هل يسلَمُ الجسد من الثقافة؟ وهل يمكن عوده أن يستقيم وأطرافه أن تزهر خارج أحواض تمثيلاتها المتعددة وقيمها وعلاماتها؟ ثم هل يمكن التماسُ عافيةٍ تعبيرية تدليلية للجسد ما لم يطأ هذا الأخير أرض التخييل؟ هذه الأسئلة وسواها هي التي حاول الباحث المغربي هشام العلوي مقاربتها في كتابه الجديد "في قبضة الثقافة: نظرات ورؤى حول الجسد" الصادر حديثاً ضمن منشورات "اتحاد كتاب المغرب" - الرباط. ومنذ التقديم حرص العلوي على إبراز تلك الازدواجية التي يعانيها الجسد، بصفته بؤرة للإدراك وسنداً للوجود المادي والرمزي والميتافيزيقي من جهة، ثم باعتباره كياناً مُسنَّناً وحمَّالاً للصور والقيم والعلامات المحكومة بمواضعات الثقافة واللغة والكتابة من جهة أخرى، قبل أن يخلص إلى أن "للعلامة الجسدية" قدرة فائقة على الإبلاغ وتحقيق التواصل وتوليد المعنى أيضاً. هذه القدرة تتألق أكثر تعبيرياً ودلالياً كلما وطأ الجسد أرض التخييل وأوغل في المجازات. ولكن هل الجسد واحد؟ وهل يمكن التوافق في شأن لغة واصفة للجسد يعتمدها الجميع؟ يؤكد هشام العلوي أن إنتاج مثل هذه اللغة الموحدة أمر مستحيل. فجسد التشريحيين يخالف جسد علماء الأحياء. والجسد كما تصوغه المؤسسة الطبية يغاير صياغات المؤسسة السياسية والإعلامية والجمالية والدينية والرياضية. فكل هذه الخطابات تنتج جسدها الخاص بها وتمنحه تسمية وتقطيعاً وبطاقة دلالية، بحيث يغدو الجسد أجساداً مفهومية يحيل كل منها إلى حقل إيحائي معين، أو شكلاً فارغاً تتناوب العلوم على ملء بياضه.
من المؤكد أن الجسد يتمتع بوحدة فيزيقية وكيان مستقل عن مختلف أشكال التمثيل وسياقات التدليل التي تحُفُّه. بيد أن هذا الجسد العاري، الغُفْل من القيم الثقافية المُضافة، لا ينخرط في عالم المعنى ويغدو قابلاً للإدراك ما لم يستطع أن يحوِّل معرفته الحسية والحدسية التي يُعبر من خلالها عن وجوده علامات وصوراً وكلمات ومفاهيم. وهو إنجاز لا يتأتى إلا عبر اللغة والأخلاق والعلم، وغيرها من الوسائط التي تصل الجسد بمحيطه. وبما أن التخلُّق الدلالي للجسد يرتهن لزوماً بوجود الواقعة الثقافية التي تنظم الفعل الإنساني وتعممه، فإن ثمة مجموعة من السياقات التداولية التي توقف عندها هشام العلوي في هذا الصدد، منها التواصلية كلغة العيون، والأنثربولوجية كالتعبيرات الإيمائية التي تشي بالهوية الاجتماعية أو الجغرافية أو الحضارية للجسد، والجمالية كالرقص والتعبير الجسدي، فالترميزية كما هي الحال بالنسبة إلى إشارات الفتنة والإغراء.
