساؤل دائم. البرهان على ذلك، (كتاب الألفباء) الذي يفتت فيه الكاتب كلمات قاموسه الحميمي، الذي يشكل أيضا متحفا متخيلا، أو ربما سيرة ذاتية مموهة وموسوعة متجولة، وأحيانا مناسبة لتصفية حسابات ما، مع سارتر ودو بوفوار على سبيل المثال.
الكائن الأوروبي
(كيف يستطيع المرء أن يكون أوروبيا وهو ينحدر من أوروبا أخرى؟ من أين يأتي سر هذا الشرّ المعشش في التاريخ؟) عبر سؤاليه هذين، لا يبدو جيسواف ميوش أنه، فقط، واحد من كبار شعراء العالم في القرن العشرين (وحائز نوبل للآداب العام 1980 )، بل إنه يفرض نفسه أيضا كواحد من ضمائر الوعي في زمننا هذا. وما الكتابان اللذان جاءا بأسلوب المقاطع (الذي يذكرنا بالأسلوب العزيز على قلب رولان بارت) إلا شاهد على ذلك، وهو يستعيد فيهما بعض (الثيمات المُعَذِبة) التي تجتاز أعماله كلها، من أولها إلى أخرها، والتي نجدها مسكونة بمأساة القرن العشرين.
يحذرنا ميوش، الذي لم يتوقف عن تأمل التاريخ الأوروبي بصفته أكثر المغامرات حميمية، بالقول: (يمارس زمني ضغطه عليّ بمثابة أصوات ووجوه متعددة). لنجد في النهاية، أن (كتاب الألفباء) الذي نلتقي فيه بالعديد من الوجوه الأدبية البولندية، مثل (غرومبوفيتش) و(برونو شولتتز) لربما كُتِب (بدلا من) مذكرات أو من بحث عن الأزمنة المعاصرة. أما في ما يخص النصوص السردية القصيرة التي تشكل كتاب (الكلب الخشبي)، التي تتعاقب فيه التأملات حول الشيخوخة والبحيرات، حول الشعر والقطط، حول مزامير داوود التي ترجمها الى اللغة البولندية من العبرية بعد أن تعلمها وهو في الستين من عمره، يقترح علينا الكاتب أن هذه الموضوعات تستطيع أن تكون للقارئ المتعب (مراكب مليئة بالتمييز، المتعبة بالحيوات المروية ببلبلة).
(قلب الظلمات)
ماذا يريد أن يقول لنا هذا المثقف الشرقي (نسبة إلى أوروبا الشرقية)، الذي حدد في خطاب تسلمه جائزة نوبل العام 1980: (هناك، من دون أدنى شك، أوروبتان، وقد أعطي لنا، نحن سكان أوروبا الثانية، أن نتسرب إلى قلب ظلمات القرن العشرين) ( يستعيد ميوش هنا، في خطابه، عنوان رواية الكاتب البريطاني، البولندي الأصل، جوزف كونراد الشهيرة).
من هذه الرحلة يأتينا بالتأكيد صوت من أكثر النبرات حدة، والأقرب من الأسئلة الميتافيزيقية. كذلك نجد فيه، هذا الاكتشاف الفلسفي المتواضع، لكن الأساسي، والذي يكمن في معرفة أن لا شيء أهم من (الاحترام) الذي يحفظ الانسان من التدمير الداخلي ومن الخضوع للعنف.
إزاء ذلك كله، نجد، في هذه الصفحات، حضور (فيلنو) الجارف (فيلنيوس باللتوانية)، وهي المدينة التي كانت كوزموبوليتية ذات يوم، حين كان شابا. ان الرجل يجسد بشكل مدهش روح المقاومة ضد كل أشكال التوتاليتاريات، كما يعبر عن اشمئزازه من السوق: (لماذا علينا، في نهاية الأمر، أن نحب المجتمعات المؤسسة على الخوف، أكان الخوف من البؤس أو الخوف من البوليس السياسي؟) من هنا، وفي حذوه حذو كافكا أو فيتكيفيتش، نجد الشاعر يرفع بدوره الصراع بين الكائن الفرد والسلطات غير الشخصانية، ليجعله تيمة كبرى في أدب أوروبا الوسطى. من هنا تظهر هذه الفكرة التي تشغله وتؤرقه، في الحكاية التي يرويها في (كتاب الألفباء) بخصوص أحد العروض الأولى لمسرحية (في انتظار غودو) الذي شاهدها برفقة الفيلسوف لوسيان غولدمان. يقول:
(كان الجمهور الباريسي يتلوى من الضحك أمام المشهد الذي يعذب فيه بوزو سجينه لوكي) في حين (ان هذه الضحكات تغضب غولدمان الذي يجد أن فنا من هذا النوع لا يستطيع إلا أن يقود إلى مخيمات الإبادة). كانا يعرفان جيدا أن بيكيت هو على النقيض من ذلك.
لا نقع هنا، في الكتاب، على كل ما يميز شخصا من أوروبا الشرقية أو من أوروبا الغربية: ان هذين المنفيين يصلان من هذه البلاد التي حين تفرض فكرة ان الوجود الفردي مؤسس بشكل قليل نجد ان القناعة تصبح في عدم وجود أي فرق بين مليون شخص أقل أو مليون أكثر.
هذه الأعمال المتأخرة تظهر كم أن الديني يلتقي عند ميوش، وبشكل متماسك، مع استعداد الكائن في مواجهة اللامبالاة. هل من جانب إلهي في ذلك؟ ان لم يكن كذلك: (ما الذي يفسر أننا نكتب)، يقول قبل أن يخلص مؤكدا على ذلك : (في احتجاجنا الأخلاقي على نظام الكون، في سؤالنا حول أصول صرخة الرعب هذه، يبدأ الدفاع عن مكانة الانسان الخاصة). من هنا التزام ميوش بحرب البوسنة، التي يصفها منذ البداية بالقول (حماقة الغرب). ليضيف في طريقه، غامزا من قناة فرنسا، ان (قصيدة الاحتجاج التي كتبتها بينما كانت أوروبا تتأمل المذابح وهي مكتوفة اليدين، حملت لي رسائل فرنسية مغتاظة). هل في إشارته هذه، إحساس دفين ضد البلد الذي لم يدعمه في الخمسينيات؟ ربما كان علينا نحن أن نعير انتباها إلى هذا الصوت الأكثر نقدا والأعمق الذي يأتينا من هذه القارة التي لا تزال مبتلة بالثقافة الأوروبية والتي لا تزال يمثلها هذا الفكر (المنشق). هذا الفكر ذو الرنين المتناقض لا يزال أكثر راهنية عما من قبل.