سعيد الكفراوي أحد كبار شيوخ القصّ في الأدب العربي المعاصر، وفي عداد أبرز الأساتذة (القلائل، كما يتوجّب التذكير) الذين يواصلون كتابة وإثراء وتطوير القصة القصيرة، ذلك الفنّ الجميل الشاقّ الضروري، الصامد في وجه عواصف شتى عاتية قاتلة لا تني تهدّد هذا الشكل الخاصّ في السرد، الفريد في قدرته على التكثيف الحكائي للبرهة الإنسانية. ومنذ مجموعته الأولى المتميزة "مدينة الموت الجميل"، أوائل السبعينيات؛ وحتى مجموعته التاسعة الأحدث، "يا قلب مين يشتريك"، 2007؛ ظلّ الكفراوي يراوغ طاقات هذا الفنّ، فيصارعها تارة، ويهادنها طوراً، وينشقّ عن مواضعاتها الكلاسيكية التشيخوفية مرّة، ليصالح ضمن هذه المواضعات ذاتها سلسلة مدهشة من التقنيات الحداثية، مرّات ومرّات.
وأعترف، حين قرأت عزم الكفراوي على إصدار رواية بعنوان "بطرس الصياد"، أنّ بهجة التفاتة هذا الأستاذ الكبير إلى فنّ الرواية، بعد أكثر من أربعة عقود أمضاها في كتابة قصة قصيرة متقدّمة ورائدة وطليعية، اختلطت عندي بهاجس بدا أشبه ببارقة قلق: هل يعني هذا أنّ عمّنا سعيد ينوي هجر "الكار" الفاتن الذي أبدع فيه وتألق ورسّخ وأسّس، حتى لو كان ذلك الهجر جزئياً؟ كأنني، والأمر هنا يخصّ الذائقة الشخصية بالطبع، كنت أنكر عليه حقّه في كتابة الرواية، وأقبل الثنائية إياها عند أستاذ آخر كبير في القصة القصيرة العربية، هو إبراهيم أصلان؟ ومن جانب آخر، هل يحقّ لي ـ ولا أغادر، هنا أيضاً، دائرة التأمّل الشخصي، كقارىء شديد الإعجاب بأدب الكفراوي ـ أن أتمنى سجنه في فنّ واحد، هو القصة القصيرة، لمجرّد أنه في ذلك الفنّ قامة عالية شامخة، تُمْتع وتعلّم وتربّي، إنسانياً وأخلاقياً وجمالياً؟
أهذا من طراز الولع الاستئثاري، المفرط في ترجيح نوع كتابيّ على آخر، أو القائم على مزيج من التأويل الفضفاض والضيّق، الذي يطيب للقارىء، بعد أن يتسلّح ببعض التنظير النقدي، أن يسقطه قسراً على النصّ؟ أهذا هو نوع الإستجابة التي دفعت محمود درويش إلى إطلاق ذلك الرجاء الشهير، مطلع السبعينيات: "أنقذونا من هذا الحبّ القاسي"؟ الأرجح أنه شعور من هذا القبيل، لا يبدّل في محتواه الإستلابي أنّ غايته الجوهرية هي التشبّث بفنّ دون آخر، تغليباً لمتعة قد تلوح للنفس أثرى من سواها.
ويحلو للكفراوي أن يعلن ارتياحه الشديد لعبارة قالها الناقد المصري الراحل د. شكري عياد في توصيف أدبه: "إنه الزمن البئر، حيث لا يتميز فيه الماضي عن الحاضر، أو المستقبل، وتتقطر فيه تجارب الإنسان، والتي لا تختلف في جوهرها بين إنسان عاش منذ آلاف السنين، وإنسان يولد اليوم أو يموت غداً في قرية مصرية. فالولادة والموت لا فرق بينهما في زمن يعني فهم الفنان للخلود والروح والحضارة". وأجدني على خلاف مع أستاذنا الكبير في استعارة البئر أوّلاً، إذْ تبدو لي عوالم الكفراوي الفسيحة العريضة أقرب إلى نبع مترامي الأطراف شاسع الضفاف، من حيث الفضاء والمساحة والحركة والدفق، لا يتسع لاعتمالاتها الدائبة العميقة أيّ بئر، مهما انبسطت قيعانه.
كذلك أجد، في المقام الثاني، أنّ جوهر إنسان الكفراوي متغاير متبدّل متعدّد، وليس غير مختلف في جوهره بين مَن عاش منذ آلاف السنين ومَن يولد اليوم أو يموت غداً، رغم السمات الكونية المذهلة التي يقطّرها الكفراوي (وهذا الفعل، الذي يقترحه د. عياد، صائب وعادل وثاقب) بأناة عبقرية، في نفوس شخوصه وأماكنه وحكاياه. وثالثاً، لست أدري إذا كان الكفراوي يسعى إلى ترسيم أيّ "جوهر" إنساني ثابت، إذا صحّ وجود مثل هذا الجوهر في الأساس، تغيب فيه الفروقات بين الولادة والموت، أو بين الوجود والعدم مادمنا نتحدّث في النطاق الفلسفي. وهنا أيضاً، لعلّ الكتلة الإنسانية العبقرية التي يتيح لها الكفراوي أن تتشكّل، أو بالأحرى تتكوّن، في كلّ قصة قصيرة يكتبها، هي جماع عناصر لا يحتكرها الكائن البشري رغم هيمنته، بقدر ما تتدخّل في تجسيدها كائنات أخرى تخصّ الحيوان والنبات وروح المكان، وهذه العناصر كلّها وقد دخلت في تناغم رفيع ـ شفيف دون إسفاف، ومركّب دون تعقيد ـ مع زمان ليس وقائعياً واقعياً تماماً، وليس مطلقاً ميتافيزيقياً فقط، بل هو جماع الأقصيَيْن، ونسيج وحده استطراداً.
والحال أنّ هذه الأكوان، لأنها ليست محض كائنات أو كيانات، لا تتبدّى على هيئاتها هذه في قصص الكفراوي وحدها، بل نجدها كذلك في كتابه الأخير الفاتن، غير القصصي، "حكايات عن ناس طيبين"، دار العين للنشر. وثمة هنا بورتريهات عن البشر (من نجيب محفوظ ويحيى حقي وأمل دنقل، إلى أم كلثوم وزكريا أحمد وبيرم التونسي، مروراً بالخالة خضرة والجدّ سلامة، فضلاً عن حسن سليمان وعدلي رزق الله وحلمي التوني وعبد الهادي الجزار...)، تمّ التقاطها في صميم المكان (من مقهى ريش وقصر المسافر خانة، إلى بستان الخيال وسجن طرة ومسجد صلاح الدين، فضلاً عن القرى والكفور والمدن...). وهي، في هذا الإلتقاط، لا ترسم الصورة الحاشدة المتدفقة من نبع بلا قرار فحسب، بل تفجّر في كلّ صورة منفردة عشرات التفاصيل الصغيرة الدقيقة الخافية، صانعة المزيد من الملامح، رابطة بينها في تجانس تلقائي تارة وتنافر مقصود طوراً، خالقة منها مشاريع أكوان أخرى وليدة... داخل الأكوان الأمّ.
القدس العربي