أخال أنه في وسعي، إذْ أسجّل أختلافي مع الدكتور عبد الله الغذامي جوهرياً ومنهجياً، أن أبدأ من التشديد على فضائل الرجل وإنجازاته، وشجاعته المعنوية والأخلاقية في وجه خصوم بلغ بهم الحال أن أطلقوا عليه صفات مثل “حاخام الحداثة” و”عبد الشيطان”، ليس في سجال على صفحات كتاب أو مجلة، أو من منبر علمي، بل على شريط كاسيت أو من منبر خطبة الجمعة! وأقصد القول إنّ خلافي مع الغذّامي لا يسقط عنّي الحقّ، قبل الواجب، في التضامن معه بصفة مفتوحة لا حدود لها، وفي تثمين موقعه النقدي والثقافي والفكري، هناك حيث يقيم ويكتب ويدرّس أوّلاً، وأينما تعرّض لتنكيل جاهليّ ظلاميّ لا صلة له بأفكاره وآرائه.
والغذامي أخلص الوفاء للمنهج الأمّ الذي سار عليه منذ كتابه الأوّل «الخطيئة والتفكير ـ من البنيوية إلى التشريحية: قراءة نقدية لنموذج إنساني معاصر»، 1985. المنهج الأوّل ذاك كان مزيجاً من النقد التفكيكي الذي بدأه الفيلسوف الفرنسي الراحل جاك دريدا (وأطلق عليه الغذامي اسم «التشريحية»)، والنقد البنيوي، وما بعد البنيوي، فضلاً عن توظيفات هنا وهناك للنقد الألسني والنقد النصّي. وهكذا نجده، في كتابه الأوّل المشار إليه، يتحمّس بالتساوي للنقدَين، التفكيكي والبنيوي، ويستخدمهما مجتمعَين أو منفصلَين في تطبيقاته وعروضه النقدية، لكنه لا يتردد في إخضاع النصّ المعنيّ بالدراسة (وهو، هنا، أدب حمزة شحاتة) لمفاهيم فضفاضة شديدة التعميم، مثل الافتداء والخطيئة الأصلية والتكفير، يجري إسقاطها قسراً على وجدان شاعر مسلم الثقافة.
المدهش، مع ذلك، أنّ الغذامي حاول المصالحة بين تيّارَيْن جاء أوّلهما (التفكيك) لكي يقصي الثاني (البنيوية)، لكي لا نتحدّث عمّا فعل تيّار ما بعد البنيوية بالبنيوية، بحيث انحسرت الأولى ولم تَسُد الثانية تماماً؛ أو ما انتهى إليه التفكيك على يد تيارات ما بعد الحداثة، حين اختلط الحابل بالنابل وفضّل دريدا نفسه أن لا يُسمّى تفكيكياً أو حتى دريدائياً؛ أو النقد العميق الراديكالي ضدّ النظرية الأدبية بأسرها، والذي أنتجته تيارات النقد النسوي، ونظريات ما بعد الاستعمار، والمدرسة التاريخانية الجديدة. ما هو غير مدهش، والحال هذه، أنّ جهود المصالحة الحثيثة التي بذلها الغذامي كانت تسفر غالباً عن إعادة ارتطام التيّارات بعضها ببعض، أو تجديد اصطدامها، ولكن هذه المرّة في ميادين اصطراع ليست غريبة عن ميادين اشتغال التيّارات كلّها فحسب، بل تسير أحياناً في مسالك لا تفضي البتة إلى منهجية أيّ منها!
