في الفصل XXIII من رائعته "دون كيخوتة"، والذي يروي وقائع المغامرة الفريدة في جبال سييرا مورينا، يصرّح سيرفانتس على لسان بطل الرواية ـ النبيل الإسباني الشيخ، والفارس في عصر بلا فروسية ـ أنّ "إسبانيا بلاد زائدة عن حاجة الملوك، لا يسكنها إلا الغلاة والحمقى". وبالطبع، كان الأديب الكبير يقصد التشديد على عكس هذا اليقين، أي على عظمة كامنة ولكنها آيلة إلى انقراض، بدليل أنّ دون كيخوتة ينهي آخر أيّامه باكياً "روح إسبانيا الضائعة".
إحياء تلك الروح، وما اقترن بها من تراث صاخب مشرق تارة ومظلم طوراً، هو بعض ما سعى إليه أكثر من 40 ألف متطوّع، قدموا إلى إسبانيا من 53 بلداً (بينها مصر والمغرب!)، وانخرطوا في "الفصائل الأممية" التي شاركت الأسبان في حرب لاحَ أنها ـ لمرّة واحدة على الأقلّ ـ ذات معنى بالنسبة إلى الشعوب التي تدفع عادة أثمان الحروب، وليس بالنسبة إلى القوى الحاكمة التي اعتادت جني ثمار الحروب. وقبل أيّام مرّت الذكرى السبعون لانسحاب تلك الفصائل من مدينة برشلونة، ومن كامل مشهد الحرب التي عُرفت ــ عن خطأ أو عن صواب ــ باسم «الحرب الأهلية» الإسبانية (1936 ـ 1939).
عن خطأ على الأرجح، لأنّ تلك الحرب كانت قد اندلعت بين حكم جمهوري منتخَب شرعياً وديمقراطياً، وبين الجنرال الدكتاتور فرنشيسكو فرانكو الذي انقضّ على السلطة الشرعية بمساندة من الكنيسة الكاثوليكية وملاّك الأراضي، وبدعم بالمال والرجال والعتاد من أدولف هتلر وبينيتو موسوليني، وسط صمت مطبق متواطئ مارسته القوى الأوروبية الأخرى مثل بريطانيا وفرنسا. على النقيض من هذه المواقف الرسمية، سارعت فئات وقوى شعبية واسعة إلى التضامن مع الأسبان، خصوصاً بعد أن هالها صعود التيّارات النازية والفاشية النازية في اوروبا وأمريكا.
وهكذا، كانت «فصيلة أبراهام لنكون» الأمريكية قد ضمّت 2800 متطوّع أمريكي، وضمّت الفصيلة البريطانية نحو ثلاثة آلاف، سقط منهم 543 في مختلف معارك الدفاع عن الجمهورية. بيل ألكسندر (أحد آخر المتطوعين البريطانيين المعمّرين) اعتبر أن المعركة لم تكن إسبانية صرفة: «الأمر لم ينحصر في مساعدة شعب آخر. لقد كانت تلك حربنا نحن البريطانيين أيضاً. ففي بريطانيا رأينا موسلي [زعيم «اتحاد الفاشيين البريطانيين» آنذاك] يأمل في احتذاء درب هتلر وموسوليني. ولهذا فإنّ قرار التطوّع لم يكن وليد ليلة وضحاها. لقد كان سيرورة». وأمّا الشاعر البريطاني سيسيل داي لويس فقد اختصر الأمر هكذا: «ذهبنا لأن أعيننا المفتوحة لم تكن تبصر درباً آخر غير ذاك الذي يفضي إلى إسبانيا».
«إنها حرب الخونة والمائعين واللواطيين»، صرخ الشاعر البريطاني اليميني روي كامبل، غامزاً بصفة خاص من قناة الشاعر الإسباني فدريكو غارسيا لوركا، الذي كان بين أوائل الأدباء والفنّانين ضحايا الفاشية الإسبانية. «إنها حرب الشعراء»، ردّ العشرات من فقهاء الليبرالية الغربية، الذين لم يجدوا وسيلة ثانية لمداراة ما انتابهم من حرج شديد وهم يتناقلون أسماء المنخرطين في صفّ الجمهورية: رفائيل ألبيرتي، أنطونيو ماشادو، ميغيل هرنانديز، غارسيا لوركا، بابلو بيكاسو، خوان ميرو، بابلو نيرودا، سيزار فاييخو، أوكتافيو باث، ألكسي تولستوي، إرنست همنغواي، بول روبسون، جون دوس باسوس، أندريه مالرو، سانت ـ إكزوبيري، كلود سيمون، ستيفن سبندر، لويس ماكنيس، و. هـ. أودن، جورج أورويل، كريستوفر سانت جون سبريغ (سيوقّع باسمه المستعار، كريستوفر كودويل، كتاب «الوهم والواقع»، الذي يُعدّ أوّل إسهام معمّق في صياغة علم جمال ماركسي حول الشعر)، والعشرات سوى هؤلاء. أكثر من ذلك، أعطتنا هذه التجربة الفريدة عدداً من أثمن الأعمال الإبداعية حول الحرب والسلام والحرية والتعاضد الأممي، مثل قصيدة أودن «إسبانيا»، ونصّ أورويل «تحية إلى كاتالونيا»، ورواية همنغواي «لمن يُقرع الجرس»، فضلاً عن لوحة بيكاسو الأشهر «غيرنيكا» وعمل خوان ميرو "سلسلة الأسود والأحمر".
والحال أنّ تسمية «حرب الشعراء» تلك لم تكن تنطوي على خطل كبير، بالقياس إلى عدد ونوعية الشعراء الذين شاركوا فيها أوّلاً، وبالنظر إلى أنّ بعض معاركها كانت في واقع الأمر تدور حول الحداثة الإسبانية إجمالاً، وحول الحداثة الشعرية كما بشّر بها لوركا وهرنانديز وألبيرتي بصفة أخصّ، بالإضافة إلى كونها معركة من أجل حريّة التعبير في الأساس. غير أن أكبر دروس تجربة «الفصائل الأممية» أنها كانت مثالاً رفيعاً في التعاضد الأممي بين الشعوب، على مستوى الشعوب ذاتها، بعيداً عن المؤسسات، بل ربما قريباً من أرفع مؤسسات الشعوب: الآداب والفنون. وكان المخرج السينمائي البريطاني الكبير كين لوش قد قدّم شريطه «الأرض والحرية» لا لكي يحتفل بالذكرى الستين لنشوء حركة «الفصائل الأممية» فحسب، بل لكي يعلن رفض إضفاء الطابع الرومانتيكي على الحدث، لأنه ليس سابقة وحيدة منقطعة، ولأن التعاضد الأممي بين الشعوب سوف يتكرّر هنا وهناك في العالم، وحيثما عربد الطغيان وأزبد.
صحيح أن العالم تلوّن كثيراً، واللون الأحمر بالذات تراجع وانحسر حتى كاد أن يندثر. ولكنّ حدود الفارق بين الأبيض والأسود، ثمّ بين المقاومة والغزو والحرّية والاستعباد والحقّ والباطل، بقيت على حالها جوهرياً، خصوصاً في هذه الأيام!