تسعى هذه الورقة، في غرض أوّل، إلى مناقشة عدد من الخصائص التي ميّزت قصيدة ثريا ملحس، في الشكل وفي المحتوى، والتي تبدّت على نحو رفيع وعالي النضج منذ مجموعتها الأولى المبكرة "النشيد التائه"، بيروت 1949، وما سيتواصل أو يتطوّر أو يتبدّل من خصائص مماثلة في المجموعات اللاحقة التي تجاوزت العشر حتى العام 2001 (1) . كما تسعى الورقة، في الغرض الثاني، إلى وضع تلك الخصائص في سياقات تاريخية وجمالية تخصّ حركة الشعر العربي أواخر الأربعينيات ومطالع الخمسينيات، على نحو يتيح تثمين تلك المجموعة الأولى بوصفها تمثّل نقلة ريادية أساسية في ما سيُعرف بعدئذ تحت تسمية "قصيدة النثر" العربية من جانب أوّل، وكذلك على صعيد الطابع الطليعي الفريد الذي مثّلته المجموعة ضمن شعر المرأة العربية في تلك الحقبة، من جانب ثانٍ.
ولعلّ من الخير أن نبدأ بما تقوله الشاعرة نفسها عن مجموعتها الأولى الرائدة تلك. ففي حوار مع تيسير النجار تقول ملحس:
"كنت أكتب شعري من دون طقوس ولا قيود. من دون تسمية لها أكتب. وانما كان شعراً بلا قيود الأوزان المعروفة. لم يكن هدفي حينذاك أن أتحرر من أوزان الخليل، ولكنني ساهمت في فهم جديد للشعر عن غير قصد. أظن أنني تجرأت على نشر أشعاري في ديوان، لعلها المحاولة الأولى التي لم يسبقني اليها أحد، وذلك منذ سنة 1949، وديواني يضم ما كتبته منذ سنة 1947. لم أتردد، ولم أفكر في النقاد كعادتي، ولم أخف من ردود الفعل، لأنني حقاً لم أفكر في أي شيء. تلقاه بعض القراء بالقبول الحسن. وبعضهم بالرفض. لم يقبل علي تجربتي أي من النقاد المنظرين، لعلهم ظنوا أنها محاولة غير جديرة بالتحليل والاكتشاف، لم آبه للملاحظات المقبولة أو غير المقبولة، بل تابعت الكتابة الشعرية منذ ذلك الزمان حتى الان، مع تطور في الشكل وفي المضمون" (2).
في وسع المرء، بادىء ذي بدء، أن يصدّق ملحس حين تقول إن هدفها لم يكن التحرّر من أوزان الخليل، غير أنّ ما تسفر عنه القصائد ذاتها ليس أقلّ من نزوع عارم إلى التحرّر من قيود عديدة، تخصّ اعتبارات المحتوى والموضوعات واللغة والصورة الشعرية والمجاز، ولكنها دون ريب تخصّ الشكل أيضاً، وتتقصّد تحطيم قيود العروض والأوزان بصفة خاصة. وبالطبع، سيّان أن يكون ذلك النزوع الثوري كامناً على نحو قصدي مسبق في برهة كتابة القصيدة، أو أن يكون طغى تلقائياً على تلك البرهة وانبثق من ذات الشاعرة دون أن تخطط له مسبقاً. وتاريخ الإبداع الإنساني عرف مئات النماذج على تلك الكيمياء التي تتفاعل في القرار العميق من ذات الفنّان بصفة شبه مستقلة، أو حتى مستقلة تماماً، فتسفر عن ولادة ما نعرفه من أعمال إعجازية قائمة على أنساق تجريب فطرية وغير مسبوقة.