ففي كتابه التالي، «تشريح النصّ: مقاربات تشريحية لنصوص شعرية معاصرة»، 1987، تابع الغذامي منهج دريدا، ولكنه أسبغ عليه مسحة سيميولوجية تتوخّى «التحليل النصوصي» لنوعَين من الأفعال: «فعل القول» و«فعل الفعل». وفي إطار هذا المنهج ـ المزيج قرأ الغذامي اللغة بوصفها نظاماً إشارياً (سيميولوجياً) لعلاقات الدالّ والمدلول، بحيث تصبح الكلمة في النصّ «إشارة حرّة تمّ تحريرها على يد المبدع» الذي يرسلها صوب المتلقّي، وهذا بدوره يتوجّب أن يحرّرها من «تصوّر مجتلب من بطون المعاجم»، والتفاعل معها «بفتح أبواب خياله لها». وهنا، أيضاً، صار مبدأ تشريح النصّ (وهو ممارسة انقلابية على المعنى المكرّس) ضحية للنظام الإشاري (حيث يقع العكس: طغيان المعنى المكرّس، بقوّة الدالّ والمدلول)، وبات المتلقي رهينة هذا الشدّ والجذب بين فعل يقول ولا يعني، وقول يكرّس المعنى ولا ينقض إلا مستواه المعجمي…
لكنّ الغذامي، في كتابه «الصوت القديم الجديد: دراسات في الجذور العربية لموسيقى الشعر»، السنة ذاتها، أعطى نفسه ما يشبه استراحة المحارب من خليط المناهج الأثيرة عنده، فاستخدم منهجاً تاريخياً ـ وصفياً في محاولة كشف العلاقة الفنّية بين اليوم والأمس، بين قصيدة الشعر الحديث والمعلقة الجاهلية، استناداً إلى «أدلة تاريخية تقيم العلاقة العضوية الأكيدة داخل اللغة العربية بين كلّ أنماط الكتابة الإبداعية»، كما يقول. وفي هذا الكتاب يغيب، بصفة تامة ولافتة، التشريحيون والبنيويون والسيميولوجيون، ويعود الغذامي إلى لائحة مراجع كلاسيكية تتألف من دواوين الشعر، وكتب البلاغة والعروض، ومصادر تاريخ الأدب.
في «الكتابة ضد الكتابة»، 1991، تنتهي استراحة المحارب، ويتبنّى الغذامي منهجاً «مُختَبرياً» إذا جاز القول، يسعى إلى «استنهاض معركة النصّ ما بين الناقد كقارىء فاتح وما بين المبدع كقارىء محتكر». وفكرة الكتاب قامت على ثلاث مراحل: «مرحلة فاتحة» هي دراسة الناقد لثلاثة نصوص شعرية؛ ومرحلة ثانية هي استكتاب الشعراء أصحاب النصوص من أجل استثارة ردود أفعالهم على القراءات النقدية؛ ومرحلة ثالثة هي استضافة شاعر ـ ناقد يتولّى التحكيم بين نصوص الناقد ونصوص الشعراء. وبالطبع، كان بين أهداف الغذامي «استثارة حسّ القارىء واستفزاز سكونه لكي يثب في وجه النصّ ويداخل فعل الكتابة والإبداع».
ومن أجل المزيد من الأمثلة على مطحنة النظريات التي ظلّت تدور في أعمال الغذامي، هنا مسرد أخير: كتابه «القصيدة والنصّ المضاد»، 1994، يتكيء على منهجية نصّية؛ وفي «المشاكلة والإختلاف: قراءة في النظرية النقدية العربية وبحث في الشبيه المختلف»، 1994، ثمة منهجية ألسنية تحاول مصالحة عبد القاهر الجرجاني مع جاك دريدا، على خلفية المصطلحَين التفكيكيَين الشهيرَين: المشاكلة، والإختلاف؛ وفي «المرأة واللغة»، 1997، و«ثقافة الوهم: مقاربات حول المرأة والجسد واللغة»، 1998، تسود منهجية تفكيكية تستأنس بمقاربة الجنس Gender ودراسات الجسد بوصفه لغة…
هل في هذا ما يعيب الغذامي؟ ليس تماماً، من حيث المبدأ، شريطة أن الاحتشاد الهائل للنظريات والتيّارات، وما يقترن بها من ترسانة مصطلحات ثقيلة، إشكالية غالباً ولا تحظى بإجماع حول مدلولاتها عموماً، لا ينتهي إلى إحداث هوّة عميقة بين النظرية والنصّ، بين المصطلح والمادّة، وبين القارىء والقراءة. وفوق هذا وذاك: أن لا تسفر الرياضة بأسرها عن فصل التسمية عن المسمّى، كما يحدث في المثال الأشهر الراهن، أي التبشير بما يسمّيه “النقد الثقافي” بوصفه نذير موت النقد الأدبي، في حين أنّ ما يمارسه الغذّامي فعلياً ليس سوى النقد الأدبي العتيق/ الجديد دون سواه، ولكن بعد تلوينه أو إعادة تلوينه بهذه أو تلك من أصباغ “الدراسات الثقافية”.
