مرّت ثلاثة عقود على حكاية نجاح أدبي وفنّي باهر، اسمها "الجذور": رواية الأمريكي ألكس هايلي (1921 ـ 1992) الشهيرة، والمسلسل التلفزيوني الذي لا يقلّ شهرة عن الرواية، بالنظر إلى أنّ مشاهديه بلغوا مئات الملايين على امتداد العالم. ومن جانب آخر، ورغم أنّ الرواية صدرت سنة 1976، إلا أنّ نجاحها كان وثيق الاقتران بانطلاق المسلسل مطلع العام 1977، ولهذا استقرّ رأي أنصار هايلي على إحياء الذكرى الثلاثين للرواية والمسلسل هذا العام، وليس العام الماضي.
ولقد انبثقت فكرة "الجذور" حين استولى على مخيّلة هايلي، الكاتب الأفرو ـ أمريكي وصاحب سيرة مالكولم إكس، هوس البحث عن الأصول الأفريقية لأجداده، وانخراطه في التنقيب المحموم داخل سجلات الأحوال المدنية، وزياراته المتكررة للبعثات الأفريقية في الأمم المتحدة للسؤال عن أسماء العوائل والأعراق وما يتوفّر من ذاكرة شفهية تعود إلى مئات السنين. الخطوة التالية كانت إقناع مجلة "ريدرز دايجست" بتخصيص منحة شهرية (300 دولار، فقط!) لتمويل رحلة هايلي في البحث عن جذوره الأفريقية، فسافر إلى غامبيا سنة 1966، وبلغ قرية جوفوري. وهناك التقى بالراوي العجوز كيبا كانجي فوخانا، الذي سرد له حكاية الفتى كونتا كنتي، وكيف غادر القرية للاحتطاب في الغابة، ثمّ انقطعت أخباره نهائياً.
كانت "الجذور" هي الرواية التي ستدوّن، وبالتالي ستعيد إحياء، الكثير من هذه الذاكرة الشفهية التي حفظها الراوي العجوز، وكان الجهد التأليفي الذي ألقاه هايلي على عاتقه أشبه بإعادة بناء ديناصور من كومة عظام، حسب عبارة بول زمرمان. وبعد أقلّ من سنة على صدورها، حصدت الرواية 271 جائزة، بينها بولتزر، وطُبعت منها 8,5 مليون نسخة، وتُرجمت إلى 26 لغة، وصدرت عنها طبعة مبسّطة للأطفال، قبل أن تقرّر ABC إطلاقها في مسلسل تلفزيوني من ثماني حلقات (تألق فيه المثل الشاب لوفا برتون في دور كونتا كنتي) تابعه مئات الملايين في أمريكا وفي العالم بأسره.
ومن الإنصاف القول إنّ العمل بدا، في ناظر الأفرو ـ أمريكيين على الأقلّ، وكأنه نظير "ذهب مع الريح"، الرواية والشريط السينمائي الشهير. وتحت السطح التاريخي لوقائعه وحكاياته، ثمة وثيقة اجتماعية وثقافية واقتصادية وأنثروبولوجية فريدة من نوعها، قائمة على بحث مكثف عن الحقيقة، وتوق جامح إلى نبش جذور الهوية. فرادة تلك الوثيقة، في بُعدها الأدبي المحض هذه المرّة، أنها مزجت بين الواقعة الفعلية والخيال الطلق، وما عجز هايلي عن تعلّمه من الرواة والتاريخ الشفوي والترحال والتنقيب في الوثائق واستجواب الأشخاص، أكملته مخيّلته الحيّة المبدعة الجسورة، دونما انفكاك عن حقائق الكتاب المركزية.
تلك الأنثروبولوجيا الشعبية، إذا جاز القول، عبرت الأذواق والأجيال وفوارق التعليم والمهنة، وذلك بسبب انقلابها إلى سردية كبرى نظيرة لثقافة بأسرها شاء الأمريكي الأبيض أن يبدأها من "العمّ توم" وكوخه الشاعري البسيط. جاءت "الجذور" لا لكي تصحّح تلك البداية الرومانسية فحسب، بل لكي تعيد السود إلى أمّ البدايات: تلك الروح المقاومة العنيدة التي أتاحت بقاء أسلافهم على قيد الحياة، في مطحنة مجتمع عبودي عنصري بشع وقاسٍ ومظلم، وذلك الجوهر الذي خسرته تلك الروح في سياقات قسرها على قبول ثقافة الأبيض...
وإذا كانت الرواية قد أشعرت السود بجذورهم، فإنها ذكّرت البيض بتاريخ مشترك مع السود، وحشي ودموي وبربري أحياناً. ولم تكن مبالغة أنّ البعض اعتبر "الجذور" عدسة مكبّرة كانت تنقص المجتمع الأمريكي بأكمله، بيضه وسوده وجميع أعراقه، كي يبصر تفاصيل المشهد العبودي، ضمن سيرورة تربوية مزدوجة: خرج الأسود من عتمة الإحساس بالذلّ والمهانة، جرّاء الخضوع لنظام في الرقّ والاستعباد، دام أكثر من قرنين؛ والأبيض (خصوصاً وأنّ الرواية صدرت في سنة الاحتفال بالمئوية الثانية للثورة الأمريكية (1776 ـ 1976) وجد فيها مرآة جبّارة طالما افتقر إليها، تعكس أمام عينيه فضائح استغراق الأبيض في فقدان ذاكرة إرادي طوعي، تجاه فظائع ذلك النظام.
وفي كلمة خاصة بطبعة الذكرى الثلاثين من الرواية، اعتبر الأكاديمي والإعلامي الأمريكي الأسود مايكل إريك دايزون أنّ بين أبرز تأثيرات الرواية أنها أطلقت جدلاً شعبياً حول أصول السود، ما تزال أصداؤه تتردد حتى اليوم، وصار شائعاً تماماً قيام الأفراد بإجراء فحوصات DNA لمعرفة منابت أسلافهم، وتكرست أكثر من أي وقت مضى تلك الروابط الوثيقة بين الثقافة والعرق والسياسة. وكتب دايزون يقول: "لهذه الأسباب وحدها يتوجب الاحتفاء بالرواية كعمل كلاسيكي يجيد توصيف طموح أمريكا ومعاناة السود".
ويبقى أنّ عواقب التمييز العنصري التي أورثها نظام العبودية ذاك، ما تزال قائمة في أشكال مختلفة، خافية مستترة أو ظاهرة معلنة، ليست مرتكزة دائماً على فارق اللون وحده، بل هي ثقافية وسياسية وطبقية. وليس أدلّ على هذا من السجال الذي اضطرّ دايزون نفسه إلى خوضه مع الممثل الكوميدي الأسود بيل كوسبي، الذي لام السود أنفسهم على معظم مشكلات الأحياء الفقيرة. هذه "أفرو ـ ستوقراطية"، كتب دايزون يصف خطاب كوسبي، في إشارة لاذعة إلى أنّ الجدّ كونتا كونتي الأفريقي قد لا يكون سعيداً بجميع أحفاده الأمريكيين!