وتأثيرها في ثقافتنا
من وجهة نظر مترجمين شعراء

اسكندر حبش
(لبنان)

الأزمة في دور النشر وتبدل حاجات الفرد.. والترجمة رَحَمُنا الشعري

اسكندر حبشقد يأخذنا السؤال إلى أماكن أخرى، إذ لربما كان ينبغي أن نطرحه حول جدوى الشعر، حول تراجع العديد من دور النشر عن إصداره، أكثر مما يجب طرحه حول ضرورة الترجمة الشعرية والدور الذي من المفترض أن تلعبه.

مهما حاولنا أن نختبئ وراء التنظيرات العديدة، ووراء البحث عن (أب) محتمل لقصيدة النثر العربية (العودة الى التراث النثري العربي وما شابه)، تبدو لنا الترجمة الشعرية - أي نقل الشعر الفرنسي والانكليزي تحديدا الى العربية - هي أحد الروافد المهمة التي غذت هذا الشعر الجديد الذي بدأ بالانتشار، بشكل كبير، في منتصف القرن المنصرم. قد تتعدد التفسيرات، حول نشوء هذه القصيدة وقد تتعدد أسماء روادها إلا أننا لا نستطيع إنكار أن من أوائل الذين أشاروا الى تأثرهم بالقصيدة الغربية - الأميركية تحديدا  كان أمين الريحاني في مقدمته لكتابه (هتاف الأودية) (1913) حين تحدث عن الشعر الجديد وعن مدى تأثره بالشاعر الأميركي والت ويتمان. صحيح ان الريحاني لا يشير في مقدمته هذه الى عملية ترجمة ما، لكن ما يدل عليه هو تفاعله مع شعر الآخر.

من هنا عاد شعر الآخر ليحضر كثيرا مع بداية مجلة (شعر) الذي أفردت مساحات كبيرة الى الشعر المترجم من لغات أخرى الى العربية. من هنا يبدو لنا اليوم هذا الدور الكبير الذي لعبته هذه المجلة في تعريفنا بأسماء - شئنا أم أبينا - أصبحت تشكل مرجعيتنا الشعرية الثقافية. نستطيع القول ان مجلة (شعر) نشرت الكثير من الشعر العربي. لكن،حقيقة، لو طرحنا سؤالا مباشرا حول الأسماء التي بقيت من (شعر) ( وهي أسماء كثيرة) لوجدنا ان عدد العرب الذين استطاعوا فرض حضورهم حتى اليوم، قليلون جدا. من هنا شكلت المجلة ذلك الدور المفترض بها لتعرفنا بأبرز التيارات المختلفة في الغرب، عبر حركة ترجمة دؤوبة ومهمة. لم يخرج شعراء (شعر) في ذلك عن (مفهومية) الثقافة العربية، على الرغم من كل الاتهامات التي تعرضوا لها: هل يمكننا الحديث عن ثقافة عربية وعن فكر عربي من دون العودة الى نهضة العصر العباسي الذي نقل مختلف العلوم الإغريقية والفارسية والصينية والهندية، ليعيد إنتاجها وفق منطقه الخاص بذلك العصر؟

بعد هذه العصور الذهبية، هل نستطيع القول ان عملية نقل الشعر الأجنبي الى العربية تعيش في (عصر انحطاط)؟ أبدا، وعلى خلاف ما يظنه الكثيرون. صحيح ان عدد الكتب الشعرية المترجمة يكاد يختفي من الأسواق، لكن ثمة هامش آخر قد انفتح في وجه هذه القصيدة: عديدة هي المجلات التي فتحت أبوابها لهذه الكتابة، عديدة هي الصفحات الثقافية في بعض الصحف اليومية التي تستقبل الترجمات، ومؤخرا، جاءت مواقع (الانترنت) المختلفة لتفسح مكانا كبيرا. عبد القادر الجنابي، مثلا، يصدر بشكل يومي تقريبا (أنطولوجيا الشعر العالمي) على موقع (إيلاف)، كذلك الأمر مع صموئيل شمعون في موقع (كيكا) الذي يضيف كل يوم العديد من القصائد المترجمة. ولا نستطيع أن ننسى (الرائد) في هذا المجال، أقصد الذي أوجد تلك الفسحة الكبيرة للشعر المترجم على موقعه، عنيت الشاعر قاسم حداد في (جهة الشعر). بالطبع هناك الكثير والكثير من المواقع الأخرى التي تضيف قصائد بشكل شبه يومي، من هنا ان دل الأمر على شيء، فهو يدل على مدى حاجتنا الى التعرف على نص الآخر الشعري. لذلك نستطيع الادعاء ان الترجمة الشعرية لم تفقد دورها، لأن (الأزمة) التي نتحدث عنها، ليست بالطبع أزمة شعرية، بل هي (أزمة) دور النشر التي عكفت على عدم نشر الشعر، بحجة انه (غير ربّيح) كما يستعيد القول الشاعر هنري فريد صعب (في كلامه هنا).

