نقطة استدلال في قارة مفقودة

اسكندر حبش
(لبنان)

جيسواف ميووشلا شك أن غياب الشاعر البولندي جيسواف ميووش (نوبل للآداب العام 1980، وأحد الممثلين الرموز للانشقاق المعادي للشيوعية ) يحرمنا، ليس فقط من واحد من كبار شعراء القرن العشرين، بل ربما (من أكبرهم)، مثلما كان يصفه زميله الشاعر الروسي يوسف برودسكي، الحائز هو الآخر جائزة نوبل للآداب العام 1987. فالشاعر البولندي الذي رحل نهار السبت الماضي عن عمر 93 عاما، في منزله بمدينة كراكوفيا، التي عاد إليها بعد انهيار الحكم الشمولي فيها يفرض نفسه أيضا واحدا من كبار مؤسسي الوعي الأخلاقي في زمننا الحديث هذا. لدرجة أن ليخ فاونيسا، قائد حركة التضامن والرئيس البولندي الأسبق قال عن أعماله أنها ساهمت، بشكل من الأشكال، في انهيار النسق الشيوعي.

سيبقى اسم ميووش مرتبطا ب(الفكر الأسير) (1953)، وهو بحث مهم وأساسي في فهم (خيانة المثقفين) في أوروبا الشرقية، وهو الكتاب الذي أصبح أحد المراجع الكلاسيكية في الفكر المضاد للتوتاليتارية. كذلك، نجد أن ميووش، هو أيضا (أوروبا الأخرى) (1963)، مثلما جاء في كتابه الذي يحمل هذا العنوان والذي يشكل تأملا فاتنا وسيرة ذاتية تحركها (الرغبة في تعريف الأوروبيين بأوروبا). غالبا ما كان يعود هذا الكاتب، (المنفي)، في أحاديثه الصحافية ومقالاته، إلى هذا (الطموح الأليم). بيد أنه طموح أخذ معنى خاصا جدا، غداة (أوروبا الموسعة): (على كل شخص معني أن لا يشعر بالعزاء إزاء هذا التقسيم)، هذا ما ردده دائما، رائد المنشقين الأوروبيين الشرقيين. إذ كيف يمكن لنا أن نكون أوروبيين آتين من أوروبا أخرى؟ آتين من الذين أعتبرهم الأوروبيون الغربيون، دائما، (الأهل الفقراء)؟ أمام هذا التساؤل الواخز الذي أرّق الكاتب، كان ميووش يردد بالقول: (إن غرابة المنطقة التي أجيء منها واستحالة المكان الذي أعيش فيه، في عدم استطاعتي نقل تاريخ بلادي، هو هوس حياتي كمهاجر). هذا الهوس تحول إلى فرح من دون شك في الأشهر الأخيرة من حياته، إذ تحقق حلمه الأبدي في رؤية أوروبا الموسعة التي ضمت مؤخرا كلا من بولندا وليتوانيا، وهو الحلم الذي لم يتوقف عن الكتابة عنه، وعن مناقشة الجميع به.
ألم تستعر مجلة (أوروبا الأخرى) اسمها، حين بدأت بالصدور العام 1974، من ميووش نفسه، ألم تقل في افتتاحيتها، أنها مجلة ل(أطفال أوروبا)، وهو بدوره عنوان أحد دواوين الشاعر البولندي الكبير؟
لا شك أبدا، أن مسار جيسواف ميووش، الذي كان يعتبره، هو نفسه، كمتأمل لُفظ في إعصار التاريخ، يشكل إحدى أهم أشكال السير الذاتية في القرن العشرين. إذ أنه ينحدر من تخوم أوروبا التي جنى عليها القدر. ولد ميووش في 30 حزيران من العام 1911 في (فيلنو) ((فيلنيوس) مثلما يسميها الليتوانيون، و(فيلنا) كما يطلق عليها الروس) لعائلة من النبلاء الصغار البولنديين الذين حط بهم القدر، فوالده، الكسندر ميووش، كان مهندسا، ووالدته فيرونيكا كونات، يشهد الجميع بسعة ثقافتها.