وفي كتابه “النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية”، 2000، يعرّف الغذامي النقد الثقافي كما يلي: “فرع من فروع النقد النصوصي العام، ومن ثم فهو أحد علوم اللغة وحقول الألسنية معنيّ بنقد الأنساق المضمرة التي ينطوي عليها الخطاب الثقافي بكل تجلياته وأنماطه وصيغه، ما هو غير رسمي وغير مؤسساتي وما هو كذلك سواء بسواء. ومن حيث دور كل منها في حساب المستهلك الثقافي الجمعي. وهو لذا معني بكشف لا الجمالي كما شأن النقد الأدبي، وإنما همه كشف المخبوء من تحت أقنعة البلاغي/الجمالي”.
والحال أنّ هذا التعريف قد يصلح لأيّ من نُظُم الدراسات الثقافية المعاصرة، مثل الأنثروبولوجيا والتاريخ الاجتماعي والالسنية وعلم الاجتماع والدراسات الأدبية، ثمّ المدرسة التاريخانية الجديدة بصفة خاصة، ولكن ليس النقد الثقافي في أيّ من مستوياته الشائعة اليوم. هذه تُعنى مباشرة، وأساساً، بنقد الثقافة الشعبية (التاريخ في أفلام ميل غيبسون، قبل التاريخ في مسرحيات شكسبير)، أو المادّة الخطابية الهامشية التي لا يلتفت إليها الناقد عادة (مثل الوثائق والتصانيف المختلفة، وبينها التقارير الطبية أو المخططات المعمارية أو محاضر الشرطة، كما علّمنا الفرنسي ميشيل فوكو الذي كان أحد أعظم النقاد الثقافيين في عصرنا)، والنصّ المكتوب على الـ “تي شيرت” أو في أغنية “راب” أو على جدار ملطّخ بالـ “غرافيتي”، أكثر من التحفة الشعرية أو الأوبرالية أو التشكيلية، واستقراء الهدّام والقبيح والشرير قبل البنّاء والجميل والخيّر. والحال أنّ الغذامي، ما خلا بعض ما جاء في كتابه “الثقافة التلفزيونية”، 2004، لم يمارس هذا الطراز من النقد الثقافي بالحمية التي ينتظرها المرء من ناقد ثقافي معلَن، الأمر الذي سنظلّ ننتظره منه.
يبقى أنّ الغذامي رائد في نقل المناهج النقدية الحديثة إلى جامعات اتسمت، في السابق، بالنزعة المحافظة والتشدّد في قبول الجديد، خصوصاً إذا كان غربيّ المنبت، وهِمّته لا تكلّ في تقديمها على أكثر من صعيد: التعريف بها وتقريبها إلى القارىء عن طريق مرجعيات تراثية وحديثة ومعاصرة، وتذليل عقابيلها ضمن تطبيقات محلية واختيارات ذكيّة لنصوص عالية التمثيل، ثمّ السعي إلى تحويل هذه التطبيقات ذاتها إلى معارك حول النظرية. ولا ريب في أنّه يحتلّ مكانة بارزة في صفوف النقّاد العرب العاملين بدأب لوضع النقد العربي في خضم القرن الجديد، وتقريبه أكثر فأكثر من التطوّرات الأحدث في النقد والنظرية الأدبية المعاصرة.