على كل وإزاء هذا كله، ثمة سؤال آخر يعترضنا: هل نستطيع ترجمة الشعر؟ يقول كثيرون انه أمر غير وارد، ويقول آخرون ( أقل عددا من الفئة الأولى) أننا نستطيع ذلك.ربما أنحاز الى الفئة الثانية، وإلا كيف نفسر ترجمة (الرباعيات الأربع) (لإليوت) التي قام بها توفيق صايغ؟ وأين نضع ترجمات سان جون برس التي قام بها أدونيس، التي تأسس على أثرها جيل شعري عربي كامل، أصبح يكتب مثل (أدونيسية) الترجمة، (بعيدا عن كل ما قيل من عدم دقة الترجمة)، أضف الى ذلك ترجمات كاظم جهاد الشعرية، التي هي بحاجة حقا لنعود ونقرأها أي لنعيد اكتشاف ذلك المجهود اللغوي الكبير في التماهي مع النص الأصلي. من هنا يبدو عمل كاظم جهاد عملا أساسيا في حركة الترجمة أضف الى انه قام بعمل مزدوج، أي نقل العديد من النصوص العربية الى الفرنسية، وتحضرني هنا ترجمته الجميلة الى الفرنسية لنص عباس بيضون (صور).

عديدة هي الأعمال التي نقلت وشكلت محطات بارزة، مثل (كتاب الشعر الفرنسي) الذي أعده بول شاوول والذي لا يزال لغاية اليوم المرجع (الوحيد) تقريبا(بالعربية) عن الشعر الفرنسي، بدءا من نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهاية القرن العشرين. كما نستطيع ان نذكر ديوان الشعر الأميركي الذي أعده توفيق صايغ، والترجمات عن الألمانية لريلكه وهلدرلن وآخرين التي قام بها فؤاد رفقه. نعم نستطيع أن نترجم الشعر، ولكن كما نقول عادة، إن الأمر بحاجة الى شعراء يتصدون لهذه المهمة، لا (مترجمين محلفين لدى المحاكم)، فالأمر بحاجة الى حساسية شعرية، لا يتقنها غير الشعراء أنفسهم.
بالتأكيد أننا بحاجة الى الترجمة الشعرية، أننا بحاجة لأن نفرد لها مساحة إضافية في ثقافتنا الراهنة، اذ من غير الممكن ان لا نتواصل مع الآخر في راهنيته، في حساسيته الجديدة، التي تطرح علينا الكثير من الأسئلة على أنفسنا وعلى لغتنا قبل أي شيء آخر.

انطلاقا من ذلك كله، حاولنا طرح ثلاثة أسئلة على عدد من الشعراء المهتمين بالترجمات الشعرية، حتى ليشكل الأمر عندهم عملا أدبيا آخر موازيا لعملهم الكتابي، أي أن الترجمة تتخطى مجرد عملية النقل العادية ليصبح مشروعا كتابيا مستقلا، فكانت إجابات هنري فريد صعب، وحمزة عبود وسامر أبو هواش وجمانة حداد. أما الأسئلة فكانت: أولا، كيف تفسر عملية تراجع الترجمة الشعرية إلى العربية، إزاء ما شاهدناه من نشاط في الستينيات مثلا. ثانيا، الى أي حد لعبت الترجمة الشعرية دورا في نصك الإبداعي الخاص. أما السؤال الأخير فكان حول ضرورة الترجمة الشعرية ومدى الدور الذي قد تلعبه على المستوى الثقافي. هنا الإجابات.