المنفى الأول

جيسواف ميووشفيما مضى كانت هذه المدينة مدينة كوسموبوليتية بامتياز ويطلق عليها يهود المنطقة (أورشليم الشمال)، من هنا شكلت ذكرى هذه المدينة مكانة أساس في عمل الكاتب وأدبه، مثلما تشهد على ذلك روايته (على ضفاف نهر الإيسا)، إذ تبدو السنوات التي يستدعيها في كتابه، سنوات مخضبة بسر هذا المجتمع القروي التقليدي، الذي كان لا يزال قريبا من (باغانية) (وثنية، بالمعنى الذي استعمله الشاعر البرتغالي فرناندو بيسووا) القرن التاسع عشر المليء بالأمراء والشخصيات الكبيرة. لكنها أيضا، أي المدينة، شكلت فيما بعد جزءا من الأمبراطورية الروسية. في العام 1918، صارت تحت السيادة البولندية قبل أن يحتلها النازيون ومن ثم يلتهمها الاتحاد السوفياتي. في هذه المدينة، تلقى ميووش، ذو التربية الكاثوليكية ( ولا عجب في ذلك في بلد مثل بولندا حيث لا تزال البصمة الدينية موجودة حتى أيامنا هذه) علومه الابتدائية والجامعية حيث درس الحقوق، إلا أنه أبقى على صلاته العاصفة مع الدين الذي يشكل (تيمة) قاطعة أخرى من تيمات الكتابة عنده وان كانت مراجعه التي اختارها،في هذه الحقبة، جعلت منه واحدا من (الهراطقة).
في العام 1937، جاء منفاه الأول: (فرصوفيا). هناك أحس هذا الشاب، الذي كان يكره البورجوازية، بأنه قريب من اليسار الإنسانوي، ليس لقناعته بالماركسية بل لنفوره من (القوميين الظلاميين). على المستوى الأدبي، جاء ديوانه (شتاءات ثلاثة) (1936) ليجعل منه شاعرا حاضرا في المشهد الأدبي البولندي كما على رأس (تيار) أدبي عرف باسم (التيار الكوارثي)، الذي هيمنت عليه أفكار ومشاعر أن كارثة ما ستحل بأوروبا بتفككها. ثمة قصيدة في كتابه هذا تستدعي وبشكل نذيري (محرقة جثث الحجارة البيضاء، حيث يتصاعد الدخان من أعشاش الدبابير المسمومة). في كتاب (أرض أورلو) (1985)، وهو كتاب يومياته الثقافية، يعود ميووش، الذي كان لا يزال يشعر بالجرح الدائم الذي سببته قساوة عصره، ليقول: (بالأمس كنت كوارثيا، وبقيت هكذا، بشكل من الأشكال، طيلة عمري).
هذه الكارثة التي أشار إليها في مطلع حياته، تحققت في العام 1939: قام كل من هتلر وستالين بتقسيم بولندا. كان ميووش يومها في الثامنة والعشرين من عمره. في فرصوفيا، مدينته الجديدة المحتلة، شارك في الحياة الأدبية التي كانت تدور في الخفاء. مدينة شاهدة على قيام (الغيتو) كما على تصفيته العام 1943. كتب ميووش عن ذلك فيما بعد:(يكفيني أنني كنت حاضرا فوق هذه الأرض لحظة الهولوكوست كي أعتبر نفسي شاهدا، أي مذنبا). في تلك الفترة، وكانت النيران لا تزال مرتفعة، كتب قصيدة (مخيم النيران) التي يعدها النقاد إحدى أجمل القصائد المكتوبة عن اللامبالاة الإنسانية. إنها قصيدة عن شعب، شعبه، عن تصفية اليهود فوق ترابه. تستدعي القصيدة أيضا إحدى الساحات التي كانت تقع وراء جدار الغيتو حيث كان يجيء أهل فرصوفيا لتمضية الوقت.

السماء المطمئنة

وبينما كانت الثورة المسلحة تسحق ( وهي الثورة التي احتفل البولنديون منذ أيام بذكراها الستين) كتب ميووش:

(في فرصوفيا، بالقرب من مضمار ألعاب
في مساء ربيعي جميل
حيث أنغام موسيقية مرحة
تأتي رشقات الرصاص من الغيتو
لتضيع بين الأنغام
ويطير الزوجان
يرميان عاليا في السماء المطمئنة
رياح المنازل المحروقة
كانت تحمل البقايا المعتمة
لتمسك بين هواء الرماد
أولئك الذاهبين إلى المضمار
وتطير أثواب الفتيات
ويضحك الناس بسعادة
في أحد فرصوفيا الجميل هذا...)

