بديع هذا الكتاب، الصغير حجماً (128 صفحة) والثرّ الشيّق الضروري محتوىً، الذي اختار موادّه وترجمها إلى الإنكليزية ووضع حواشيها كريستوفر ماورر، رئيس قسم الآداب الإسبانية في جامعة إللينوي الأمريكية، وصدر تحت عنوان "فصل في غرناطة". نعثر هنا على زبدة فريدة من قصائد ومقالات ورسائل فدريكو غارثيا لوركا (1898 ـ 1936)، اعتصرها بعناية ـ فائقة، حقاً ـ أخصائي كبير في أدب شاعر إسبانيا الكبير الشهيد، تتوزّع على ثلاثة محاور: امتداح الفردوس الغرناطي، والاحتفاء به، ورثاء ممالكه... وهي، كلّها، في مشروع زوال!
ثمة الكلاسيكيات الشهيرة، مثل "قصيدة الجريح بالماء" و"قصيدة الأغصان" و"غزلية الحبّ الذي يتوارى عن الأنظار" و"غزلية الطفل الميّت" و"غزلية الصباح في ساحة السوق"، حيث يستخدم لوركا المفردتين العربيتين Casida وGhazal؛ ولا تغيب النثريات التي لا تقلّ شهرة، مثل " تأملات ومجازات حول الماء" و"غرناطة: فردوس مغلق أمام الكثيرين" و"أسبوع مقدّس في غرناطة". وبالطبع، ثمة ذلك الألق الخاصّ الذي اتسمت به، على الدوام في الواقع، ترجمات ماورر الرائدة لأشعار لوركا (في سنة 1995 أصدر له "قصائد مختارة"، وقبلها بخمس سنوات كان قد نشر "القصائد الكاملة").
والحال أنّ هذه المختارات لا تكتسب مغزاها الخاصّ من علاقة لوركا، بالغة الخصوصية، مع مدينة غرناطة وأرجاء الأندلس بأسرها فحسب؛ بل كذلك من القسط الوافر الذي تمثّله في صناعة ما اعتبره الكثيرون معجزة لوركا: أنه، هو الذي ظلّ بعيداً تماماً عن السياسة المباشرة، أصبح شاعر الشعب الإسباني في حقبة مضطربة لا تحتمل سوى الإستقطاب السياسي الحادّ في المواقع والمواقف. وكان إعجازياً، بالفعل، أن ينقلب معظم نتاجه الحداثي إلى «أدب شعبي» اخترق الحواجز المنيعة بين الجمهور المشحون سياسياً، ومشاعره الجمالية المضطربة؛ وبين تجربة فنية قادرة على تكثيف تلك المشاعر، وترجمة الكثافة إلى ديناميات قراءة واستقبال وتفاعل. وهكذا، كانت القوى الوجدانية التي أطلقها قد أصبحت ـ شاء أم أبى ـ جزءاً من حركة ثورية ليس لها شكل، لكنها واسعة النطاق وذاتية الإنتاج ومفتوحة تتغذّى على نصّ أصبح قوّة مادّية. ولهذا تحتّم إحراق ذلك النصّ في الساحات العامة، ثم لم يجد الفاشيون مفرّاً من قتل صاحب النص نفسه.
في نتاج لوركا بدت إسبانيا أكثر كثافة أمام مرآة ذاتها، وأكثر مرارة ومأساوية. إنها إسبانيا الأغنيات الأندلسية والغجرية والقشتالية، وإسبانيا الإنفجارات العبقرية التي تتكرر بين حين وآخر لتهَبَ الإنسانية ذُرى كونية من طراز لوحات إلغريكو وغويا وبيكاسو ودالي، أو أدب أنتونيو ماشادو وخوان رامون خيمينيس، أو موسيقى ألبينيز ورودريغيز ومانويل دي فالا. وفي مطلع العقد الثالث من القرن لم يكتف لوركا، صحبة شاعر إسبانيا الكبير الثاني ورافائيل ألبرتي، بالالتفات إلى التراث الغنائي والتعبيري الشعبي، بل غاصا عميقاً في لجة الروح القومية، بحثاً عن النبرة الأصيلة التي افتقدها الشارع الإسباني بعد الكلاسيكي الكبير لوبي دي فيغا. التصوير انبثق من المخزون الشعبي وشعر الأعراس والسمر والاحتفالات وألعاب الأطفال، ووجد لوركا في غرناطة وجنوب إسبانيا معيناً لا ينضب من الصور والتراكيب المدهشة، فكتب عن «الصوت الأخضر»، و«الساعات المتلفعة بالأرقام»، و«العيون المشبعة بالليل»، و«النهر الراكض كثور»... هذه جميعها تتردد في الأغنيات والأشعار الأندلسية، ولم يكن على الشاعر سوى «تنسيق العوالم المختلفة ومنحها صيغة تشكيلية. على كفّ الشاعر تتلاطم البحار والممالك الجغرافية والرياح العاصفة، والشعر يحرق أصابعه كجمرة»، كما كتب في محاضرته الشهيرة عن لويس دي غونغورا.
ومن جانب آخر، تكتسب مختارات هذا الكتاب أهمية إضافية لأنها بمثابة منتخبات تمثيلية عن الطور الأخير في شعر لوركا، بعد أطوار الأعمال المبكرة والمرحلة الغنائية وقصائد نيويورك، الذي أعطى الإنسانية «ديوان تماريت» ومجموعة "القصائد" والغزليات" التي سجّلت شهادة لوركا عن عظمة المنجز الشعري العربي، واعترافه بالأثر الكبير الذي تركته القصيدة العربية الأندلسية على معمار الصوت والمعنى في مجمل نتاجه. وقصائده في هذا الطور تنسج على منوال الموشّح، وتضيف إليه حسّاً من التعاطف الميتافيزيقي العميق مع العوالم المعدنية والنباتية والحيوانية التي تخلق النزاع الداخلي الخالد، في طبيعة هي أكثر كمالاً من أن تكون مستقرة هادئة. وفي «قصيدة اليمامتَيْن السوداوَيْن»، مثلاً، كتب لوركا: "من خَلَل أغصان الغار/ رأيت يمامتَين سوداوين/ كانت الأولى الشمس/ وكانت الأخرى القمر./ صحتُ بهما: يا جارَتَيّ،/ أين قبري؟/ قالت الشمس: في ذيلي/ وقال القمر: في حنجرتي".
بحث لوركا طويلاً عن قبر شعري في محيط تشيع فيه ثقافة موت عريقة، وكان غناؤه أوالية دفاع ضدّ الموت الذي احتلّ مركز الثقل في مفهومه عن العالم والحياة. ولقد وجد قبره تحت شجرة زيتون، حين تفوّق النصّ على الفعل السياسي، وأدرك الطغاة طبيعة الرسالة التي تخترق تحصينات الشارع، وخطورتها حين يكون نَسَق الواقع أقرب إلى الظاهرة. لكنّ فصل حياته الأخير لم ينطوِ في أيّ مكان إسباني آخر سوى غرناطة ذاتها، التي وصفها هكذا: "منحتني ضياءها وأغراضها، وفحت لي شرايين أناشيدها السرّية... وهي التي صاغت هيئة المخلوق الذي أنا عليه: شاعر منذ الولادة، لا شفاء له من الشعر"!