الشاعر أكرم قطريب واحد من مجموعة شعراء يمكن وصفها بالموجة الجديدة في ال شعر السوري، والتي ظهرت ملامحها في نهاية الثمانينات من القرن الماضي. لكننا عندما نقول الموجة الجديدة فإننا نعني التغيرات الجوهرية التي طرأت على مزاج الكتابة الشعرية في سورية، والتي ارتهنت، لفترة طويلة، للخطابية واللغو ولشيء واضح من الاتجاه إلى الملفوظ، كأن يعلو الشفوي على الكتابي لسببين أساسيين، الأول هو مدى الارتباط والتلاحم غير المشروط بين محفوظات الشعر العربي التقليدي والتجارب الجديدة التي برزت مع جيل السبعينات ولم تفك الارتباط إلا لمصلحة المصدر الأول - التقليد. أما السبب الثاني، فهو دور التعبئة السياسية والإيديولوجية منذ بداية الستينات إلى نهاية السبعينات، والتي عززت من جماهيرية الشعر وما سمي، آنذاك، بالالتزام. هذان السببان منحا شيئاً من المناخ اللغوي الخطابي، أو لنقل الجماهيري، للكتابة الشعرية، وجعل من مسألة "الكتابة" موضوعاً شائكاً في وجه "القول". فالأولى ترتكز إلى الفردي اللاشعوري، أما الثاني، فيرتكز إلى الشفوي والمنطوق. وفي ظل هذا التنازع بين الكتابة والقول ظهرت الموجة الجديدة مع جيل الثمانينات، كرياض الصالح الحسين ونوري الجراح ولقمان ديركي وحسين درويش وحسن وسوف وسواهم من الذين انحازوا إلى اليومي والجزئيات والتفاصيل في وجه الشمولية والخطابية، وهي المرحلة التي ابتدأ فيها التغير الجوهري في الشعر السوري. والى هذه المرحلة يعزى الانحراف في هذه التجربة التي وقعت لفترة طويلة أسيرة الارتباط غير المشروط مع التراث.
المرحلة الثانية من التغير عُبِّر عنها في مرحلة التسعينات، لسبب أساس آخر، هو أن أبطال التغيير اليومي الجزئي، جيل الثمانينات، ارتهنوا، نوعاً ما، إلى التفاصيل، حتى غدت التجربة الشعرية سيرة ذاتية للشاعر.
ما حصل مع شعراء التسعينات هو البناء على التغير الذي أجراه "اليوميون"، وإحداث نوع من المعادل الموضوعي بين اللغة والتجربة، البلاغة والحدس. أعاد التسعينيون مسألة البلاغة إلى واجهة العمل الشعري في ميلهم الواضح إلى المنطوق على خلفية التغيير الذي جرى في الثمانينات. هذا التغيير على التغيير ما زال مثار جدل، وليس من المتفق عليه الآن ان نصاً على آخر ينبني، أو تكويناً على آخر. بل إن بوادر "أزمة" شعرية ترتسم في الأفق في الوقت الذي ينبني التغيير على تغيير آخر، وأفرزت التسعينات الشعرية أسماء متعددة منها: محمد فؤاد وعمر قدور وخضر الآغا ونديم دانيال وصالح دياب وعابد إسماعيل وأحمد محمد سليمان وأحمد ديبو وحسين بن حمزة وأكرم قطريب. لكن الملاحظة الأساسية في الأسماء، تلك، إنها لا تمثل، في الضرورة، وحدة متضامنة، بل على العكس من هذا. ففي التسعينيين يبرز "الانشقاق" الذي أشرنا إليه آنفاً. وشاعر مثل حسين بن حمزة يكتب غير ما يكتبه عابد إسماعيل، مثلاً، بل وفي لغة أخرى وأسلوب آخر ومضامين.