تجيء نهاية الحرب. يقرر ميووش، مثله مثل العديد من مثقفي اليسار، أن يخدم النظام الجديد، فيدخل إلى السلك الديبلوماسي. يتم تعيينه ملحقا ثقافيا في نيويورك ومن ثم في واشنطن. ومع ذلك، كان الكاتب فريسة العديد من الأزمات الداخلية العنيفة. يشهد على ذلك كتابه (رسالة أخلاقية) (1948)، الذي شكل قرار اتهام حقيقي ضد الواقعية الاشتراكية. يتم نقله إلى باريس، فيتردد لفترة على حفلات الاستقبال حيث يتعرف هناك على إليوار وأراغون. إلا أن شيئا يجعله يشعر أنه لم يعد يحتمل (بولندا الشعبية) فيطلب اللجوء السياسي إلى فرنسا في الأول من شباط العام 1951.
بعد اللجوء، عرف ميووش عقدا زمنيا صعبا: فالمهاجر الشرقي الهارب من جزر السعادة الاشتراكية كان يظهر كشخص مشتبه بأمره. عُدّ يمينيا بسبب عدم مواقفه المعلنة تجاه الرأسمالية، كذلك عدّ يساريا بسبب مواقفه المعادية للستالينية. في تلك الفترة جاء ألبير كامو ليكون الوحيد الذي مد له يد المساعدة. وليقيم علاقات دقيقة مع (المؤتمر من أجل حرية الثقافة)، بينما أتاحت له مجلة (كولتورا) (الثقافة) وهي مجلة المنفى البولندية التي كانت تصدر في باريس في مكان يركن إليه وكأنه مرفأ يعود إليه من رحلاته المتعددة. لقد عشق مدينة الأنوار التي زارها للمرة الأولى العام 1931 حيث التقى فيها بقريبه البعيد الشاعر أوسكار ل. دو ميووش، الشاعر الفرنسي ذو الأصل البولندي، والذي لعب دورا كبيرا في التأثير عليه ثقافيا وفكريا، مثلما يقول جيسواف ميووش بعد فترة طويلة. بيد أن فرنسا لم تفرد له مكانة واسعة. ربما لأن معاداته للشيوعية، كانت السبب الرئيسي في هذا الطلاق. فبعد تخليه عن منصبه في السفارة بباريس، قرر أن يبقى هناك، لكنه كان يتقزز من كل الذي قيل عنه وبأنه متواطئ مع النظام. يومها كتب نصا متذكرا فيه إحدى ليالي العام 1949، والتي يصفها بأنها ليلة العار. كان عائدا من سهرة مليئة بالنخب الشيوعية وعلى الطريق التقى بشاحنة عسكرية تكوم فيها العديد من ألأشخاص الموقوفين المرتجفين من البرد. لم يفهم عليه المثقفون الفرنسيون، الذي كان عددا كبيرا منهم مبهورا بالفكر الشيوعي، من هنا بقي قلبه مليئا بالنقمة عليها إذ لم تعرف حقا، يومها، مدى المأساة التوتاليتارية.

تبعية الأنتليجنسيا

من هذه التجربة الشخصية، أستطاع أن يستخلص، لاحقا، إحدى أعمق التحليلات عن تبعية الانتلجنسيا في النظام الشيوعي، الذي عاد وطوره بشكل أعمق في كتابه الرائد (الفكر الأسير). لقد رسم ميووش فيه، (بورتريهات) للمثقفين البولنديين الذي يشير إليهم بأحرف أسماءهم الأولى، لكن الذين يتم التعرف إليهم بسهولة الماهرين في فن (الكتمان)، أي ممارسة الرياء والمواربة التي أصبحت إحدى المذاهب الفلسفية في بلاد فارس خلال العصور الوسيطة: (إن تسوية أولى لا بد أن تلحقها تسوية ثانية ومن ثالثة لغاية أن يصبح كل ما نقوله متناسقا بشكل كامل، إلا أنه لا علاقة له مع لحم البشر ودمائهم.)
جاء العام 1960 ليبدأ معه منفى جديد: يقبل ميووش بالعرض الذي جاءه من الولايات المتحدة ليكون أستاذ الآداب السلافية في جامعة بيركلي. ذهب إلى هناك حاملا معه ضفاف البلطيق ليضعها فوق ضفاف الباسيفيك. هناك، عاش حياة مزدوجة، من جهة كان أستاذا جامعيا أميركيا، ومن جهة ثانية شاعرا بولنديا لم يتخل عن لغته الأم، أي على العكس من صديقه برودسكي الذي وصفه بأنه أكبر شعراء القرن العشرين. فبرودسكي كتب بالإنكليزية قسما كبيرا من شعره، أما ميووش فكتب جل أعماله بهذه اللغة التي تحمل في (طياتها كل بحيرات موطني) (على حد تعبيره) ولم يستعمل الإنكليزية إلا في حالات نادرة، وهو الذي كان يجيد بطلاقة الفرنسية والروسية بالإضافة إلى الإنكليزية بالطبع. إذا، قاد ميووش معركته الثقافية من أجل أوروبا اللغة البولندية، ممجدا هذه الأوروبا الوسطى المعجونة بالذاكرة ضد (حماقة) الغربيين وضد (مخيلتهم المحدودة) التي، في يالطا، (قسمت أوروبا من نصفها قائلين أن ليس من مصالحهم الاهتمام بهذه الشعوب غير المعروفة بشكل جيد والتي تحيا في شرق أوروبا).

