يحفل التراث الشعري ـ الغنائي العربي الحديث بعشرات القصائد الوطنية التي خلّدها، أوّلاً، نصّ شعري فصيح وحماسي وأخاذ؛ قبل أن تستكمل تخليدها أغنية تلهج بها الألسن وتردّدها الحناجر، في غمرة ما يمكن أن يُعدّ طرازاً خاصاً من "الطرب الوطني"، إذا جاز التعبير. ثمة قصيدة "يا ظلام السجن"، التي كتبها الصحافي السوري نجيب الريس عندما كان سجيناً في قلعة جزيرة أرواد سنة 1922، وقيل إنه لحّنها بنفسه وبمشاركة زملائه في السجن. مطلع القصيدة الشهير يبدأ هكذا: يا ظلام السجن خيّمْ/ إننا نهوى الظلاما/ ليس بعدَ السـجن إلا/ فجـرُ مجـدٍ يتسامى"، وكانت في البدء موجهة ضدّ الانتداب الفرنسي، ثمّ تحوّلت إلى نصّ ـ أغنية ضدّ الطغيان، أياً كان. هنالك، أيضاً، "بلاد العرب أوطاني"، قصيدة فخري البارودي وألحان الأخوين فليفل، اللذين كتبا كذلك لحن قصيدة عمر أبي ريشة "في سبيل المجد"، وقصيدة الأخطل الصغير "نحن الشباب".
غير أنّ "موطني" قصيدة إبراهيم طوقان وألحان الأخوين فليفل أيضاً، قد تكون الأرسخ في الوجدان العربي الحديث والمعاصر، لأسباب شتى لعلّ أبرزها أنها كانت أنشودة الإنتفاضة الفلسطينية سنوات 1936 ـ 1939، ضدّ الإنتداب البريطاني وموجات الهجرة اليهودية. ولعلّ السبب الآخر أنّ القصيدة اعتمدت تشكيلاً وزنياً متنوعاً وطليقاً، يتخفف كثيراً من تواتر التفاعيل المكرورة، ويمزج ببراعة بين الموشّح والعمود الخليلي، ويعتمد أكثر من صيغة ذكية لبناء إيقاع رديف عن طريق التكرار. والمطلع، كما هو معروف، يسير هكذا:
مــوطــــنـــــــــي مــوطــــنـــــــــي
الجــلال والجـمال والسّــناء والبهاء
فــــــي رُبــــــاكْ فــــــي رُبــــــاكْ
والحــياة والنـجاة والهــناء والـرجــاء
فــــي هــــــواكْ فــــي هــــــواكْ
والحال أنّ هذه القصيدة الوطنية الحماسية، مثل شقيقتها الشهيرة بدورها والتي تقول في المطلع: " هو بالباب واقف/ والردى منه خائف/ فاهدئي يا عواصف/ خجلاً من جراءته"، كانت خيارات شعرية جمالية مثلما هي تعبيرات عن مواقف سياسية ملتزمة، خصوصاً عند هذا الشاعر تحديداً. ذلك لأنّ إبراهيم طوقان (1905 ـ 1941) انفرد عن مجايليه من شعراء فلسطين آنذاك، من أمثال عبد الرحيم محمود وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) وحسن البحيري ومطلق عبد الخالق ومحي الدين عيسى، في خصائص تطوير الشكل واللغة الشعرية، وكتابة قصائد تتناول موضوعات أخرى غير البطولة الوطنية، في السخرية والهجاء المرّ بصفة خاصة.
ومن المدهش أن نعثر، في ذلك الزمن من الثقافة العربية وفي تلك الظروف المشحونة من تاريخ فلسطين، على شاعر يرى أنّ «الشعر نكتة، قد يحسن الشاعر قولها وقد لا يحسن، وقد «يلقطها» القارىء أو السامع أو قد تفوتهما»؛ وأن يؤمن أنّ الشعر «عبارات نثرية موزونة لا أثر لكدّ الخاطر عليها، بل اتفق لها هي... أن تكون موزونة»! هذه الآراء الليبرالية كانت تنبع من حقيقة ميل طوقان إلى لغة الحياة اليومية، وعزوفه عن الإفراط في البلاغة وجزالة اللفظ وفخامة المفردة، وشهيته الدائمة إلى «تسريب» تعبير عاميّ هنا أو هناك في قصائده، بحيث يكتسب الشعر لمسة وجدانية وإنسانية حتى في ذروة الإستسلام للحماس والإنسياق خلف النبرة الخطابية. والراحل الدكتور إحسان عباس رأى أنّ انحياز طوقان للغة الشعبية ضمن له «شعبية التعبير»، وهذه بدورها قرّبته من قلوب الناس: «استطاع إبراهيم من خلال الربط بين قانونه النثري ومبدأ النكتة أن يجعل جانباً كبيراً من شعره غذاء للشعب سواء في لحظات الراحة والمتعة، أو في لحظات الثورة والنضال».
وقصيدته الشهيرة «الثلاثاء الحمراء» مثال كبير على ذلك. غرضها الرئيسي كان الرثاء البطولي والتحريض الجماهيري، في مناسبة إعدام ثلاثة من أشهر شهداء فلسطين (فؤاد حجازي، محمد جمجوم، عطا الزير)، بسبب مشاركتهم في انتفاضة 1929. لكنّ طوقان كتب القصيدة بطريقة مدهشة بالفعل، إذْ استخدم ثلاثة تنويعات في شكل البيت الشعري، تستجيب لثلاث حالات نفسية، عند ثلاثة أبطال، على امتداد ثلاثة أيام، وثلاث ساعات! ومن طرائف شعره، في مثال ثانٍ، قصيدة ساخرة يعارض فيها بيت أحمد شوقي الشهير، "قُمْ للمعلم وفّه التبجيلا/ كاد المعلم أن يكون رسولا"، بهذَين البيتين: "ويكاد «يفلقني» الأمير بقوله/ «قم للمعلم وفّه التبجيلا»/ يا من يريد الإنتحار وجدته/ إنّ المعلم لا يعيش طويلا".
وهكذا يقتضي إنصاف صاحب "موطني" ـ مثله في ذلك مثل نجيب الريس وفخري البارودي وعمر أبي ريشة والأخطل الصغير، وسواهم ـ أن لا يُسلم المرء القياد، كلّ القياد، لطغيان مزاج "الطرب الوطني" الغامر ذاك، فينسى أنّ وراء الأغنية شاعر، ونصّ شعري، وأدب، وفنّ...