وبهذا المعنى فإنّ قصائد ملحس في مجموعتها الأولى تلك كانت ريادية في كلّ ما تعنيه روحية الريادة من تجاوز لقديم وتأسيس لجديد، وكانت في الآن ذاته تطلق تجربة طليعية ناضجة، هادفة في تلمّس الشكل وجادّة في التماس الموضوع، ولم تكن مجرّد اشتغال عشوائي على التجريب بقصد التجريب، حتى إذا عفّت ملحس عن توصيفه هكذا، كما يستحقّ. وتلك ريادة في قصيدة النثر كانت تتوسل الشعر في النثر بوصفه نثراً أساساً، ولم تكن تتصيّد شعرية ما دفينةً في باطن النثر كما عرفته العربية في السور القصار، أو نصوص المتصوّفة، أو النثر الفنّي العالي على غرار أبي حيان التوحيدي في "الإشارات الإلهية"، أو حتى ما اعتُبر شعراً منثوراً عند جبران خليل جبران وأمين الريحاني وميّ زيادة ورشيد نخلة ومنير الحسامي. ومن جانبي شخصياً، سبق أن أشرت مراراً إلى هذا الموقف الريادي الذي اتخذته قصيدة ثريا ملحس (3)، وأنها تندرج في تجارب ألبير أديب ونقولا قربان وأورخان ميسر وتيريز عواد، وذلك قبل أن تنطلق التجارب الأخرى على نطاق أوسع، على يد محمد الماغوط وتوفيق صايغ وأنسي الحاج وأدونيس ويوسف الخال...
وفي هذا تقول ملحس:
"في سنة 1947، وقبلها قليلاً، كنت أكتب الشعر بتجربة على غير شكل، وفي الوقت نفسه على غير موعد. كانت نازك الملائكة الشاعرة العراقية تقوم بتجربة أخرى، وبدعوة جديدة إلى فك ارتباط البيت في القصيدة العربية القديمة والاعتماد على التفعيلة وتوزيعها بحرّية على القصيدة، خارجة على البحر ذي التفاعيل الموزعة بالتساوي على شطري البيت، المرتبط بالقافية والروي. وقد وضعت تجربتها في كتاب سمته "قضايا الشعر المعاصر"، المحرر من البيت ذي الشطرين المتساويين، معتمدة على بعض البحور مكررة التفعيلة، والالتزام بالتفعيلة الواحدة الموزعة على القصيدة بقواعد جديدة. وظلت تجربتها مقيدة بلوازم البحر وجوازاته وتكرار القافية كيفما أرادت."(4)
وعلى نحو ما، تشير ملحس ـ بحقّ، في الواقع ـ إلى أنها كانت بدورها رائدة في تجاوز عمود الخليل، ولكن في الشكل الذي لاح أنه يناسب مزاجها أكثر، أي قصيدة النثر، وليس في الشكل الذي اختارته الملائكة وعُرف آنذاك باسم "الشعر الحرّ". والتاريخ الأدبي للقصيدة العربية الحديثة يتفق، إجمالاً، على أنّ قصيدة نازك الملائكة «الكوليرا» وقصيدة السياب «هل كان حبّاً»، اللتين ظهرتا عام 1947، كانتا أبكر نماذج التجديد الملموس في عمود الخليل على صعيد كسر عدد التفاعيل ونظام توزيعها التقليدي على شطرين، ولكن دون أن تنطوي التجربتان على تحطيم جذري للوزن في ذاته، وللوحدة الإيقاعية التي تنتظم التفاعيل. ومن جانب آخر، سوف ننتظر بضع سنوات بعد عام 1947، تاريخ كتابة ملحس قصائدها الأولى، قبل أن تظهر النماذج الأبكر من قصيدة النثر عند الماغوط وصايغ والحاج وأدونيس والخال.
