معظم الجوائز الأدبية في العالم العربي تذهب إلى الأدباء الكبار أو المكرّسين. الأدباء الشباب لا يحصدون سوى النصائح وبعض عبارات التشجيع والشهادات التي يتكرّم بها عليهم أساتذتهم أو الأدباء الذين يكبرونهم سناً وتجربة.
حتى الآن لم تبرز جائزة عربية مهمة تتوّج أدب الشباب في العالم العربي وتساعد هؤلاء الأدباء مادياً وليس معنوياً فقط، وتتيح أمامهم الفرصة كي يتمكنوا من نشر أعمالهم وتوفير بعض الامكانات التي تخفف عنهم وطأة الهموم الكثيرة التي تكتنف حياتهم.
الجوائز القليلة الموجّهة إلى هؤلاء الأدباء هي جوائز خجولة في معظمها، جوائز معنوية أو رمزيّة وبعضها محليّ أو إقليمي، ورسمي و"حزبي" في أحيان. وهي غالباً ما تخضع لاعتبارات عدة وتوجيهات ومبادئ جاهزة ونادراً ما تسعى فعلاً إلى اكتشاف المواهب وتكريمها وتبنّيها وخوض "معاركها" الأدبية.
يستحق الأدباء الشباب العرب أن يحظوا بجوائز تغطي حقول الرواية والقصة والشعر وتدعمهم في مقتبل حياتهم الأدبية وتلفت الأنظار إليهم وتلقي ضوءاً على أعمالهم وتجاربهم! ولعل جوائز كهذه لا تخلق فقط نوعاً من المنافسة الأدبية الجميلة بل قد تساهم، ان كانت جوائز حقيقية، في بلورة الأدب الشاب وفي تصنيفه وترسيخه كأدب سيصبح لاحقاً أدب المستقبل! وعلاوة على كشف هذه الجوائز مواهب جديدة وأقلاماً جريئة فهي تساعد على جعل هذا الأدب الشاب في صميم الحركة الأدبية وليس على هامشها. وقد تساهم أيضاً في خلق حوار حقيقي بين هؤلاء الشباب والأدباء المكرّسين، حتى وان أدّى الحوار إلى الاختلاف وليس إلى الإلغاء طبعاً.
قبل سنة خصّصت إحدى الفصليات الفرنسية (مجلة العالمين) عدداً كاملاً عن الأدب الشاب تحت عنوان "جيل وأدب" وانطلق من سؤال جوهري: "مَن هم الأدباء الشباب؟" وحاولت المداخلات ان تجيب عليه، راصدة ظواهر الأدب الشاب واتجاهاته والهموم التي تشغله فنياً وفكرياً. وبدت الاحاطة به على شيء من الصعوبة، فعبارة "الأدب الشاب" فضفاضة وملتبسة بعض الالتباس. فمرحلة "الشباب" لا يحصرها عمرٌ ما ولا جيل ولا حقبة معيّنة، وقد يبدأ البعض في الكتابة متأخراً على خلاف البعض الآخر الذي يبدأ باكراً جداً في أحيان. ناهيك بالمتناقضات الكثيرة التي تعتري عالم الأدباء الشباب والتي تجعله عرضة للكثير من النقد، سلباً وإيجابا.
وان كان الأدباء الشباب في العالم العربي لا يحظون بالاهتمام المفترض والاحتضان الجدي والتشجيع لأسباب عدة وفي مقدمها طابعهم الهامشي وحريتهم الشخصية وتمردهم على "الآباء"، فأنّ الأدباء الشباب في أوروبا وأميركا يتنعمون بالكثير من الجوائز والمنح والفرص المهمة والدعم المالي والمعنوي. وبعضهم يتمكنون خلال سنوات قليلة من فرض أدبهم وأعمالهم ويحظون بإقبال لافت من القراء والنقاد...
يصعب فعلاً التعامل مع أدب الشباب بخفة ولا مبالاة وكأنّ هذا الأدب لا ينتمي إلى صميم التجربة الأدبية أو كأنه في أسوأ الأحوال أدب البدايات الذي لا يلبث الكثير من الأدباء أن ينكروه أو يتناسوه. ويصعب كذلك تهميش هذا الأدب أو تجاهله وتدجينه والحكم عليه حكماً مسبقاً وعدم قراءته والاعتناء به وإيفائه حقّه! وهذا ما يحصل غالباً في عالمنا العربيّ.
