لاشك أن لكل الروائيين المغاربة حكايات مع النشر تتعدد بتعدد المسالك التي قطعوها قبل أن يصدروا أعمالهم الأولى. ففي بلد يعيش إعلامه الثقافي داخل غرفة الإنعاش لا يمكن لناشر أن يغامر بإصدار رواية جميلة لأديب شاب. فلا أحد سيقرؤها مادام الاسم مغموراً، لذا يعمد الروائيون في بداية حياتهم الأدبية عادة إلى إنجاز قراءات نقدية لروايات الكبار ويُضَحُّون ببعض مشاريعهم الروائية الغزيرة -مشاريع البدايات غزيرة دائما- فيختزلونها إلى قصص قصيرة مفصلة على مقاس صفحات الملاحق وأحيانا يقرضون الشعر قرضا. الأمر طبعا لا يتعلق سوى بتدريبات على القفز الطولي الغرض منها صناعة الاسم أولا في أفق تكريسه وحينما يتيسر إصدار الرواية الثانية فالثالثة يصير الحديث عن الشعر لدى هؤلاء مقترنا باستعادتهم للبدايات خلال المقابلات الصحافية.
لكن بالمقابل يصر بعض الروائيين البارزين، رغم تألقهم في مجالهم، على البقاء على قيد الشعر رغم أنف هذا الأخير وضداً على رغبته الأكيدة في الفكاك منهم!
ويعود ذلك إلى توق هؤلاء إلى جمع المجد من أطرافه. وطَرْقُ الشعر يبدو الأشد إغراءً خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار موقعه في وجدان أمتنا. فنحن أمة شاعرة ظلت تعتبر الشعر منذ جاهليتها الأولى ديوانها الأثير الأسمى من أي نثر، وهو ما تؤكده لحظة نزول القرآن، حيث لم يستطع العرب تقبل البيان وسحر اللغة منثوراً فألصقوا بنبي الأمة شبهة الشاعر.
إن شبهة الشعر المفتوحة على الغوايات اللذيذة لها حضور عميق في وجداننا الجمعي، وهو ما يبرر الحديث عن "عقدة الشعر" كما أسماها فوزي كريم وهي عقدة تجعل الروائي والمفكر العربي مشدوداً دائما إلى الشعر باعتباره أرقى الأجناس.
ومع أن الأمر لا يتعلق بمياه إقليمية لهذا الجنس أو ذاك إلا أنني لا أتحمس كثيراً -من موقعي كقارئ- لأشعار الروائيين المغاربة. فأغلب نصوصهم تسقط في فخ الصياغات الذهنية والتأملات القاتمة والألفاظ المنمقة، كما أن الاستعارات تتزاحم فيها بشكل يمنع ماء الشعر من أي يسيل بين ترائب اللغة.
وبالمقابل كان الشعراء المغاربة أكثر تألقاً وهم يجربون حظهم مع سمك القرش في أعالي السرد. وإذا كان عبد اللطيف اللعبي وعبد الله زريقة قد استعذبا غواية الحكي هذه فعادا إليها ، فان أعمال الشعراء الآخرين ظلت يتيمة كروايات محمد الأشعري وحسن نجمي، مما يؤكد أن هجرة الشعراء المغاربة إلى مدن السرد لم تكن من أجل الحصول على أوراق الإقامة في الضفة الأخرى، وهذا إذا سلمنا أصلاً بأن هناك ضفاف للكتابة.
والطريف أن شعراءنا وهم يكتبون الرواية يستعيرون لغة أخرى غير تلك التي ينبض بها شعرهم مما يعني أن الرواية تحضر عندهم كتنويع داخل تجربتهم الكتابية لا كجزء من مشروع متكامل. فليس لدينا في المغرب أدباء يُنضجون مشاريعهم الروائية والشعرية - كما هو الحال عند سليم بركات مثلا - في قدر واحد وعلى نفس النار.
لكن لدينا مع ذلك قاص متميز نجح في أن يكتب قصصه ومقالاته بنفس الروح حتى إن كل ما يخطه قلمه عسل له نفس المذاق: مذاق تراب الطفولة اللذيذ. وأقصد طبعاً المبدع أحمد بوزفور الذي مذ قرأت له مقطعا شعرياً صغيراً على غلاف الديوان الأول للشاعر بوجمعة أشفري وأنا أمني النفس بديوان له يبوح لنا فيه بخياناته للقصة ويشرح عبره لفقهاء السرد أن الشعر مُمكن، لكن ليس خارج الذات، الذات نفسها التي تكتب الأشياء الأخرى وتأكل الحلوى وتركب الحافلة وتذهب إلى العمل باكراً كل صباح.