ريادة في الشكل الشعري الذي لاح أنه يناسبها، لأنها في حقيقة الأمر جرّبت كتابة قصيدة التفعيلة بعد قصيدة النثر، وربما قبلها، بل يجدر القول إنها لم تتوقف عن مناوشة هذا الشكل بين حين وآخر على امتداد حياتها الشعرية، دون أن تستقرّ عليه تماماً أو تتخلى عنه نهائياً من جهة أولى، ودون أن تتألق فيه على النحو المميّز الذي كان سمة شعرها الذي يعتمد شكل قصيدة النثر من جهة ثانية. ولسوف أضرب مثالاً بضعة سطور من قصيدة لها تعود إلى أواسط الستينيات، بعنوان "في كل بيت لها":
صفراء أمي كالزعفران القديد
صفراء أمي جسمها كالجليد
ووجهها محنّط بالجمال
نورٌ غريب شعّ فوق الجلال
أمي وكنتِ الأمس لي خيرَ الرفيق
واليوم بعضي هالعٌ كالغريق
شطْرٌ هنا وآخر في السحاب
كباحثٍ عن ناطحاتٍ سراب
في كل بيت منك شيءٌ دلال
وكلّ قلبٍ ساجد في الليال
في كل دار منك شيء جميل
أسعى لكي أراه مثل العليل
فينا وفي دمائنا كالدبيب
يسري وفي ضلوعنا كالرقيب.(5)
في هذه القصيدة تتوسل ملحس العروض وتعتمد القافية الثنائية المتغايرة، ولكنها لا تبدو مكترثة بتصحيح الخلل العروضي هنا وهناك، بل لعلّها تقصدت الإبقاء عليه بغية كسر انتظامه التقليدي، كما أنها لا تعبأ كثيراً باختيار نظام تقفية طارد للرتابة الدلالية أو التكلّف الصوتي. في المقابل، هنا نموذج من مجموعتها الأولى، متحرر تماماً من الوزن والقافية، هو المقطع الاستهلالي من قصيدتها "الحاوي الأكبر":
أنا أحمل روحاً ترهقني
أنا أشيّع في دقيقة واحدة
عشرات النعوش
وأنثرها أكاليل نفسي...(6)
حيث لا تكتفي ملحس بالتخفّف من قيود الوزن والتقفية، بل تعتمد النثر الخالص ذا السطر القصير الوجيز في عبارته وتعبيره، المتراصّ في بنيته النحوية، المتغاير مع ذلك في توظيف الضمائر والأفعال والأسماء والوحدات الصوتية، والذي يبدو ثورياً تماماً في اجتراح مجاز تصويري بين نعوش الروح وأكاليل النفس.
لكنّ ميل ملحس إلى شكل قصيدة النثر كان ينطوي في الآن ذاته على مجازفة الانحياز إلى شكل وليد، متمرّد، غير شائع، غير شعبيّ، غير متفق على شعريته، بل لا يتوفر إجماع حتى على صحة تسميته بـ "قصيدة النثر". وأن تبدو مرتاحة إليه، ومتألقة فيه، أكثر من قصيدة التفعيلة في أنساقها المتوفرة آنذاك، والتي أخذت تحظى بمشروعية تدريجية ولكنها مضطردة متصاعدة، أمر عنى أنّ ملحس شاءت الريادة في الشكل الشعري الأشدّ إشكالية في مواجهة الذائقة الشائعة آنذاك، وبالتالي الأشدّ حاجة إلى التطوير الدائم المفتوح. ولهذا فإنّ اشتغالها الشخصي على انفراد قصيدتها بدأ هاجساً مركزياً خيّم على معظم نصوص المجموعة الأولى، كما امتدّ إلى قصائد المجموعة الثانية "قربان" التي صدرت بعد ثلاث سنوات، وتمثّل في جملة من الخيارات التي سأتوقف عند ثلاثة منها، هي الأبرز في تقديري.
الخيار الأوّل يخصّ مادّة القصيدة، في الكمّ وفي الكيف، حيث كانت قصائد ملحس قصيرة إجمالاً، أو متوسطة تناهز الـ 40 سطراً، ما خلا "النشيد التائه" التي تتجاوز الـ 100 سطر، ولكنها مع ذلك لجأت غالباً إلى تجزئة القصيدة الواحدة، أياً كان حجمها، إلى مقاطع أقصر تتراوح بين خمسة سطور وعشرة. وهذا خيار في الشكل بالغ الأهمية بالمعنى التاريخي، وتحديداً بالقياس إلى قصائد الحداثة الشعرية خلال تلك الفترة، في شكل قصيدة النثر وفي شكل التفعيلة على حدّ سواء، حيث رجحت كفة القصيدة الطويلة ذات الصوت التعددي، والبنية الدرامية، والموضوعات الكونية الملحمية أو الفلسفية أو الأسطورية. وهو كذلك خيار بالغ الأهمية بالمعنى الأسلوبي الحداثي، من حيث إخضاع الشكل الجديد إلى معايير التكثيف والإيجاز والتركيب بوصفها جزءاً من اختبارات التعبير الحداثي، بالقياس إلى التطويل والإطناب والإسهاب بوصفها خصائص النصّ التقليدي أو النصّ المكرّس في الأقلّ.