أوروبا العجوز

وفي خضم هذا كله، لم يتوقف عن التطلع إلى القارة القديمة، إلى (أوروبا العجوز). في العام 1976، وبعد الاضطرابات في (رادوم) و(أورسوس)، ساند إنشاء حركة (الكور) (لجنة الدفاع عن العمال (التي كان يديرها جاسيك كورون وآدم ميتشنيك. فكتب يومها، مع الفيلسوف ليتشيك كوكوفسكي، رسالة إلى العمل البولنديين، وليلتزم، فيما بعد، بمساندة حركة (التضامن). وفي مقابل هذه (المقاومة) التي بدأت تنتظم، رأى ميووش أن النظام الشيوعي لن يخلد إلى الأبد. جاء هذا الأمر ليشكل دعما مهما في مسيرته الثقافية، إذ لم تتوقف شهرته وحضوره عن التوسع في مسقط رأسه. كان الشبان يحفظون شعره غيبا، بينما لم يتوقف المعارضون عن نشر أعماله في دورهم التي تعمل بالخفاء، كما في نشرات (الساميزدات). لدرجة انه أعلن بطلا قوميا حين زار بلده للمرة الأولى في العام 1981، متسلحا بقوة جائزة نوبل التي كان حازها قبل سنة واحدة. كان له ثلاثون سنة لم ير فيها بلاده. جاء الأمر عقب دعوة من حركة (التضامن) (أول حركة نقابية مستقلة في العالم الشيوعي طالبت بانتخابات حرة) عبر قائدها فاوينسا الذي استقبله كبطل قومي في مرفأ غدانسك البحري. جرى هناك احتفال به، إذ كما هو معروف يمجد البولنديون كتّابهم الكبار دائما. إلا أن ميووش لم يرغب بلعب هذا الدور: دور الشاعر الوطني. (لا أريد كل هذه السيرورة التي تنتج أبطالا) قال ساخرا عن زيارته هذه، قبل أن يضيف : (كنت تدبرت أمري بلباقة، حين لم أبق في بولندا مختارا الهجرة، وذلك كي لا أساوم. بيد أنني لو بقيت هناك لكنت كما أن عليه. في حقبة (التضامن)، اعتقدوا أنهم عادوا ووجدوا بياضي الناصع. من المتعب جدا أن يظهر المرء مثل شخص بدون خوف وبدون مآخذ عليه، في حين أنه وهب نفسه للدعارة، لأن خدمة الديبلوماسية البولندية الشعبية لعمل هو من دون شك، عمل بلا شرف).
إلا أن عودته النهائية لم تحدث إلا في العام 1990 حيث جاء ليسكن في وطن طفولته، في كراكوفيا، حيث قال انه وجد فيها مناخا قريبا من مناخ فيلنو القديم. لم يختر فيلنو لأن (الشعب لم يعد نفسه مثلما كان عليه قبل الحرب، لقد قُتل اليهود من قبل الألمان والغستابو الليتواني، لقد رحلت عنها الأنتلجنسيا البولندية، ولم تعد اللغة البولندية لغة المثقفين هناك). هذه الكرة نعد لندها في أحد كتبه الأخيرة (كتاب الألفباء)، الصادر قبل فترة قصيرة من وفاته، إذ يقول: (أعتقد أن قوتي تكمن في واقع إيجاد جذور في منطقة صغيرة. خلال الأربعين سنة التي قضيتها في كاليفورنيا، كانت مخيلتي موجهة دائما عبر نقطة الاستدلال هذه: ضيعتي الصغيرة في ليتوانيا). ويضيف في مكان آخر من الكتاب عينه: (لن أجد هناك الأصحاب الذين لعبت معهم. لقد قتلوا كلهم أو رحلوا أو ربما هاجروا).
ما يمثله أدب (طفل أوروبا) ليس سوى خلاصة مكثفة، مدهشة، عن هذا الغطس (في قلب ظلمات القرن العشرين). تشكل أبياته التي حفرت على التمثال الذي أقيم في غدانسك لذكرى العمال الذين قتلتهم الشرطة العام 1970، وهي أبيات كان ميووش كتبها تخليدا لذكرى ضحايا النازية، تشكل كل ما يرغب في قوله:

(أنت الذي سببت الكثير من الألم للرجل العادي
وكنت تقهقه بالضحك عند مرأى العذاب
لا تظنن نفسك سالما
لأن الشاعر يتذكر).