إن استدعاء تجربتي سليم بركات وأحمد بوزفور هنا لم يكن بفرض المفاضلة بين كاتب وآخر، أو بين هذا الجنس وذاك، ولكن أساساً من أجل التأكيد على أن مزاج الكاتب وموهبته أقوى بكثير من سطوة الجنس و إكراهاته. فروح بوزفور اللعبية الماكرة التي صنعت فرادته كقاص هي ذاتها التي جعلت نار المجاز تشب في عنق زرافته النقدية (الزرافة المشتعلة). كما أن أجواء سليم بركات الباذخة ولغته المشرقة تظل زاده الأثير خلال تسكعه الإبداعي الضاري في براري القصيدة وبين أحراش السرد. ومحاوَرةُ مثل هذه التجارب بلغة النماذج والتصنيفات والأجناس الأدبية لا يمكنها أن تتم إلا في محلات النجارة، حيث الخشب يُحرِّض الخشب ضد الأنساغ.
فلا الشعر ولا الرواية، بل الكتابة ذاتها في تعاليها على المفاهيم والأجناس ما يفتح الأديب على المزيد من الانقلاب باتجاه أفق الأدب الغامض المفخخ، والملتبس الجميل. والطريف أن أجمل الأعمال الأدبية التي تلقفها القارئ المغربي بحماس في السنوات الأخيرة لا تنتمي إلى أنساق تعبيرية محددة وأغلبها مكتوب بأقلام طافحة بالحياة. أفكر مثلا في الرسائل المتبادلة بين محمد برادة ومحمد شكري، يوميات رشيد نيني حينما كانت هجرته محاطة بالسرية والكتمان (يوميات مهاجر سري)، بريد سعد سرحان الذي ما يزال محفوظا رغم أن رسائله الباذخة نشرت في أكثر من منبر (صندوق البريد 1492)، مذكرات شكري الممتعة عن عبور جنيه وويليامز وبول بولز بطنجة ولقاءاته معهم، هذا إضافة إلى نصوص جميلة تُحسَبُ ظلما على النقد فيما هي نصوص إبداعية تعطي الأولوية للذات، تقرأ بعشق وتتأمل بخفة، وتتمرد على الأنساق وتحتفي بالمجاز وتنساق وراء التآويل، وبالطبع يمكن الإحالة هنا على الزرافة إياها (الزرافة المشتعلة) وعلى الشحرور ذي الغوايات (غوايات الشحرور الأبيض)، وعلى ليل عبد المجيد جحفة الذي ليس كنهاره (سطوة النهار وسحر الليل)، شهرزاد فاطمة المرنيسي وقد يمَّمَت غرباً (شهرزاد ترحل إلى الغرب)، إضافة إلى أعمال عبد الفتاح كيليطو التي تُعلِّم قراءها الذكاء.
فهل هناك من مبرر بعد للحديث عن عمارة للشعر وأخرى للرواية؟ إن منظرنا سيبدو سخيفا ونحن نلوك أسئلة مدرسية قديمة قبل أن نلصقها تحت الطاولات. فالأفق الذي تتجه نحوه الكتابة هو أفق غواية وحرية وتداخل. أفقٌ حقيقي لا مجال فيه للاختزال ولا للتنميط. وأتصور أن الأساتذة الأجلاء الذين اعتادوا الترويح عن النفس أيام الآحاد بتشريح الأعمال الأدبية في مكاتبهم بالحياد ذاته الذي تقطع به زوجاتهم شرائح اللحم في المطبخ سيجدون أنفسهم مضطرين للمساهمة بجدية أكبر في أشغال البيت، ذاك أنهم لن يعثروا لأنفسهم مستقبلا على مكان في حديقة الأدب مادام مصير الكتابة منذورا للحياة، ومصير الأدب منذورا لمن يجيدون السباحة في بحره العظيم هناك حيث لا شواطئ ولا مراسي ولاضفاف.