جمع الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي مقالاته المعادية لقصيدة النثر في كتاب سمّاه «قصيدة النثر أو القصيدة الخرساء» (منشورات مجلة «دبي الثقافية»). لكن جمع هذه المقالات لم يصنع منها كتاباً وان دارت كلها حول قصيدة النثر. بل ان قراءتها في كتاب أفقدها بريقها الصحافي ولم يمنحها شرعية نقدية تبرّر صدورها في كتاب. هذه المقالات لا تستحق مراجعة نقدية ما دامت «عجالات» حمّلها الشاعر «التفعيلي» الرائد كراهيته لقصيدة النثر وشعرائها، لكن هذه الكراهية التي تبلغ أوجها هنا قد تكون حافزاً على نقدها وتعريتها لئلا أقول فضحها. انها عجالات كتبها الشاعر متسرّعاً في معظم الأحيان، لا تحمل اسم مرجع ولا مصدر على رغم خطورة القضية التي تثيرها وجسامة الموقف العدائي الذي تشي به. ولم تحمل هذه العجالات جديداً ما خلا المغالاة في الإلغاء وفي البغضاء والاتهام. وعلى غارب عادته، يكرّر حجازي رفضه لهذه القصيدة التي يعدّها «تجربة لم تكتمل ولم تنضج ولم تقنع أحداً أنها صارت جديرة بالوجود». وهو على قناعة تامة بأن هذه القصيدة لم تتمكن بعد أكثر من قرن على ظهورها أن تكون قصيدة أو شعراً...
لعلّ مأزق أحمد عبدالمعطي حجازي يكمن في خوضه سجالاً في حقل لا يلمّ به تماماً وهو حقل الإيقاع في تجلّياته كافة، سواء في الشعر أم في النثر. وان كان يستحيل انكار معرفته بالعروض والأوزان والتفاعيل، فهو حين يتحدث عن الإيقاع والوزن، وعن الشعر النثور وقصيدة النثر، محرّفاً قراءته للناقدة سوزان برنار أو الناقد جان كوهين – اللذين قرأهما في ترجمتهما العربية – يبدو كأنه يخبّط «خبط عشواء»، متعثراً في متاهة المصطلحات النقدية التي لا علاقة له بها. ولئن كان يتباهى بمرجعيته الفرنسية، مسمّياً نقاداً وشعراء فرنسيين، فهو لا يبدو على المام بهذه المرجعية. فالشاعر لم يقرأ، بحسب ما ينمّ به نقده، أيّ مرجع نقدي عن قصيدة النثر أو عن مفهوم الإيقاع. حتى قراءته للناقدة سوزان برنار مجتزأة جداً وغير قويمة. وليته قرأ ما صدر بعد كتابها من كتب جديدة أفاضت في تناول قصيدة النثر وأضاءت أسرارها. ويكفيه أن يعود الى قوائم الكتب في هذا الحقل ليتبيّن من ضآلة مرجعيته الفرنسية. وفي هذا الصدد لا بدّ من لفت نظر شاعرنا الى كتاب هو بمثابة مرجع علمي حول الإيقاع عنوانه «بحث في الإيقاع شعراً ونثراً» وقد وضعه الشاعر هنري ميشونيك والناقد جيرار ديسون، وفيه يقولان: «ليس من لغة بلا ايقاع... كل نص هو ايقاعي»، ويضيفان: «لا يمكن أن يكون الإيقاع وقفاً على نوع من الخطاب وبخاصة الخطاب الشعري. هذا «التخصيص» ينبع من الخلط بين الإيقاع والمبدأ العروضي في الشعر الموزون».
قد يحق لأحمد عبدالمعطي حجازي أن يأخذ على بعض شعراء قصيدة النثر ارتكابهم أخطاء في الصرف والنحو، لكن هذه الأخطاء لا تقع فقط في قصيدة النثر وانما أيضاً في قصيدة التفاعيل وفي القصة والرواية. وهذا ما أشار اليه أصلاً الناقد جابر عصفور عندما انتقد بعض قصائد النثر التي وجدها ركيكة وضعيفة وخلواً مما يسميه «الضوابط الداخلية». وهذه مقولة مهمة جداً ابتدعها ناقدنا جاعلاً منها معياراً من معايير قصيدة النثر التي رحب بها. ولكن أن يتهكم حجازي من عصفور مسمّياً اياه «الناقد النحرير» فهذا أمر لا يندرج في سياق النقد. فجابر عصفور ليس ناقداً حاذقاً وماهراً وبصيراً – وهذه من مرادفات النحرير – بل هو الناقد الوحيد الذي رافق حركة الشعر الحديث بعمق وشمولية وأحاط بها من جوانبها كافة. وكتبه في نقد الشعر الحديث مراجع لا بد من العودة اليها لقراءة مرحلة القصيدة الحديثة وما قبلها.
لا شك في أن مشكلة حجازي مع قصيدة النثر هي مشكلة شخصية. هل يمكن شاعراً أن يحقد على قصيدة وعلى شعراء مثل هذا الحقد؟ هل يمكن الغاء اسماء كبيرة في قصيدة النثر من المراجع والمعاجم؟ ولعل المأزق الشعري الذي يحياه شاعر «أشجار الإسمنت» لا تقع تبعته على الشعراء الجدد والشباب كي يُصدر حكماً يلغي به الشعر العربي في الأعوام العشرين الأخيرة.
الحياة
17/11/2008