صدر الكتاب الشعري الأول لأكرم قطريب عام 1995 "أكان، أحرث صوتك بناي" وكتابه الثاني "أقليات الرغبة" عام 1998. أما كتابه الذي بين أيدينا الآن، (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت - 2003)، فهو "مسمّراً إلى النوم كابن وحيد". نجد في هذا الكتاب شيئاً من "الانشقاق" عندما نقترب من المستويين اللذين ما زالا في إطار من الصراع والتجريب: البلاغة والتفاصيل، أو اللغوي والحسي. ففي مثل تجربة كهذه يعبر بأصالة عن الأزمة، والأزمة نعني بها الأوليات الصانعة للمختبر الشعري، وليس الأزمة بالمعنى التقويمي المعياري. لتصبح ولادة الأزمة، اكتشافها وحضورها، ولادة للشعر. كما كان في تاريخ الشعر العربي، وكما عبر الناقد الموسوعي الذي رحل، إحسان عباس، في كتابه "تاريخ النقد الأدبي عند العرب" بقوله: "لم يأت ناقد شعري في العصر العباسي إلا واعتبر الشعر في أزمة"! وهو ما يختصر ما ذهبنا إليه، خصوصاً إذا تذكرنا أن العصر العباسي هو عصر الشعرية العربية، توهجها وتغيرها. إذاً، الأزمة الشعرية، شعرٌ، معايير تدخل صراع البقاء للأجمل، فحصٌ لا متناهٍ للأدوات. وهو ما يجعل من اكتشاف الأزمة اكتشافاً للشعر.
في "مسمراً إلى النوم كابن وحيد" نقرأ مستوى من الكتابة يعطى للأنا الشاعرة، ما يحمله الدمج من التباس يفيد الفكرة التي نشتغل عليها لجهة التجربة الشخصية، ومظاهرها في اليومي والتفاصيلي، وهو الجزء الذي جسَّمته تجربة الثمانينات. نقرأ عند قطريب: "أبلينا الثلاثين/ ونحن نتكئ على الثياب/ التي رشحنا منها/ أحفاداً ضالين بالأنفاس/ مخذولين بالجدران/ والصرخات المرسومة في زوايا التلف".
هذا جانب من أثر التغيير المهم الذي أجراه الثمانينيون. لكن جانباً، في المقابل يتجلى بقوة في تجربة قطريب، وهو ما اعتبرناه تغييراً على التغيير حيث تتأكد الصورة الشعرية والمجال البلاغي المحيط. وتداخل مستوى أدوات التعبير اللغوية، أو تحول الصراع بين نقيضين إلى تجاذب لا منظور بينهما - في الكلام عن البلاغة والحس - يحمل شيئاً من الاقتراح الشعري التسعيني الذي أغفِل، جزئياً، في الثمانينات، يعبر عنه قطريب في أكثر من مكان: "المتأكدون من عملة الصبر/ في الممر كانوا ينطفئون/ ومن دون أي انتباه أتوا حاملين الجرود على السحنات/ دعسة الظلال المقلمة تحت جفونهم/ مفكرة الندم / مائلين قرب قاماتهم كأبواب مخلّعة". في مثل هذا المقطع تجد القراءة المتمرنة مظاهر التغيير، بل الدمج وتحويل الصراع إلى تجاذب، من داخل، لتعكس الكتابةُ، الأزمةَ، ولتعكس الأزمةُ الشعرَ. هكذا في تلاحق غامض يؤكد الشعرية وهي في أقصى حالات القلق والتأثر، الخوف والاكتشاف. وهو اقتراح عكسته تسعينيات كثيرة، لكننا لا نتحدث عنها، الآن، إلا في مكان محدد، الشعر السوري. أما إذا وسعنا إطارها فنجدها في لبنان، مثلاً عند علي مطر وفي الأردن عند أحمد النسور وفي اليمن عند أحمد السلامي وسواه من شعراء اليمن الجدد الذين يعبرون عن أقصى حالات التوتر والقلق الشعريين إلى درجة باتوا يمتلكون فيها مختبرهم الشعري الغني الذي، للأسف، لم يطلع الكثير من القراء العرب عليه.
أكرم قطريب، الذي يقيم الآن في الولايات المتحدة الأميركية، واحد من موجة التغيير العاكسة لأصالة الربط المشروط بين اللغة والحس، البلاغة واللاوعي، المشروط لأن كلمة الفصل في العلاقة بين الموروث واللحظة الشعرية يحددها الاقتراح الذاتي، وليس الاقتراح المعطى، الخارجي، بل الحدسي القائم على "تشغيل" برنامج الحواس على خلفية الكلام، الكلام الذي هو بيت الشعر، الكلام/ الكتابة، في تبادلية يجب ألا تحسم، بل يجب ألاّ تقع تحت طائلة الحجز المعياري.
الحياة 2003/08/28
إقرأ أيضاً: