صبحي حديدي
(سوريا/باريس)

صبحي حديديأميل إلى اعتبار رحيل الناقد المصري الكبير رجاء النقاش (1934 - 2008) بمثابة اختتام، وربما طيّ حتى إشعار آخر طويل، لصفحات خاصة في تاريخ النقد الأدبي العربي، خلال أواسط الخمسينيات وعقدَيْ الستينيات والسبعينيات، حين توجّب على بعض النقّاد ذوي الميول القومية أن يواكبوا برامج أحزاب وقوى البرجوازية الصغيرة العربية، ، الناصرية أو البعثية، وأن يشحنوا مفهوم الإلتزام بجرعات عالية، وأحياناً مفرطة مغالية، من الحسّ النضالي والإنحياز الحزبي. وبالطبع، توفّر في المقابل ذلك الفريق الذي لم يطالب بالتخفّف من تلك الجرعات فحسب، بل ناهض مفهوم الإلتزام ذاته على قاعدة منح الفنّان حرّية قصوى، فنّية وسياسية (الأمر الذي لم يمنع بعض هؤلاء من أن يلتزموا بالدفاع عن فلسفات أخرى، مثل نظرية الفنّ للفنّ أو الوجودية أو العبث أو القومية الإجتماعية التي بشّر بها أنطون سعادة، حتى إذا كانت أفكار بعض هذه الفلسفات تفضي إلى مآلات غير بعيدة عن الفاشية).

لكنّ النقّاش، في غمرة هذَين الإستقطابين، وسواهما، ظلّ ناقداً من طراز خاصّ بالفعل، لأنّ نشاطه النقدي كان، ومنذ الكتابات الأبكر، علامة طازجة حارّة تشير إلى أمرَين:

  1. إدارة الصراع (في جبهة الأدب) بين اليمين واليسار عموماً، وبين المدافعين عن عروبة مصر ودعاة انتمائها إلى أصول أخرى شعوبية. وفي هذا الصدد تندرج سجالاته ضدّ توفيق الحكيم ولويس عوض ومَن أسماهم بـ "الإنعزاليين"، ودفاعه عن طه حسين وأنور المعداوي، وتمييزه بين اتجاهات اليمين واليسار عند عباس محمود العقاد (وكان ذلك التمييز بمثابة اختراق ذاتيّ نحو الديالكتيك الماركسي، مارسه النقّاش بنفسه، على نفسه)، وتشخيصه للظواهر السياسية وراء أزمة الثقافة المصرية.
  2. تقديم المواهب الأدبية الجديدة، والسباحة عكس التيّار في الدفاع عن حقّها في احتلال الموقع المناسب. وهكذا كان رجاء النقاش بين أوائل الذين قدّموا الروائي السوداني الطيّب صالح، فرحّب بروايته "موسم الهجرة إلي الشمال"، واعتبر أنّ صدور هذه الرواية يدلّ على أنّ الروائي المصري الكبير نجيب محفوظ لم يعد عقبة في وجه تطوّر الأسماء الشابة. كذلك قدّم النقاش لمجموعة أحمد عبد المعطي حجازي الأساسية "مدينة بلا قلب"، 1958، وكانت تلك المقدّمة بمثابة بيان سياسي، قوميّ ناصري تقدّمي، في تحصين قصيدة التفعيلة المصرية ضدّ دعاة تأثيمها واعتبارها نتاجاً إستعمارياً. وبالطبع، كان النقّاش أوّل المبادرين إلى تقديم محمود درويش، وذلك حتى قبل أن يغادر الأخير فلسطين المحتلة، ورغم حساسية الحديث (آنذاك!) عن شاعر فلسطيني كان يحمل الجنسية الإسرائيلية، فكيف بامتداحه شاعر مقاومة!

وفي الجانب السجالي خاض النقّاش عشرات المعارك دفاعاً عن قناعاته (ولعلّ هذا بعض السبب في إفراط الحماسة لديه)، كما خاض عشرات المعارك الأخرى دفاعاً عن الآخرين (سواء أكانوا من النقّاد أو الأدباء). وكان يصيب في معظم الأحيان، ويخطيء في أحيان، خصوصاً حين يطغى التأويل السياسي للنصّ أو الإنتماء العقائدي لصاحب النصّ على الخصائص الفنّية للنصّ ذاته. وفي الجانب العملي تولّى النقاش رئاسة تحرير دوريات عربية أساسية (مثل "الهلال" و"كتاب الهلال" الشهري، و"الدوحة" القطرية)، وكانت هذه المهامّ بمثابة اختبار عملي لمواقفه المنحازة إلى الحداثة والتجديد، وتسامحه مع النزعات التجريبية لدى الأدباء الشباب.

لكنّه كان، ولعلّه ظلّ حتى رحيله، شديد الميل إلى إسقاط السياسة (بمعناها المباشر والعقائدي والحزبي) على الظواهر الإبداعية، وإلى شطب جزء كبير من حقوق الإبداع إذا أخلّت هذه بحقوق تلك السياسة تحديداً، وليس السياسة في أيّ من معانيها غير التبسيطية. ولعلّ جوهر هذا الموقف تختصره الكلمة التي نُشرت على الغلاف الأخير لكتاب النقّاش "ثلاثون عاماً مع الشعر والشعراء"، حيث جاء فيها: "وقد وقف المؤلف بوضوح وصراحة مع حركات التجديد الأصيلة ورموزها المختلفة، كما وقف ضدّ حركات التجديد المبنية على عداء حضاري وقومي للأمّة العربية واللغة العربية وآدابها. ولم يتردّد المؤلف في معارضة حركات التجديد القائمة على سوء النيّة القومية، والإستهانة بالتراث الحضاري العربي بهدف تمزيق العرب فكرياً وثقافياً ووجدانياً".

والحقّ أنّ أحداً لا يستطيع الزعم الأكيد بأنّ دعوة تجديدية في الأدب، أياً كانت مفاهيمها، يمكن في الآن ذاته أن تكون حالة "عداء حضاري وقومي للأمّة العربية"، لأنّ تجدّد المضامين والأساليب والأشكال والمدارس الأدبية أو الفنّية ظاهرة إبداعية واجتماعية ـ ثقافية عميقة، وحتمية مراراً، حتى إذا انطلقت من أساس سياسي أو فلسفي. وهكذا برهنت السنوات اللاحقة أنّ حركة التجديد التي قادت إلي تكريس قصيدة النثر في الشعر العربي منذ أواخر الخمسينيات، لم تكن حركة سياسية قادها شعراء أعضاء في الحزب السوري القومي الإجتماعي حصرياً، وشجّعتها أوساط الإستشراق الغربية وحدها، كما تردّد حينذاك، بل هي حركة تجديد عميقة في المحتوى والأسلوب والشكل، بدليل أنها اليوم الإتجاه الأعمّ في الشعر العربي المعاصر، ويمارس كتابتها شعراء قوميون وماركسيون وإسلاميون!

وإلى جانب اختتام هذه الصفحة، الحارّة الحافلة، يخشى المرء أن يطوي رحيل رجاء النقّاش تلك القدوة الصالحة التي اجتهد الراحل طويلاً لتكريسها: في ميدان ممارسة النقد التطبيقي، وفي الحرص على متابعة الظواهر الخلافية، وإثارة النقاش حولها، والتنبّه إلى الأصوات الجديدة والشابة، والمجازفة بتقديمها ووضعها ضمن سياقات المشهد الأدبي الأعرض.