هنري فريد صعب:
الدخول إلى عصب الشاعر

1 الشعر المترجم أصابه ما أصاب الشعر الموضوع في أيامنا. إذ إن دور النشر تستنكف في المبدأ من نشر الشعر عامة باعتباره (غير ربّيح) كما يقولون. وعليه لجأ البعض الى الصحف لنشر ترجماتهم. والظاهر أن هذه الصحف فتحت صدرها لهذه الترجمات إذ وجدت فيها مادة دسمة تزيد من غنى صفحاتها الثقافية وخصوصا حين تكون تلك المادة الدسمة لأسماء شعرية وعالمية ومعروفة جيدا في الوسط الثقافي المحلي والعربي.
2 أما لماذا يلجأ البعض الى ترجمة الشعر ما دام هذا شأنه؟ من جهتي أنا لا أقدم على ترجمة الشعر إلا ما أعجب به. وأنا حين أعجب بعمل شاعر ما تدفعني أحيانا رغبة في امتلاكه. أي أني أتصرف تماما كعاشق.وخير وسيلة لذلك هي أن ألبس لباسه أي أني أمتشق لحمة نسيجه وسداه. ومن هنا كانت الترجمة عندي عملية خلق ثانية أكثر مما هي عملية نقل من لغة الى لغة.
فأن أدخل في عصب الشاعر وأحيله على عصبي، هذا هو غرضي في ترجمته. وهكذا يكون شفائي من هذا العشق. لهذا نجد ترجمات تعادل أحيانا الأصل فتكذب العبارة المأثورة (Tradittore traditore).

وأذكر حديثا للشاعر أوكتافيو باث الى مجلة الاكسبريس الفرنسية قال فيه بصلاحية الشعر للترجمة إذا قدر له شاعر مترجم. وباث كما يعرف المطلعون يتحدث كخبير بكونه من كبار مترجمي الشعر ولا سيما الفرنسي.

3 هل الترجمة الشعرية ضرورة ثقافية؟ فالجواب البديهي طبعا ضرورة وضرورة كبيرة. أليست هي في الواقع الجذر الأول لقصيدة النثر عندنا؟! ان الترجمات الشعرية المنثورة هي التي سوغت هذا الشكل الشعري في أعيننا.

ودهش يومها كثيرون برؤية الشعر يطير في ثوب نثري رائع دون أن يأخذ بيده وزن أو قافية كانا سببا دائما في جموده وتأخره عن سياق الشعر العالمي الى أن استلحق حاله أخيرا.

حمزة عبود
التواصل بين الأنا والعالم

1 أظن ان ازدهار حركة الترجمة الذي بلغ ذروته في حقبتين متباعدتين (هما العصر العباسي والعقدان الأخيران من القرن الماضي) ارتبط بنهوض حركة فكرية شاملة وتوسع قيمة (الثقافي) في الحياة العامة. ومن هاتين الحقبتين يمكننا أن نلاحظ مدى تأثير النص المكتوب في الحوار والتفاعل المفترضين بين الثقافات المتنوعة كما يمكننا أن نلاحظ نمو الحركة الأدبية والفنية في مجالاتها ووظائفها الطبيعية وفي طاقاتها الإيحائية وقدرتها على استلهام قيم جديدة ومتحولة لا تخضع لصناعة الإعلام المحكمة والطاغية التي يشهدها العالم منذ سنوات.
بالطبع لا ينبغي أن نتجاهل أسبابا أخرى كتزايد عدد القراء الذين باتوا يلمون بلغة أو أكثر لأسباب تتعلق بتطور ظروف العيش (في ظل عولمة الاقتصاد ومركزيته في آن) وانحسار قراءة النص الأدبي عموما والشعري خاصة الذي يبين على نحو مثير للقلق مدى تبدل حاجة الفرد الى التأمل وتقبل العلاقات الناجزة والموضبة في وسائل أخرى.

2 الحقيقة ان ترجمة الشعر جعلتني أكتشف ان مصادري الشعرية تتعدى اللغة التي نتوهمها وان اللغة الخاصة التي تقدمها القصيدة تعود الى تعدد مصادرها من الشعر أو من اللغة المتداولة في مجالات مختلفة.
تعلمت من ترجمة الشعر أيضا كيف أختبر لغتي العربية( مدى اتساع هذه اللغة لتجارب أخرى).