وهذا التقطيع إلى فقرات يشدّ ملحس إلى إغواء الجملة القصيرة بدورها، الوجيزة والكثيفة والمشدودة، والتي تعطي الإنطباع بأنّ ما يتردد في السطح من معنى ودلالة ومجاز ليس سوى الجزء الظاهر من كمّ آخر يختفي طيّ القول الأول ويتراكب معه على نحو يتكامل شعورياً في حصيلة ختامية، بوسيلة التناغم تارة، والتناحر طوراً. ولأنّ جهة الإغواء هي التفصيل الإنساني، الروحي المطلق أو المادّي الدنيوي، فإنّ خلاصة المعنى تنتهي إلى التقاط ما هو شاسع واسع داخل التفصيل ذاته، وما هو قابل للاشتمال على نطاق إنساني أوسع وأكثر رحابة. هنا مثال من قصيدة "أيتها الهياكل":
أيتها الهياكل الصمّاء...
إرفعي صخرة عن صدري
لعلّ خافتاً يسري...
خيط نور...
... برجي عظام جوفاء...
كتابي قارورة خاوية...
قيدان...
تملأهما آلهاتك...
والأرواح المقدّسة...
* * *
أيتها الهياكل...
زلزلي جدران برجي...
إخلعي دفّتَي كتابي...
أتقلّب على أمواج الأثير
مجنّحة...
... واجعلي برجي الطبيعة
وكتابي الكون...
ثمة مستوى شعوري أوّل يخصّ ضمير المتكلم، وهو يقع في ظاهر القول ويحتلّ سطح الدلالة، وثمة مستوى ثانٍ يخصّ ضمير المخاطب ويكمن في الباطن والقاع، ولكنّ المستويين يتراكبان إنسانياً حين يكفّ ضمير المتكلم عن تمثيل ذات واحدة منفردة وينتقل إلى تمثيل ذات إنسانية عريضة معمّمة وقياسية (ليس دون مغزى أنها تخصّ توتّر الكتاب والكون)، ويكفّ ضمير المخاطب عن تمثيل الآخَر أو الضدّ أو المقابل، فيمثّل المطلق والطبيعة والكون، وربما مصائر الضمائر جمعاء في غمرة هذا الاحتشاد. تلك، غنيّ عن القول، لعبة بارعة حافلة بالمثوبات وبالمزالق في آن، خصوصاً وأنّ زمن ممارستها ـ أواخر الأربعينيات ـ كان خاضعاً لضغوطات المضامين عالية التسييس والأدلجة، إنْ لم يكن بسبب المخاضات السياسية والعقائدية والثقافية التي كانت تعيشها المجتمعات العربية، فعلى الأقلّ بسبب ما أسفرت عنه نكبة 1948 من هزّات كبرى أصابت العقل العربي ونفذت إلى الوجدان الجَمْعي على حدّ سواء.
وإذا كان الخيار الأوّل يخصّ مادّة القصيدة في الكمّ وفي الكيف، فإنّ الخيار الثاني يعتمد مباشرة على حسن تَحقُّق الخيار الأوّل وارتقاء الوشائج بين الكمّ والكيف، ولكن على صعيد الانتقال ـ داخل القصيدة عموماً، وفي كلّ مقطع على حدة ـ بين الذهنيّ والمحسوس، وبين الروحيّ والمادّي، وبين التأملي والاستقرائي، وبين الداخل والخارج، وبين المرئي والخفيّ، وربما بين سلسلة مفتوحة من الثنائيات المتقابلة أو المتضادة. ومن الجليّ أنّ ملحس تنزع نحو نبرة فلسفية تقارب مسائل الوجود والعدم من موقع شعري يتوسل الشعور بصفة غالبة، ولكنها لا تتحاشى الشطحة الصوفية المشبوبة حين يقتضيها المقام أو حين تبدو وسيلة وحيدة للنطق باسم الصوت الآخر في باطن القصيدة، كما أنها لا تقهر الغنائية حين تنساق إليها الروح أو تُساق إليها بفعل هيمنة ضمير المتكلم أو تعاظم خطاب المناشدة والنداء والتضرّع.
ففي قصيدة "صلاة" تقول ملحس:
... وأنا وحدي
أحسّس طريقي...