سؤال الذاكرة

جيسواف ميووشماذا يتذكر الشاعر؟ سؤال كبير وحاضر أبدا في ذاكرة أي مهاجر أو منفي. من هذه الزاوية، ربما يتوجب علينا أن نقرأ (كتاب الألفباء) الذي يفتت فيه ميووش كلمات قاموسه الحميم، والذي يشكل أيضا متحفا متخيلا أو ربما سيرة ذاتية مموهة وموسوعة متجولة. الذكرى هنا، ذكرى أوروبا الأخرى، ذكرى (هذا الشر المعشش في التاريخ)، هناك ذكرى الأصدقاء وبخاصة صورة (غرومبوفيتش) و(برونو شولتز). هناك أيضا تأملات حول الشيخوخة، حول الطفولة والبحيرات التي كان يلعب حولها، هناك صورة الشعر والقطط ومزامير داود التي ترجمها إلى البولندية من العبرية بعد أن تعلم هذه اللغة وهو في الستين من عمره. بيد أن السؤال الأساسي الذي ما انفك يطرحه طيلة حياته، يعود ليعود حاضرا في قلب هذه الذاكرة: (لقد قيض لنا، نحن سكان أوروبا الثانية أن نتسرب إلى قلب ظلمات القرن العشرين). هذا هو السؤال المصيري الحاضر في كل ما كتبه جيسواف ميووش طيلة حياته.
كتابة وصفت بالمعقدة أحيانا، لكنها تملك الكثير من القدرة على الإثارة. وإذا كانت أبحاثه الفكرية لم تعان من ألام الترجمة، فالأمر لم يكن بهذه السهولة بالنسبة إلى شعره:(ما من صورة من صور الإعلام ستلائمني. ربما ما سيناسبني صورة الشاعر الهرمسي، الذي ينتعل خفيّه وهو يترجم التوراة).
قد توقعنا هذه الإشارة، في سوء فهم آخر لشعر ميووش، فالهرمسية التي يقصدها لا تعني مطلقا تلك الانغلاقية التي تنحو إليها بعض التجارب الشعرية في العالم، لكنها بالتأكيد لا تسقط في السهولة المجانية أو الخطابية المباشرة. صحيح أن الدين، كحضارة بشرية، يلعب الدور الكبير في رسم مناخات أدب هذا الكاتب، إلا أن (الهرمسية) قد تكون هنا، هذه الرغبة في الابتعاد عن لعب دور الشاعر الجماهيري والوطني، أي أنه يفرد مساحة للتمايز بينه وبين الشعر السياسي والنضالي الذي كان سائدا. هذا ما نحا إليه ميووش طيلة حياته على الرغم من أن الشعر في بولندا لا يزال يشكل حتى أيامنا هذه، حركة ثقافية واسعة، إذ يتوافد القراء عليه بكثرة. من هنا لا عجب في أن البولنديين الأخيرين اللذين حازا نوبل هما شاعران، ميووش وشيمبوريسكا.
بهذا المعنى يأتي شعر جيسواف ميووش، مثلما يقول عنه الناقد البولندي جيلينسكي، بأنه خلاصة المتخيل والثقافي أي عرف كيف يتخطى المعارك التي حصلت بين المحافظين على التلقائية الشعرية والذين يدعون إلى البنائية. هذا القول يحيلنا إلى أمر أساسي في شعره، وهو عدم تخليه عن رفض هذه الإيقاعية وان كان نحا إلى كتابة قصيدة النثر والنص المفتوح في بعض الأحيان. ألم يقل في قصيدة (الفن الشعري):

(كنت دائما أتطلع لشكل أكثر رحابة
خلوا من إفراط الشعر والنثر...)

الفائدة التي كان يرجوها من ذلك، يحددها في مكان آخر من القصيدة نفسها حين يقول:

(فائدة الشعر أن يذكرنا
كيف من الصعب عليك أن تكون ذاتك...

بيد أنه بقي ذاته، أي مخلصا لهذه المسارات الكبرى التي حددت تاريخه منذ أن وعى هذا المأزق التاريخي الذي وقع به العالم والذي قاد إلى كل تلك الويلات التي لم تنته، والتي قادته من منفى إلى آخر. لكن على الرغم من هذا المنفي الأخير الذي يرحل إليه في موته، سيبقى صون ميووش أحد الأصوات النافذة: إنه الصوت الإنساني العميق ألآتي من تاريخ الألم، أي من تاريخ الكائن البشري.

السفير
20 أغسطس 2004