3 السؤال عن قيمة الترجمة الشعرية في الحياة الأدبية يعيدنا الى الاعتقاد الذي ظل سائدا لفترة طويلة بأن الشعر لا يترجم أو هو في أفضل الحالات يفقد الكثير من قيمته إذا نقل الى لغة أخرى، وهذا الاعتقاد في رأيي يحفر قيمة الشعر في اللغة. بل في توهم وظائف اللغة النحوية والجمالية السائدة والشعر بهذا المعنى لا يتعدى مهارة استخدام هذه الوظائف. انه شعر متكرر على نحو ما. في حين ان الشعر هو نقيض التكرار والتداول. ولعل مادة الشعر، أي ما يحمله من أبعاد تأثيرية ومن بحث في علاقات لا تجد مرادفاتها وتعبيراتها في اللغة السائدة، هي مصدر قوة القول الشعري وإيحاءاته. ان الشعر هو الرؤية التي تتهيأ لنا في لحظات طارئة ولكنها وثيقة الصلة بحياتنا في الوقت نفسه. ومن هنا ان قيمة الترجمة الشعرية في الحركة الأدبية بل في الحركة الثقافية عامة تكمن في التواصل الطبيعي والعميق بين الأنا والأخر، بين الأنا والعالم.

 

سامر أبو هواش:
عالم جديد لم أتوقعه

سامر أبو هواش 1 أعتقد أن الأمر لا يتوقف على ترجمة الشعر فقط بقدر ما يطاول الشعر كله والأدب العربي بصورة عامة فالتراجع الذي تعاني منه الترجمة في مجال الشعر تحديدا يماثل الى حد كبير الوضع المتردي الذي يعاني منه الشعر نفسه. أحد الناشرين الكبار قال لي انه غير مستعد لنشر ترجمات أميركية وناشر آخر كبير في بيروت قال لي أيضا انه غير مستعد لنشر الشعر إطلاقا. فالحال هو نفسه بالنسبة الى الشعر المترجم وغير المترجم.

2 فيما يتعلق بتجربتي مع الترجمة، فتحت لي هذه التجربة عالما جديدا لم أكن لأتوقعه قبل شروعي بذلك. لا يتوقف الأمر عند الاطلاع على حساسيات شعرية مختلفة خاصة في أميركا أي في المجال الذي عملت فيه بل يطاول الأمر كتابة الشعر نفسه، فأجد فضائل الترجمة أنها تعلمنا الكتابة لأنها خاصة الشعر الحديث الذي نكتبه فضفاض ويحتمل الكثير من الفلتان، فحين تعمل في الترجمة تكتشف مدى دقة اللغة ودقة الصور وأهمية البناء الشعري وحتى وأنت تكتب قصيدة متدفقة ومشحونة وسردية ولا أتحدث فقط عن شعر الاختزال. تكتشف في الترجمة أهمية المفردة في حد ذاتها ومدى تعددها واحتمالاتها الكثيرة وعندها تجد نفسك حين تكتب انك تفكر أيضا في المفردة الواحدة أو العبارة والبناء الشعري برمته.

3 أظن ان الحياة الثقافية في بيروت والعالم العربي صنعتها الترجمة بالقدر ذاته ان لم يكن أكثر الذي صنعتها فيه التجارب المحلية. فالترجمة ساهمت في صوغ جيل فني وأدبي كامل في الأدب العربي. وأظن انه منذ السبعينيات تحديدا وحتى اليوم، أثر ذلك واضح جدا.