شفّت نفسي جوى إليكَ...
فانثالت حجبٌ...
واختلجت أنوار
... غبطة مُراح
ومعرفة للقاك...
* * *
لا تنفلني إلهي
أنا خيوط ملتوية
على ذاتي...
وأنفاسي جدْل آلامي...
اجتويتُ الدُّنى
وكلّ مكان
فجئتكَ ملهجاً...
* * *
أنقذني إلهي
أنا شوق لأقول:
أنت أنا...
وأنا أنت...
بين انثيال الحجب واختلاج الأنوار، أو بين الأنفاس المجدولة على الآلام والخيوط الملتوية على الذات، ثمة استراتيجية تعبيرية تخصّ حداثة القاموس الشعري أيضاً، وليس مجرّد الموازنة بين اللغة الشعرية ذات المجازات الذهنية والأخرى الحسية، واللغة الشعرية الواقعية أو الأخرى الميتافيزيقية، إذْ ليس تفصيلاً عابراً أن يبدو قارىء ثريا ملحس اليوم وكأنه يقرأ نصّاً كُتب في الحقبة الراهنة المعاصرة، وليس نصاً يعود إلى أواخر أربعينيات القرن الماضي. صحيح أنّ الشاعرة لم تتحرّر تماماً من إغراء استخدام مفردات نادرة الاستخدام، ليس في زماننا فحسب بل في زمن كتابة القصائد أيضاً (مثل: أكمري، ذروف، حثلة، حساساتي، هيوم، صَوْح، هيدبا، دجوج، سَرُوْب، أوطاف، أثباج، رحراح...)، إلا أنّ القاموس الشعري الأشدّ هيمنة على القصائد هو ذاك الذي يقيم موازنة صائبة بين الذهني والمحسوس، ويطلق المجاز في الفضاءات الرحبة التي تتوالد جرّاء امتزاج الثنائيات التي سبقت الإشارة إليها.
الخيار الثالث يخصّ طرازاً من الفكر الانعتاقي وراء النصّ الشعري، ولعلّه يخصّ سوسيولوجيا الإبداع أساساً، وأعني نجاح ثريا ملحس في أن تقتل داخل نفسها الكثير من التنميطات الشائعة اجتماعياً عن المرأة ـ الوديعة الجميلة الكسلى المستكينة الضعيفة الشهوانية الشهية، الطيّبة بالمطلق أو الشريرة بالمطلق، الحبيبة الوفية أو الزوجة الخائنة، الملاك أو العاهرة... ـ وذلك لصالح المرأة المبدعة وحدها، في صورة القلق والاستفزاز والبحث، أكثر من صورة السكينة والمصالحة واليقين. وفي بدايات حياتها المهنية، وقبل أن تستقرّ على كتابة الرواية، ظلّت الكاتبة البريطانية والنسوية الرائدة فرجينيا وولف تحترف مراجعة الكتب حتى أعلنت، قرابة العام 1928، أنها لم تعد قادرة على كتابة سطر واحد ما لم تنخرط في صراع مرير مع شبح امرأة تهيمن على روحها، أسمتها "الملاك في البيت"، Angel in the House: "لو لم أقتلها، لقتلتني. كانت ستقتلع قلبي من جسد كتابتي"، قالت وولف وهي تصف واجب المراة المبدعة في أن تقتل تماماً ذلك الملاك الأنثوي الذي زرعه المجتمع في داخلها، والذي يمثّل المرأة الطيبة البريئة الخنوعة الجاهزة أبداً للامتثال والطاعة.(7)
ولست أتردد في القول إنّ ثريا ملحس، خصوصاً في مجموعتها الرائدة "النشيد التائه"، نجحت في قتل الملاك التسلّطي الذي وصفته فرجينيا وولف، حين أفلحت كثيراً في تحقيق المعادلة العسيرة التالية: أن ترى نفسها من الخارج، كموضوع، وكشخصية، وككيان صغير ضئيل ضمن نسق جمالي وثقافي واجتماعي أكبر؛ وفي الآن ذاته، أن تبقى دائمة الوعي بذاتها من الداخل، كذاتٍ ناطقة، وضمير متكلم، مسلحة بقوّة أحاسيسها، متصالحة مع وعيها الذاتي، في نصّها وفي مصائر ريادة الشكل. ولعلّ في هذا المثال من قصيدة "تمرّد"، والتي تهديها الشاعرة إلى حفار القبور، يعض التعبير عن روحية تلك المعادلة:
سأضحك ضحكات عالية
تملأ الفضاء العاري...