ولعلّ العودة إلى التاريخ الأدبي في العالم تؤكد كم أن بعض الأدباء الشباب حضروا بشدّة في فترة يناعهم وأصبحوا كباراً وروّاداً وهم لم يتخطوا الثلاثين. بل ان بعضهم ظلّوا شباباً بعد أن أصبح أدبهم مكرّساً ورائداً وطليعياً يقبل عليه الأدباء الكبار أنفسهم ويتأثرون به ويحاكونه. والأمثلة أكثر من أن تحصى، ويكفي تذكّر ارتور رامبو الشاعر الفرنسي الفتى الذي حقّق نقلة كبيرة في تاريخ الشعر الفرنسي أو مواطنه الشاعر الفتى لوتريامون الذي اكتشفه السورياليون وجعلوه أحد رموزهم وكانت "أناشيده" محطة في تاريخ قصيدة النثر و"الكتابة السوداء" والرواية الحديثة. وهناك طبعاً الألماني نوفاليس الذي كان خير من صهر اللحظة الشعرية في اللحظة الفلسفية كاتباً أجمل "الأناشيد" الطالعة من ليل الوجود. وهناك مواطنه الألماني غيورغ تراكل والأميركية سليفيا بلاث وسواهما... وان غيّب الموت باكراً مثل هؤلاء الأدباء الشباب فهم لم يلبثوا أن أصبحوا بمثابة "المنارات" في الحركة الأدبية العالمية.
وليس من المستهجن ان يقول البعض ان الجوائز تنعكس سلباً على الأدب الشاب كأنْ يقع الأدباء الشباب في حالٍ من الغرور والادعاء فلا يواصلون طريقهم كما يجب أو كأن تسيء المنافسة على الجوائز إلى الصنيع الأدبي نفسه وتوقعه في أسر هاجس الفوز والشهرة... ولكن إن كانت الجوائز حقيقية وغير خاضعة لأي اعتبارات خاصة أو نيات فهي تساعد كثيراً على إحياء الأدب الشاب لا من خلال دعمه مادياً ومعنوياً فحسب وإنما في إلقاء الضوء عليه ونقله من الهامش إلى "المتن"، وفي توطيد علاقته بالأدب الرائد والمكرّس.
ترى لماذا تصرّ المؤسسات العربية التي تمنح الجوائز الأدبية، على منح الأدباء جوائزها في أعمار متقدمة؟ ألا يحق للأديب ان ينال جائزة في ريعان شبابه وفي مطلع حياته الأدبية؟
******
الجوائز المخصصة للأدب الشاب نادرة في العالم العربي، وتدل ندرتها على عدم ايلاء هذا الأدب ما يستحقه من اهتمام ومتابعة.
قبل أيام فاز الشاعران الشابان ياسين عدنان (المغرب) وعلي الشلاه (العراق) مناصفة بجائزة الشاعر بلند الحيدري التي يمنحها مهرجان أصيلة سنوياً.
وقبل أيام أيضاً أصدرت دار الآداب كتباً ثلاثة لثلاثة أدباء فلسطينيين فازوا بجائزة "الكاتب الشاب" التي تمنحها مؤسسة عبدالمحسن قطان للأدباء الفلسطينيين الشباب، والأدباء الفائزون هم: علاء حليحل (قاص)، ماجد عاطف (قاص) وبشر شلش (شاعر).
واستحدثت وزارة الثقافة في سورية أخيراً جائزة للروائيين السوريين الشباب تحمل اسم "جائزة حنا مينه" وستمنح خلال شهر.
تثير هذه الجوائز، إضافة إلى جائزة "الإصدار العربي الأول" التي تمنحها دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة وسواها من الجوائز المحلية قضية "الأدب الشاب" وما يعاني من إهمال أو لا مبالاة في العالم العربي.
هنا قراءة في الأعمال الفلسطينية الشابة الفائزة وفي ديوان الشاعر المغربي ياسين عدنان، إضافة إلى مقال عن باكورة أولى لشاعرة مصرية شابة.
عن دار الآداب صدرت حديثاً مجموعتان قصصيتان هما "متون" لماجد عاطف و"قصص لأوقات الحاجة" لعلاء حليحل، ومجموعة شعرية، هي "حصاد العاصفة" لبشير شلش. والثلاثة كانوا حصلوا على جائزة الكاتب الشاب لعام 2002 التي نظمتها مؤسسة عبدالمحسن القطان التي تأسست عام 1994 في لندن والتي تقدم، ضمن برنامجها الثقافي، منحاً وجوائز سنوية في مجالات عدة وتتولى تشجيع الكتّاب الشباب الفلسطينيين ودعمهم على نشر نتاجاتهم ونصوصهم.