ويؤكد هشام العلوي أن الجسد يتبوأ حيزاً جوهرياً في بنية الثقافة العربية الإسلامية، يوحي به حرصها على نسج قيم اجتماعية وسياسية وأخلاقية، على أساس إرادة الحياة واستيعاب جذوة الغرائز وقبول الإنسان بشقيه الروحاني والجسماني في الدنيا والآخرة. وهكذا انْبَنت معظم ركائز العقيدة والشريعة، كالطهارة والصلاة والصوم والحج، على الجسد ووضعياته ورمزية إيماءاته. فالعبادة ممارسة تتمحور حول نظام معين من السلوك والمعاملات. فالإيمان لا يصبح ظاهراً وعلنياً وقابلاً لإدراك البشر إلا حينما يستحيل سلوكاً وفعلاً. ولعل هذا ما جعل هشام العلوي يتحدث في كتابه عن "التبنيُن الجسدي للعقائد". ومن جهة أخرى يتوقف الباحث عند دلالة تشريف الله للإنسان "بتشكيله جسدَ أبيه الأول آدم من الطين ونحتِهِ ملامحَ صورته بيديه الكريمتين. إن مثل هذا التشريف، يضيف هشام العلوي، يعتبر تحصيناًً للإنسان من كل تعليل يحط من قدره استناداً إلى الأصل الطيني والأرضي للجسد. كما يدحض ضمنياً التضخم والتعالي المطلق الذي بلغته الروح في حضن الميتافيزيقا اليونانية والديانة المسيحية".
وأخيراً يلج المؤلف في الفصل الأخير من كتابه "مطبخ" الكتابة ليتأمل الجسد داخله. وقد لاحظ العلوي منذ البداية أن المفكرين القدامى والمحدثين أجمعوا على وجود إرث دلالي يقرن الجسد بالكتابة ويعتبرهما وجهين لعملة واحدة. إذ تنسج عند حدودهما آصرة أنطولوجية وثيقة وعلاقة استبدالية مطردة. وهكذا نجد أفلاطون يوحد بين طبيعتهما حينما قارن بين الجسد كمأوى للروح، والكتابة كظل للصوت والفكر. وذهب بعض شيوخ المتصوفة المسلمين إلى إبراز صلات غير اعتباطية بين أشكال الحروف وأعضاء البدن وأطرافه. وهكذا تصور ابن عربي مثلاً أن هناك زواجاً فريداً يتم بين حروف الهجاء، كأنما هي أجساد داخل طقس لا يفصل الجسد عن الكتابة.
ومن ثمَّ، يغدو النص الإبداعي معادلاً رمزياً للجسد الإنساني وامتداداً مُتسامياً لوجوده المادي، إذ تستحيل الغرائز والأحشاء والدم والمسام والرغبات كلماتٍ وأفعالاً لغوية وظلالاً لسانية، تتدفق من منابع "ليبيدية" أكثر منها سوسيوثقافية، ويُفضي تراكبها إلى خلق أنماط دلالية وشكلية وأسلوبية يحتويها على وجه الخصوص جنس السيرة الذاتية الذي لا يعدو كونه تاريخ جسد المبدع. وفي هذا الإطار يلاحظ هشام العلوي أن معظم النصوص السردية العربية التي تندرج طيَّ مدارات البوح والمُسارّة والحكي الاستعادي والتأريخ للأسطورة الشخصية، سواء كان مبدعوها إناثاً أو ذكوراً، تمور على مستوى بنائها الموضوعاتي بأسئلة الجسد وهواجس الهوية وجروح الانتماء الجنسي. وفي سياق مقاربته هذه البنية الدلالية المُلِحة كما هي متحققة في أعمال تنتسب إلى الشجرة "الأجناسية" للأدب الشخصي توقف الباحث في شكل خاص عند أسئلة الجسد ورُهاب الأنوثة في "الخبز الحافي" سيرة محمد شكري الذاتية الشهيرة، قبل أن يحلل الطريقة التي تمت بها جَسْدَنَة الذاكرة في محكي "لعبة النسيان" الرواية التي تسلط الكثير من الأضواء على لحظات مختارة من سيرة كاتبها محمد برادة، ليخلص في الأخير إلى أن "الكتابة حينما تروم الإستراتيجية الاستعادية أو الأوتوبيوغرافية تُمسي رحلة عودة إلى زمن البدايات، إلى الرحم الذي تخلَّقَت فيه شخصية المؤلف، ونحت قسماتها المورفولوجية والنفسية والسلوكية. والجسد، بما تهيأت له من مهارات وخبرات وعادات إيمائية وتجارب حسية، هو الأثر الدال على ماضي المؤلف، والحامل هويته، والمستند الوحيد القادر على إرجاعنا إلى عهود الطفولة وبواكيرها".
الحياة
2005/04/5