حين رحل عن عالمنا هذا قبل أيام، لاح وكأنّ ما يصحب إميه سيزير (1913 - 2008) إلى الثرى ليس أيقونة المارتينيك الشعرية والإنسانية الكبرى الحديثة فحسب؛ بل تلك الأحقاب الحافلة، الشريفة والنبيلة والإشكالية، التي شهدت تحالف النصّ الأدبي والبيان السياسي، واقتران المخيّلة الفنّية الطليقة بالواقع الملموس الأسير، وما نجم عنهما من حصيلة اندماج التحرير الجمالي بالتحرّر من الإستعمار. لقد كان سيزير آخر ثلاثة كبار لعبوا، منذ أن التقوا للمرّة الأولى في العاصمة الفرنسية باريس سنة 1931، دوراً حاسماً بالغ الحيوية والفاعلية في تنظيم المقاومة الثقافية ضدّ الإستعمار: الأوّل كان الشاعر والسياسيّ السنغالي ليوبولد سيدار سنغور (1906 - 2001)، والثاني كان الشاعر والكاتب الغوياني ليون غونتران داماس (1912 - 1978).
ولقد استنبط هؤلاء، ثمّ طوّروا طيلة عقود، مفهوم «الزَنوَجة»، وكان سيزير نفسه هو الذي نحت المصطلح، لكي يكون منهجاً تطبيقياً في دراسة ما أسموه "الكتابة السوداء"، ولكي يتيح مادّة فكرية ونقدية لمقاومة الهيمنة الثقافية الفرنسية التي ظلّت جزءاً لا يتجزأ من سيرورة المشروع الإستعماري. ولقد كان للمفهوم فضل كبير في تحديد الثقافة السوداء والهوية السوداء، رغم سلسلة الإشكاليات التي اكتنفته منذ البدء، والتي كان على رأسها معضلة تنميط علم الجمال الأسود بوصفه نقيض علم الجمال الأبيض، ليس أكثر. وحتى عهد قريب، ورغم تثمينه العالي لشخص سيزير ومنجزه وأثره، ظلّ الأديب النيجيري وولي سوينكا (نوبل 1986) يساجل ضدّ مفهوم الزنوجة، معتبراً أنه ينطوي على نزعة قدرية في إقامة مواجهة بين جمالية سوداء وأخرى بيضاء، وينطلق من جوهرانية عرقية لا تحتسب فوارق الجغرافيات والثقافات.
لكنّ الناقد الأمريكي هنري لويس غيتس يرى، في كتابه الشهير "الأدب الأسود والنظرية النقدية"، أنّ مناهج دراسات الخطاب ما بعد الكولونيالي عرفت كيف توظّف المفهوم وتطوّره في حقول الأدب الأفرو ـ أمريكي، وموسيقى الجاز، والفنون التعبيرية والفولكلورية الأفريقية، إلى جانب نسف تصنيفات إستعمارية مثل أدب الكومنولث، وموضوعة «الزنجي/الأسود» في النصوص الغربية. وفي الأساس، كانت لدى الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر أسباب وجيهة لكي يتحمّس للمفهوم، حين كتب مقدّمة "أنطولوجيا الشعر الزنجي والمدغشقري الجديد"، المجلّد الذي صدر سنة 1948 وكان بمثابة التدشين الأكبر لمفهوم الزنوجة.
إلى هذا، كان سيزير أستاذاً لثلاثة تلامذة لن يطول الوقت حتى تلمع أسماؤهم في عالم الثقافة السوداء، أدباً وتنظيراً وممارسة، هم فرانز فانون وإدوار غليسان ودانييل ماكسيمن. ويصعب أن لا يرى المرء في نصّ سيزير الشهير "خطاب حول الإستعمار"، الذي كان قد صدر سنة 1950 وربط الإستعمار الأوروبي بالنازية، هادياً مركزياً في تأملات فانون حول العلاقة بين الإستعمار وعلم نفس الشخصية السوداء وتجربة التحرير والمقاومة عموماً. وهكذا، كان طبيعياً أن تقترن النظرية بالممارسة عند سيزير، وأن تكون حياته السياسية حافلة بدورها: الإنتساب إلى الحزب الشيوعي الفرنسي سنة 1945، حين انتُخب رئيساً لبلدية العاصمة فوردوفرانس ونائباً في الجمعية الوطنية الفرنسية (سيبقى في المنصب الأوّل حتى 2001، وفي الثاني حتى 1993)، وتأسيس "الحزب التقدمي المارتينيكي" بعد الإنسحاب من الشيوعي الفرنسي على قاعدة الموقف من الستالينية.
آخر مواقفه السياسية كانت مناصرته لمرشحة الحزب الإشتراكي الفرنسي، سيغولين رويال، في الإنتخابات الرئاسية. قبل هذا، في أواخر 2005، تلقى الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي (وكان يومذاك وزيراً للداخلية) صفعة معنوية قاسية، سرعان ما انقلبت إلى حرج سياسي وأخلاقي، حين قرّر سيزير رفض استقباله في المارتينيك، هو النجم الصاعد في سماء اليمين الفرنسي، والشخص الثاني في الحكومة، ورئيس الحزب الحاكم، والمرشّح القادم في انتخابات الرئاسة. كان سيزير يعلن، على طريقته، مناهضته الصريحة لقانون فرنسي جديد قضي بإجبار المدارس على تعليم "الجوانب الإيجابية" في الإستعمار. وكان، من خلال مقاطعة ساركوزي، يقاطع أيضاً هذه الـ "فرنسا" الساعية إلى تبجيل ماضيها الإستعماري وتبييض صفحاته. وبالطبع، لم يجد ساركوزي مخرجاً من الحرج سوى إلغاء الزيارة.
ويبقى، أخيراً وأساساً، أن سيزير كان شاعراً من طراز خاصّ، نجحت قصيدته في عقد مصالحات شاقة بين حداثة فرنسا وتراث المارتينيك، بين المزاج السوريالي المنعتق والنصّ المقاوِم الملتزم، فضلاً عن مغامرة لغوية فريدة نقلت إلى الفرنسية مزيجاً آسراً من قاموس مياه الجزر الدافئة وشموسها وأقمارها وسهولها وجبالها. وفي "دفتر عودة إلى البلد الأمّ"، قصيدته العظيمة التي أنجزها سنة 1939 ونالت مديحاً (متوقعاً) من سارتر، وآخر (غير منتظَر) من أندريه بروتون، ثمّة ذلك الشعر الحرّ في الشكل وفي المحتوى، الحداثي التجريبي، وليد حكايات الناس وحكمة الأسلاف، الحافل بالمجاز البرّي والصورة المركّبة، الغنائي تارة والملحمي طوراً، التاريخي هنا والأسطوري هناك. وثمة، غنيّ عن القول، ذلك الفخار الزنجيّ الدافق: "زنوجتي ليست حَجَراً، لأنّ صممها يتعالى فوق اصطخاب النهار/ زنوجتي ليست كيس مياه ميّتة في العين المينة للأرض/ زنوجتي ليست برجاً ولا كاتدرائية/ ما من بقعة في هذا العالم إلا وتحمل بصمة أصابعي/ وآثار أقدامي مطبوعة على ظهور ناطحات السحاب/ مثلما تتبدّى نعومتي في لمعان الأحجار الكريمة"...