جمانة حداد:
ولادة شعرية لانهائية

جمانة حداد 1 لا اعرف ما إذا كانت حركة الترجمة الشعرية في لبنان قد تراجعت عمّا كانت عليه في بيروت الستينيات والسبعينيات. إذا كان الأمر صحيحا، فربما يعود ذلك في شكل خاص الى غياب المجلات الأدبية المتخصصة، وعدول بعض دور النشر الأساسية عن القيام بهذه المهمّة.
في مرحلة الستينيات عكفت مجلة (شعر) وشعراؤها على نقل كنوز الشعر الفرنسي وذاك الناطق بالانكليزية الى العربية، وهم فعلوا ذلك بطريقة غير مسبوقة.
وقد يكون فعلهم مرتبطا بدورهم كروّاد محدثين في تلك اللحظة الحاسمة من حركة التحوّل الجذرية التي أصابت الشعر والمسرح والآداب والفنون، وخصوصا ما تمثّل منها بانطلاق قصيدة النثر العربية. والشعراء هم الذين بادروا الى هذا النشاط آنذاك، لا (المترجمون). وأنا أستخدم كلمة (المترجمون) في المعنى الدقيق والإصطلاحي. هذا يعني أن حركة الترجمة الشعرية لم تكن في يوم من الأيام عملا شاملا يرتبط بخطة منهجية متكاملة، بل عمل شعراء أفراد.
في المقابل، أشير الى ان حركة الترجمة لا تزال ناشطة في بلدان المغرب العربي، وهي الآن صاعدة في سوريا، بصرف النظر عن نوعية هذه الترجمة ومستوياتها ومدى تمكّنها من ملامسة جوهر التجارب الشعرية المنقولة الى العربية.
ما أستطيع أن أقوله الآن هو انه ينبغي للترجمة الشعرية أن تتخطى إطار المبادرات الفردية والجزئية لتصير همّاً واسع النطاق. وتلك مهمّة العارفين بأسرار الشعر ودلالات اللغة الشعرية وتأويلاتها. وأشدد هنا على أن ترجمة الشعر ليست وظيفة، وهي لن تكون ناجحة ولن تصيب أهدافها إلا إذا قام بها الذين يملكون موهبة اللغات على أن تكون مقترنة حتما بموهبة (المعرفة) الشعرية.

2 لا حدّ طبعا للثراء الذي يمنحه الإطلاع على كنوز اللغات والبلدان الأجنبية، شعرا وتاريخا وحضارة وأدبا وفنونا على حد سواء. لكنّ أهمية المتلقي إذا كان شاعرا أن يتمكّن في الدرجة الأولى من (هضم) هذه الهبات، أي أن يتمكّن من جعل الدماء الجديدة التي يُحقن بها تنسرب في شرايينه و)تتلوّث) بدمائه لتصير جزءا شرعيا من شعريته ولاوعيه اللغوي.
وأهمية المتلقي الشاعر، لا أن يتبجّح بأنه غير متأثر بما لفحه، بل أن يجعل هذه المؤثرات جزءا شبيها بالهواء الذي يخترعه في شعره. واذا كان من عملية قتل ل)الآباء)، فأكبر تحدّ يستطيع المتلقّي الشاعر أن يواجهه وينتصر فيه هو ان يقتل هؤلاء الآباء في داخله، أي أن يحيوا به لا ان يحيا بهم.

3 لكي أجيب عن هذا السؤال، أحب ان اطرحه على الشكل الآتي: ما أهمية الترجمة الشعرية في الحياة الأدبية والثقافية في فرنسا، التي باتت عاصمتها عاصمة لترجمة الشعر بل لترجمة الأدب العالمي برمته تقريبا؟ هذا لأقول إن لا حدّ لأهمية الترجمة في ضخ دماء جديدة في الحياة الشعرية، وتعزيز عمليات التفاعل والتهجين بين الحضارات والثقافات. وهي مهمّة خصوصا بالنسبة الى الذين لا يلمّون باللغات الأجنبية لأنها تشرّع أمامهم آفاقا مجهولة كانت لتكون مقفلة لولاها.

أما في ما يتعلق بحياتنا الأدبية العربية تحديدا، يكفي ربما التذكير بدور الترجمة الشعرية في مرحلة الستينيات لإعطاء نموذج عن مدى أهميتها. فقد تُرجم معظم كبار الشعر العالمي الى العربية، وصاروا جزءا محفوظا في مكتبتنا الشعرية، وتربّى الكثير من الشعراء والأدباء على هذه الذاكرة الأجنبية ونهلوا منها و)تأثروا) بها. لقد جعلتنا الترجمة في اختصار موصولين بروح تلك اللغات ووجدانها ورحمها الشعري، مما منحنا ولادة شعرية ثانية وثالثة ورابعة الى ما لا نهاية.

السفير
2003/07/07