وتخترق الغيوم
تكرّ رعود الغد...
سأضحك... ومَن يمنعني!
أحرقةُ الشمس الضئيلة؟
أضوضاء الناس الخافتة؟
هل في الشمس قوّة
تتحدى قوّتي؟
هب في الناس قيدٌ
يتحدّى حرّيتي؟
إنّ قهقهاتي
لأقوى من الشمس...
وصداها
لأصعقُ من نفخ الصّوْر!
والحال أنّ ثريا ملحس لم تكتب قصيدة ناطقة بلسان المرأة فحسب، بل كانت امرأة في قصيدتها أوّلاً، وانتقلت بحسّها الأنثوي العارم هذا ليس إلى حال من التناظر مع الرجل الآدميّ أو الرجل الرمز أو الرجل الأسطورة فحسب، بل مع الآخر المفتوح على فضاءات إنسانية عريضة مشتركة، المنفتح في الوجود وفي العدم، وفي المطلق الذي بلا ضفاف.
وجزء غير قليل من حركية الحداثة في مطالع وأواسط القرن العشرين اعتمد على إعادة كتابة صورة المرأة، بقلم المرأة على وجه الخصوص، وفي سياقات إعادة إدراج نصّها في قلب حروب الحداثة. ولقد حدث مراراً أن المرأة الكاتبة خاضت معارك مزدوجة الطابع: حول حيازة الحريات المدنية والحقوق الإنسانية للمرأة بوصفها مواطنة مشاركة في حياة المجتمع، وحول واجب المساهمة التشطة في تطوير الأشكال والمضامين وتنشيط روحية الحداثة إجمالاً.
وهذا هو جوهر الموقع الذي ينبغي أن تشغله ثريا ملحس، إذا شاء النقد العربي تصحيح ما لحق بهذه المبدعة الكبيرة من إجحاف بالغ. (8)
شارات:
(1) ضمن مجموعات ملحس الأخرى: "النشيد التائه"، 1949؛ "قربان"، 1953؛ "مساجين الزمن"، بالإنكليزية، 1956؛ "ملحمة الإنسان"، 1961؛ "محاجر في الكهوف"، 1967؛ "خبأنا الصواريخ في الهياكل"، 1968؛ "قضايا ومجامر"، 1970؛ "الثلوج الحمراء تراكمت على الرؤوس"، 1999؛ "نوارس تراكمت على الثلوج الحمراء"، 1999؛ "كلمات في حروف مرقالة"، 1999؛ "رخّ هوى في بيروت جثتين"، 2000؛ "أشلاء الرخّ تراكمت على الارصفة"، 2000.
(2) تيسير النجار: حوار مع الشاعرة والأكاديمية ثريا ملحس. "القدس العربي"، 13/9/2006.
(3) صبحي حديدي: "بدر شاكر السياب: قصيدة النثر والتسوية التاريخية"، مجلة "القاهرة"، العدد 160، مارس/آذار 1996. وكذلك، صبحي حديدي: "بلند الحيدري وجدلية التأثير في الريادة المبكرة لقصيدة النثر"، في كتاب "بلند الحيدري.. اغتراب الورد"، المنتدى الثقافي العربي ـ الأفريقي، أصيلة 1997.
(4) تيسير النجار، المرجع السابق.
(5) مجلة "الأديب"، بيروت، آذار / مارس 1965.
(6) ثريا عبد الفتاح ملحس: "النشيد التائه"، دار الكتاب، بيروت 1949.
(7) Virginia Woolf: "Professions for Women," in The Death of the Moth. The Hogarth Press, London 1942, P. 151.
(8) في طليعة الجهود المميزة لإنصاف ملحس، تُذكر بصفة خاصة الندوة التي نظمها "بيت تايكي" في العاصمة الأردنية عمّان، أواسط كانون الأول (ديسمبر) الماضي، حيث قُدّمت هذه المساهمة.