عن دار النشر الفرنسية Actes Sud، وبالتعاون مع معهد العالم العربي في باريس، أصدر المؤرخ والناقد والناشر السوري الصديق فاروق مردم بيه كتاباً صغير الحجم (94 صفحة) ثمين المحتوي هو أنطولوجيا الشعر العربي المعاصر ، للفتيان هذه المرّة، مزيّناً برسوم من التشكيلي الجزائري رشيد قريشي. والمختارات، ثنائية اللغة، تضمّ قصائد من جورج شحادة، محمد ديب، نزار قباني، نازك الملائكة، بدر شاكر السياب، عبد الوهاب البياتي، كاتب ياسين، أدونيس، سعدي يوسف، محمد الماغوط، أحمد عبد المعطي حجازي، أنسي الحاج، سميح القاسم، أمل دنقل، عبد اللطيف اللعبي، محمود درويش، عباس بيضون، قاسم حداد، محمد بنيس، ومحمد الصغير أولاد أحمد.
وكما كانت الحال في مختارات سابقة ثنائية اللغة ( قصائد من الشعر العربي ، 1999، التي ضمّت مزيجاً من القديم والحديث؛ و الشعر الأندلسي ، 2006، برسوم من قريشي أيضاً)، لم يقتصر ذكاء اختيار القصائد علي اعتماد أفضل المعايير لتمثيل خصوصية الشعراء الأسلوبية فحسب، بل كذلك علي ترسيم أكبر مقدار ممكن من تفاصيل الصورة الجمالية لمشهد الشعر العربي في هذه الحقبة أو تلك. وأمّا في المختارات الجديدة فإنّ الذكاء القديم انطوي هذه المرّة علي مفاجأة خاصة، مباغتة بقدر ما هي جسورة: أنّ قصيدة نزار قباني ليست عمودية ولا تفعيلية، بل... قصيدة نثر!
و درس في الرسم قصيدة فاتنة حقاً، تقوم علي حوارية بين فتي وأبيه حول سلسلة رسومات تنتهي إلي مفارقات نقيضة (يطلب الابن من الأب أن يرسم عصفوراً فيرسم مربعاً عليه قفل وقضبان، والبحر يصبح دائرة سوداء، وسنبلة القمح تصير مسدساً، إلي أن يطلب الابن سماع قصيدة فتسقط من الأب دمعة، لأنّ الكلمة والدمعة شقيقتان ، و القصيدة العربية ليست سوي دمعة تخرج من بين الأصابع ). وأمّا مفارقة الختام فهي التالية: يضع ابني أقلامه وعلبة ألوانه أمامي/ ويطلب منّي أن أرسم له وطناً/ تهتزّ الفرشاة في يدي/ وأسقط باكياً... .
مبعث المفاجأة أنّ نزار قباني (1923 ـ 1998) شاعر عمود وتفعيلة أساساً، وهو في الشكلين مجرّب متمرّس وصانع ماهر ومعلّم كبير، وقصائده النثرية لا توضع محلّ مقارنة مع قصائده الموزونة، من باب إنصاف شعريته وليس التقليل من قيمة وسيط النثر. ولكنّ قباني كان، وصار أشدّ خلال العقدين الأخيرين من حياته، ديمقراطياً في موقفه من أشكال الكتابة الشعرية: القصيدة الحرّة اجتهاد في نظره، وكذلك قصيدة التفعيلة و القصيدة الدائرية وقصيدة النثر، هذه التي لا يجوز لنا أن نطلق الرصاص عليها بتهمة الخيانة العظمي، أو بحجة أنها تقول كلاماً ليس له سند أو شبيه في كتب الأولين. إن من مصلحة القصيدة العربية أن تترك باب الاجتهاد مفتوحاً. وإلا تحوّلت إلي قصيدة فاشستية. أو إلي قصيدة من الخشب ، كما جاء في تقديمه لكتاب محي الدين صبحي الكون الشعري عند نزار قباني 1982.
ولأنه صانع الشعر الماهر، فقد استشعر الأنواء والأعاصير والعواصف، أو مجرّد سوء الأحوال الجوية، في جمهورية الشعر كما كان يحلو له أن يقول، فأحسن تحصين بيته: إنني لم أتوقف لحظة من اللحظات عن تغيير جلدي. إنني أعيش دائماً في حالة حذر وخوف من الآتي. إنني أشعر دائماً أنني أقف علي أرض لا ثبات لها، وأن خيول الشعر تركض من حولي بالمئات (...) آخر تجربة لي كانت مائة رسالة حب ، وفيه تركت مواقعي القديمة لأخرج إلي برهة قصيدة النثر، حيث السماء أرحب، والحرية تقطف بالأصابع ، كما جاء في حوار مع منير العكش يعود إلي أواخر السبعينيات. وبعد مجموعته مئة رسالة حب ، 1970، أفرج قباني عن طائفة أخري من قصائد النثر، في مجموعته كل عام وأنت حبيبتي ، 1978، ثم ضمّ قصائد نثر متفرّقة في مجموعات أخري.
مدهش، مع ذلك، أن تلك السماء التي يشير إليها لم تكن رحبة معه دائماً، كما كانت حالها مع سواه من شعراء قصيدة النثر المتمرسين، حتي أن بعض قصائدة النثرية بدت ببرودة الصقيع، والجملة الاستعارية فيها بلغت مستوي مفاجئاً من الفقر التعبيري والمجازي معاً. وهكذا، لم يكن مألوفاً أن رسّام الكلام، الفصيح الرشيق الأنيق المباغت الطليق، يمكن أن يكتب التالي: كلّ عام وأنت حبيبتي/ أقولها لكِ بكلّ بساطة/ كما يقرأ طفل صلاته قبل النوم/ وكما يقف عصفور علي سنبلة قمح/ فتزداد الأزاهير المشغولة علي ثوبك الأبيض زهرة . وعشرات النماذج التي كتبها في هذا الخيار الشعري ظلّت في معظمها تحوم علي حافّة غائمة بين الشعر والنثر المُشَعرَن والقول المجازي الصرف، ولم ترْقَ إلي مستوي قصيدة النثر في نماذجها العربية المتقدمة.
لا أستطيع الجزم حول دوافع فاروق مردم بيه في اختيار قصيدة نثر من قبّاني، وما إذا كانت فتنة هذه القصيدة تحديداً قد شدّته أوّلاً، او أنه أراد أيضاً التشديد علي تعدّدية الأشكال الشعرية فضرب هذا المثال المفاجيء، أو شاء لـ درس في الرسم أن تمثّل هذين الاعتبارين معاً، وسواهما. أستطيع، في المقابل، الجزم بأنّ المفاجأة كانت في ناظري بهيجة تماماً، و... ضربة معلّم!
القدس العربي
9-4-2007