لا بد من ان الإصدارات الثلاثة تقترح أكثر من شكل للقراءة وتحمل إشارات مختلفة ومتعددة إلى ما يمكن كتابة شابة وجديدة أن تطرحه من انضواء تحت أساليب وعناوين عدة أو من تجنب لتلك الأساليب والعناوين. ولا بد أن كل إصدار، على حدة، يقدم طموحات ذاتية على مستوى التجربة الشخصية لكل كاتب من هؤلاء الثلاثة، خصوصاً ان هذه الإصدارات لا تمثل بداياتهم. إنها ليست كتبهم الأولى، لا تعود القصص إلى نصوص أولية لماجد عاطف الذي سبق أن نشر مجموعته "الطفو" التي فازت بجائزة المؤسسة نفسها عام 2001 وقبلها نشر مجموعته الأولى "هوامش"، وهذا ينطبق تقريباً على زميله علاء حليحل الذي سبق أن أصدر "السيرك" وهي روايته الأولى، وهذه هي حال الشاعر بشير شلش الذي صدرت له من قبل مجموعتان شعريتان هما "أرق أوسمة مستوحشة ونوارس" و"سماوات واطئة" على رغم أنه أصغر الثلاثة سناً (مواليد الجليل 1978).
الأرجح ان الانتماء الفلسطيني للثلاثة والتقارب العمري بينهم، إضافة إلى فوزهم بالجائزة في العام نفسه، تجعل تناولهم معاً والنظر إلى تجاربهم ونصوصهم ممكناً على رغم صعوبته، فبالنسبة لقصص المجموعتين لا يستطيع القارئ ان يتفادى دلالات عدة تتعلق بالسرد القصصي الفلسطيني (والعربي عموماً)، إضافة إلى تأثيرات المكان ومضامين القصص وشخصياتها والإرث الذي تُذكِّر به القصص والشخصيات معاً. وفي الواقع فإن أول ما يلفت الانتباه في قصص علاء حليحل هو انشقاقها الحاد عن التراجيديا الفلسطينية بصورها المختلفة. وقد يظن القارئ، للوهلة الأولى، أن إقامة الكاتب في حيفا تبعده جغرافياً وسياسياً عن المشهد الذي تحتله الحياة الفلسطينية المأسوية، وقد يحلو له التفكير بأن ذلك وحده مبرراً وحجة الانشقاق. وإذا كان هذا الظن مقنعاً بالنسبة لكثيرين فأنّ جزءاً مهماً مما يكتبه حليحل، في رأيي، عائد إلى خيارات أسلوبية ومضمونية وشكلانية.
قصص ساخرة
وإذا كانت الجائزة منحت لمجموعته لأنها تتميز بأنها "ممتعة وطريفة وجريئة"، وتقدم "قصّاً يقوم على علاقات الشخوص بعالمهم اليومي المديني" إلا أن هذا يجب ألا يطغى على الصفة الأكثر أهمية لقصصه وهي السخرية. علاء حليحل يكشف في قصصه عن موهبة لافتة في اختراع الحدث وسرده وتقديم الشخصيات وبناء القصة كما لو أنها حكاية مختصرة أو موقف سريع أو مفارقة عابرة، ولكنه قادر على شحن كل ذلك بسرد ذكي وخفيف. وهذا ما يظهر واضحاً في قصة "الحمار" التي تروي أخباراً عن حمار كان مخلصاً لصاحبه بما يذكر بإخلاص أو وفاء الكلاب إلى درجة ان الحمار ينبح في نهاية القصة قبل أن يموت. وكذلك في قصة "أولويز ذات الأجنحة" التي تدور حول شاب تطلب منه صديقته ان يشتري لها علبة فوط نسائية من الصيدلية وهناك يفاجأ بوجود صديق له ويحاول أن يداري حرجه! هذا الجوّ الساخر يطالعنا أيضاً في قصتي "السجادة" و"الحرب".
السخرية، للمصادفة، جزء من عالم قصص ماجد عاطف أيضاً ولكنه ينجح في إثارة أكثر من نوع واحد من السخرية. فإلى السخرية الكامنة في العفوية والارتجال في قصص مثل "الحاجز" التي تجري أحداثها في لبنان ويُميّز فيها الفلسطيني على الحواجز من طريقة لفظه لكلمة بندورة، أو مثل "إسدال جفن" عن طفل يسأل أباه، الذي يستمع إلى أغنية لأم كلثوم، عما إذا كان أحد قد ضربها لأن غناءها بالنسبة إليه كان يشبه العياط (البكاء)!! إضافة إلى هذا يبدو ماجد عاطف أكثر تورطاً في الموضوع الفلسطيني، ولكنه لا يوفِّر هذا الموضوع من سخريته ولذعته السردية، خصوصاً بعد التطورات الدراماتيكية التي آلت إليها "القضية" بعد اتفاقات أوسلو ومراوحة الحل العادل في مستنقع الاقتراحات والوعود التي لم تُنفذ حتى الآن.
