السيدة إلهام عبد اللطيف، رفيقة الراحل ممدوح عدوان (1941 ـ 2004)، الشاعر الكبير والمسرحيّ والمترجم وكاتب المقالة والدراما التلفزيونية، تحمل لفقيدها وفقيدنا أبو زياد مقداراً فائقاً حقاً من الوفاء، وتعبّر عنه علي نحو بالغ الخصوصية، وشديد الرقيّ أيضاً. لقد أسّست، بعد أشهر قلائل علي رحيله، دار نشر خاصة أطلقت عليها اسم دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع ، وبدأت بإصدار أو إعادة إصدار مؤلفاته: الأعمال الشعرية في مجلدين و1600 صفحة، و الأعمال المسرحية الكاملة في ثلاثة مجلدات وأكثر من 1800 صفحة، بالإضافة إلي روايته الأخيرة الضخمة أعدائي ، التي صدرت طبعتها الأولي سنة 2000 عن دار رياض الريس في بيروت وتعتبر واحدة من أهمّ وأخطر أعمال الرواية العربية في القرن العشرين بأسره. ومؤخراً، جمعت الدار عدداً من كتابات عدوان المتفرقة حول الشعر، بين مقالة وشهادة ومشاركة في استفتاء، صدرت بعنوان هواجس الشعر ، في 240 صفحة.
ومن جانبي أجد بهجة خاصة، هي أيضاً جزء من مشاعر العرفان بالجميل، في الإقرار بأنّ العديد من موادّ هذا الكتاب الأخير كانت جديدة عليّ تماماً، في مستويين: الأوّل هو أنني لم أقرأها من قبل، لتقصير فادح تقع مسؤوليته علي عاتقي، ولأنها ربما نُشرت في دوريات سورية أو عربية محلية لا يُتاح لنا الاطلاع عليها في منافينا (وهنا أتمني أن يُشار، في الطبعة القادمة من الكتاب، إلي تاريخ كتابة كلّ مادّة، وأين نُشرت)؛ والمستوي الثاني هو أنها عرّفتني علي المزيد من سجايا ممدوح عدوان، الناقد هذه المرّة، رغم أنني لم أتوقف عن متابعة آرائه في الشعر والأدب منذ مطالع سبعينيات القرن الماضي، ما وسعتني الوسائل بالطبع.
الكتاب يضمّ شهادات في عدد من شعراء عصره أو مجايليه، مثل علي الجندي، محمد عمران، شوقي بغدادي، عبد الله البردوني، عرار (مصطفي وهبي التل)، نديم محمد، نزار قباني (وعنه يقول، في عبارة مدهشة: لقد تحوّل إلي متراس عنيد أمام من يرون في الحداثة تغريباً للفنّ عن الناس وتضييعاً للمعني. ودعا إلي الشعر الذي يتحوّل إلي قماشة شعبية يستطيع الناس كلهم أن يتداولوها ويلبسوها )، محمد الماغوط، سنية صالح، جون ميخائيل عصفور (شاعر وأكاديمي لبناني، يقيم في كندا ويكتب بالإنكليزية)، نازك الملائكة، بدر شاكر السياب، رضوان السح (وهو شاعر سوري شابّ قدّم عدوان لمجموعته الأولي طفل المعاني )، لقمان ديركي، أمل دنقل، وبدوي الجبل.
وفي هذه الشهادات الكثير ممّا هو رفيع نقدياً، وممّيز معرفياً، وشجاع فكرياً، و... طريف إنسانياً أيضا! هنالك، مثلاً، مقدّمة لمجموعة شعرية ـ عمودية، كما يلوح ـ كان شاعر من مصياف (بلدة الراحل) يزمع نشرها، ثمّ عدل عن الأمر، لكنّ عدوان نشر المقدّمة بعد أن حذف منها اسم الشاعر! هنالك، في مثال ثانٍ، ما يقوله الراحل عن شعر رضوان السح: هل تحبّ أن تأكل اللوز الأخضر؟ تتذكر قرشته الغضة تحت الضرس؟ وحموضته الطرية التي يتحلب لها اللسان؟ هناك من لا يحبّون اللوز الأخضر. ينتظرون اللوز اليابس، اللوز الذي يُقدّم محمّصاً علي الموائد. ولكن اللوز الأخضر لا بدّ منه (...) هو ذا شعر مثل اللوز الأخضر. شعر فيه حموضة طرية يتحلب لها اللسان وله قرشة غضة. شعر فيه عذوبة أن تكتب، أو تقرأ، شعراً. وفيه بساطة، وروعة، أن تكون شاعراً، أو أن تتعامل مع الحياة بالشعر، وأن تراها بعين الشاعر .
ولكن إلي جانب هذه الشهادات، ثمة عشر مقالات لامعة تماماً، ونقدية في أرقي ما تحمل المفردة من معني، حول معني الشعر، ونظرية الشعر، وأشكال الشعر، وأقدار الشعر إبداعاً وقراءة واستقبالاً؛ وهذه تستحقّ وقفة خاصة معمّقة، لا ريب. ولكن، في عجالة هذا العمود، أشير إلي خطوط رئيسية في موضوعات تلك المقالات، كما تشي بها العناوين: هواجس الشعر (حول النشيد والإنشاد في أصل الشعر، طفولة الشاعر والشعر، الوزن والإيقاع، القول والمعني، شعرية النثر...)؛ الوجه الآخر للتطور الشعري (في ضوء اعتبارات قديمة ومستجدة، مثل الاستماع والإلقاء والطباعة والمعلوماتية، وما إذا كان الشعر مقروءاً أم منطوقاً أم مرئياً)؛ هل مات الشعر؟ لماذا يجب أن يموت الشعر؟ وكيف يمكن توصيف أزمة الشعر؟
وهذه الأحاديث في هواجس الشعر لا تنسيني، البتة، أحاديث عدوان في هواجس حياة البشر عموماً، وهاجس السياسة اليومية خصوصاً. وأجدني أستعيد آخر لقاء جمعني بالراحل، هنا في باريس قبل وفاته بأشهر معدودات، حين أهداني نسخة من كتابه حَيْوَنة الإنسان ، الصادر لتوّه عن دار قدمس في دمشق، والذي يتناول مقدار ما فقد البشر من كرامة جَمْعية وتضامن إنساني وإحساس بعذابات الآخر. آنذاك كتب لي إهداء مؤثراً، جاء في بعض سطوره: سيقول لك هذا الكتــاب إننا هناك لم نكن نتفرّج محايدين . والحال أنّ الكتاب قال لي هذا، وأكثر، إذ أنني في الأصل أكون بحاجة إلي ما يذكّرني بمواقف الراحل من قضايا البلد السياسية والفكرية والثقافية، وما تعرّض له شخصياً من تنكيل ومضايقات بلغت ذات يوم حدّ سحب جواز السفر.
ولهذا فإنّ بهجتي اليوم باستكشافه ناقداً، لا تستكمل المزيد من ارتسام صورته الحاشدة لتوّها بالتفاصيل فحسب، بل تفتح الصورة ذاتها علي مزيد من جديد العلائم والقسمات.
القدس العربي
15/01/2007