في تقديم الترجمة الإنكليزية لكتاب الشاعر الروسي يفغيني يفتوشنكو علي حافة النهاية، والذي يضمّ مزيجاً من القصائد والمقالات القصيرة والمذكرات والسجالات، يشير هاريسون سالزبري (أحد كبار الصحافيين الأمريكيين المختصين بشؤون الإتحاد السوفييتي، إذْ رافق الجيش الأحمر في معظم انتصاراته خلال الحرب العالمية الثانية، وعمل مراسلاً لصحيفة نيويورك تايمز في موسكو، واستحق غضبة السناتور جوزيف مكارثي) إلي الواقعة التالية ذات المغزي الخاص: كان يفتوشنكو أوّل نقّاد الستالينية، أي أنه سبق ألكسندر سولجنتسين وأندريه ساخاروف؛ وكان استطراداً في طليعة نقّاد نيكيتا خروتشوف نفسه، قبل سنوات من شروع الأخير في نقد عبادة الفرد، ولهذا فقد استدعاه الرجل وهو على فراش الاحتضار، واعتذر منه.
لكنّ يفتوشنكو، الشاعر، كان أحد أبرز فرسان الجيل الثاني من كتّاب المدرسة الجمالية التي عُرفت باسم الواقعية الإشتراكية، وتأسست علي نحو أو آخر سنة 1934، في المؤتمر الأول لاتحاد الكتّاب السوفييت، ثم طويت صفحتها حتي قبل انهيار أنظمة المعسكر الإشتراكي. وهذه الواقعة، أي اعتذار الزعيم السياسي خروتشوف (وكان، للتذكير، الأمين العام للحزب الشيوعي السوفييتي، وزعيم القوّة العظمي الثانية آنذاك) من الشاعر يفتوشنكو (المشاغب ضدّ أجهزة الدولة، الساخر من أدباء الحزب، المدافع عن المنشقين...) سوي علامة إضافية علي أنّ تلك المدرسة لم تكن مسطحة مسيّرة مسيّسة كما شاع حينذاك، خصوصاً في الأوساط الأدبية الأمريكية والغربية المناهضة للإتحاد السوفييتي وللفلسفة الماركسية عموماً.
ورغم انتمائه إلي مجموعة طليعية وحداثية من الشعراء والكتّاب، ضمّت أمثال فاسيلي أكسيونوف وأندريه فوزنيسينسكي وبيللا أحمدولينا، إلا أنّ يفتوشنكو استأثر بصفة شاعر الشأن العام، أو شاعر الجماهير في عبارة أدقّ. وفي سياق وفائه لهذه الشخصية، كتب قصيدته الشهيرة شعرات ستالين التي تحذّر من مخاطر استدامة الستالينية علي نحو مستتر أشدّ أذي. وفضيلة التزام أمثاله بالواقعية الإشتراكية هي أنّ أداءهم الرفيع كان يكشف المحتوي العميق، والإشكالي، لمدرسة في التعبير الأدبي والفنّي لا يستقيم تبسيطها إلي محض إفرازات دعاوية صادرة عن هيئة حزبية بيروقراطية. صحيح أنّ المصطلح، في معايير أيامنا هذه خصوصاً، قد يبدو رطانة جوفاء تستدعي ذلك السؤال الذي لم يشأ مكسيم غوركي طرحه علي نفسه، حين ساهم في نحت المصطلح بالتعاون مع مفوّض الثقافة أندريه جدانوف: إذا كانت هنالك واقعية إشتراكية، فهل هنالك واقعية رأسمالية؟ ولكن من الصحيح أيضاً أنّ المدرسة أنتجت مليارات الصفحات المطبوعة، شعراً وسرداً ومسرحاً ونقداً، وكيلومترات طويلة طويلة من الأفلام وقماش اللوحات، كما عبّر أندريه سينيافسكي ذات يوم!
لقد ولدت إبداعات متعددة متنوعة ما تزال تدهشنا حتي اليوم، ليس في قيمتها الفنّية العالية المرشحة لقرون من الخلود فحسب، بل في حقيقة أنها إبداعات رأت النور بعد أن قهرت عبادة الفرد والبيروقراطية والجهاز الحزبي، وتحرّرت من الجمود العقائدي والضحالة والإنحطاط، وقاومت مختلف الإملاءات السياسية والإدارية. وإذا كانت المدرسة قد ولدت في الإتحاد السوفييتي، وقرأنا في عهدها أعمالاً خالدة من غوركي وفلاديمير ماياكوفسكي ميخائيل وشولوخوف وجنكيز إيتماتوف، فإنّ انتشارها العالمي السريع أعطانا إبداعاً كونياً إنسانياً وكفاحياً ساهمت في صناعته جمهرة من أرفع أقلام القرن العشرين: برتولت بريخت، لوي أراغون، بول إيلوار، بابلو نيرودا، رفائيل ألبرتي، يانيس ريتسوس، وناظم حكمت.
وكان خطاب الحرب الباردة يتكيء، في المعسكر الغربي، علي هذه الخلاصة المطلقة: الكتّاب في البلدان الإشتراكية وقعوا في القبضة الفولاذية لمؤدلِجي الحزب وآلة الدولة، وبالتالي لم يمتلكوا حرّيتهم الإبداعية التي تتيح لهم إنتاج أعمال أصيلة في مختلف الفنون. الفنانون في الغرب، علي النقيض، تمتعوا بحرّية التعبير وتمكنوا من إنتاج أعمال كبري ذات قيمة هائلة أصبحت شواهد علي إمكانية انطلاق الروح الإنسانية من خلال اقتصاد السوق والفلسفة الرأسمالية. وبالطبع، كانت مشكلة هذه الخلاصة أنّ الدول الإشتراكية أنتجت بدورها آداباً وفنوناً ليست أقلّ قيمة، بدليل أنّ المتاحف الغربية تتسابق حتي اليوم علي استضافة وعرض مجموعة اللوحات الواقعية المنتمية إلي ما يُسمّي في الغرب فنّ ستالين ، ناهيك عن السينما والمسرح والباليه والأوبرا...
وفي سنة 1938 سُجن ناظم حكمت، فأطلق أراغون حملة في فرنسا للإفراج عنه (ترأسها، وهنا المفاجأة، الفنان السوريالي تريستان تزارا)، احتضنتها مجلة الآداب الفرنسية التي كان أراغون رئيس تحريرها، ولكنها كانت تنشر نصوصاً لمنشقّين من أمثال سولجنتسين وميلان كونديرا. وأمّا يفتوشنكو نفسه، فقد ساهم ـ مع مواطنته الشاعرة الكبيرة أنا أخماتوفا، وجان بول سارتر، وآخرين ـ في تنظيم عريضة احتجاج علي محاكمة الشاعر جوزيف برودسكي (رغمّ أنّ الأخير لم يكن علي وفاق مع يفتوشنكو، وكان يهاجمه علانية لهذا السبب تحديداً: استمرار يقينه بالواقعية الإشتراكية).
الأرجح أنّ تضامناً علي هذا المستوي العالي، رغم تباين المدارس وتقاطع الإيديولوجيات، كان البرهان علي أنّ الفنّ ظلّ كامناً في قلب المعادلة السياسية وأرتقي فوق خطابها، في آن معاً. ولعلّ هذا الجدل هو ما نكاد نفتقده اليوم، حين تنسحب أحادية القطب علي الفنون، قادمة من عماء السياسة!
القدس العربي
12/11/2007