المخيلة والحياة
الموضوع الفلسطيني هنا، والمؤلف يعيش في رام الله، لا بد أنه يضغط أكثر على المخيلة ويحضر أكثر من القصص طالما أنه حاضر في الحياة اليومية نفسها. ولكن هذا الحضور يكتفي بواقعيته ومطابقته التقريبية لما يحدث فعلاً، وبهذا المعنى فإننا لا نجد في قصص عاطف غناء ونشيداً وشهداء وقذائف وحجارة، أو أي مفردات تذكر بنفوذ سردي قوي للهمّ الفلسطيني بصورته الدارجة أو، بالأحرى، التي كانت دارجة. لم يعد الفلسطيني في هذه القصص، وفي قصص أو تجارب مؤلفين آخرين بالطبع، شهيـــداً أو في سبيـــله إلى الاســتشهاد، لم يعد الــوطن هــو الشـــغل الشــاغل أو المضمون الأساسي للكتابة والسرد والحدث والأبطال.
أظن ان فيصل دراج هو الذي قال مرة ان البطل في القصة الفلسطينية هو إمّا شهيد أو مشروع شهيد، والأرجح ان قصص علاء حليحل وماجد عاطف تمثل نماذج وأصداء ايجابية لهذا القول النقدي وهي تنضاف، بالتأكيد، إلى نصوص وقصص أخرى جرّب كتابها أن يُظهروا الفلسطيني في حياته العادية شبيهاً إلى حد ما بالناس في تنوع أنماطهم ووظائفهم وأساليب عيشهم... الخ.
ومن منطلق التجربة الجديدة والشابة نفسها يمكن قراءة مجموعة الشاعر بشير شلش التي يكشف فيها عن متانة بنائية واضحة وعن موهبة لافتة في كتابة القصيدة بضربة أسلوبية واحدة، خصوصاً أن كتابته القصائد القصيرة تساعده على النجاح في ذلك. أما الصفة الأكثر بروزاً في قصائد بشير شلش فهي انشغاله بفصاحة الكلمة وأقصد بذلك قوتها ووقعها ونبرتها. الكلمات في هذه القصائد غالباً ما تكون مجلوبة من عالم الفناء والإنشاد والتصويت الإلقائي المعتمد بدوره على موسيقى متخيلة ومسبقة وصارمة أحياناً. وعلى رغم ان الشاعر لا يرهق نفسه كثيراً بالوزن والإيقاع إلا أن في كتابته شيئاً يُذكر، بوضوح وقوة، بقصيدة التفعيلة وخصوصاً في تجاربها الفلسطينية.
وبهذا المعنى يبدو بشير شلش وكأنه لم يعثر بعد على جملته الأثيرة والمفضلة أو أن ازدواجيته الشعرية تمثل خــياراً أو لغة يصعب تجنّبها والهرب منها. فالشاعر يجب أن تعلو لغته على الواقع حتى حين يصفه بل إنها تعلو كثيراً إلى أن يغيب خيط المعنى وتتحول الكتابة إلى رفرفة لغوية لعبارة مجنحة كما في قصـيدته الأولى مثلاً: "في البدء/ كانت الجهات جروحاً في سرّة الأرض، والأجساد/ تواقيع الريح على رقعة العدم/ كانت الجمهرات والدم/ الذي سال من إبط غيمة/ ليروي رماد السلالة". وفي المقابل يمكن القارئ ان يجد عبارة ممسوكة ومعنى واضحاً يتــماوج في صور وتكوينات شفافة على رغم ان الــشاعر لا يتخلّى تماماً عن هوايته في التحليق أحياناً، وهذا ما نراه في قصائد عدة مثل "اســبريسو" و"دروب مطرية" و"مواجهة النافذة" حيث يمكننا أن نقرأ: "ثلاثة كراسٍ من القش/ في مواجهة النافذة/ يجلس الرجل على الوسطى/ وعلى جانبيه الغياب والحزن/ ينخران مفاصل الخشب/ ثم تغيم السماء الصغيرة بعد شرفته/ فجأة/ وتمطر على العشب/ دونما سبب".
من الواضح ان هناك فرقاً واضحاً، وعلى مستويات عدة، بين الصورتين، والأرجح أن هذا عائد إلى تعلّق الشاعر باللعب على عالمين أو مناخين ما زالا متداخلين ومختلطين، عالم الكتابة وعالم الإنشاد!
الحياة 2003/08/21
إقرأ أيضاً