الاربعاء, 20 مايو 2009
لم تتمكن صفة الناقد والأكاديمي من التغلّب على صفة الشاعر في شخص محمد بدوي العائد حديثاً بديوان جديد عنوانه «الشمعة من طرفيها» (دار النهضة العربية) بعد انقطاع عن النشر الشعري تخطى الأعوام العشرة. لكن هذا الانقطاع لم يحل دون اقبال محمد بدوي على نشر بضع قصائد له في مجلات أدبية، مصرية وعربية، في شكل متقطع. ولئن كادت الصفة الأولى تسبق الثانية طوال تلك السنوات، تبعاً لصدور كتب نقدية مهمة له، علاوة على مقالاته التي واكبت الحركة الإبداعية العربية، شعراً ورواية، فهو في عودته هذه بدا كأنه لم يغب عن المعترك الشعري الراهن الذي شهد الكثير من التحولات الجوهرية. ولعل الديوان الجديد ينمّ عن الهمّ الشعري الذي ما فتئ يشغل بدوي ويدفعه الى مواكبة الموجة الجديدة وكأنه واحد من شعراء الأجيال الراهنة. عرف بدوي كيف يجدّد نفسه شاعراً وكيف يشرع قصيدته على الأفق الجديد خارجاً على المعطيات الشعرية السابقة التي باتت ثابتة أو شبه ثابتة. كأنه في ديوانه هذا يخوض مغامرة أخرى انطلاقاً من صميم تجربته وما آلت اليه، لا سيما في ديوانه «تلويحة النسيان» (1998) لكن محمد بدوي الذي بدا «شاباً» في قصائده الجديدة حافظ على الملامح التي طالما وسمت عالمه الشعريّ، متخطياً اياها في الحين نفسه. ولعل الشاعر الذي شاء أن يتحرر من ربقة قصيدة التفعيلة التي كانت له فيها مقاربته لم يتخلّ تماماً عن جذوره وعن ماضيه الشخصي، فهو يحتفي في بضع قصائد بهذا الماضي مستعيداً بعضاً من علاماته وصوره وكائناته، وفي مقدمها صورة الأب وصورة الأم والبيت والنخلة... عطفاً على صورته نفسه. هكذا يتحد الماضيان، الشخصي والشعري، لينبثق عن اتحادهما حال ولغة، وعالم فريد بأبعاده وأصدائه.
قد يكون عنوان الديوان خير مدخل الى قراءته: أليست «الشمعة من طرفيها» هي الشاعر في ناحيتيه، المضيئة والمظلمة، ناحية «الأنا» التي هي آخر، بحسب مقولة رامبو، وناحية «الذات» التي هي الكينونة؟ وهذه الثنائية المنبثقة عن وحدانية «الشمعة» قد تشمل أيضاً العلاقة بين الحاضر والماضي، فالشاعر لا ينثني عن استعادة ماضيه ليكتشفه ويحاكمه ربما، أو ينهي حسابه معه كما يقال. إلا أنه يكتب عن الماضي انطلاقاً من الآن أو الحاضر، ولكن ليس هرباً منه بل حنيناً الى الأيام التي مضت والتي تلوح لتغوي صاحبها، الشاعر، مثلما يعبّر. والماضي لا يُكتب عنه إلا بـ «قلم ليّن» وعلى «ورقة بيضاء». هذه الجدلية بين ماضٍ وحاضر، تقابلها في الديوان جدلية الأنا - الآخر أو جدلية الأنا - الذات التي تتجلّى في حالٍ طيفية لا يمكن الفصل فيها بين الشخص والطيف أو بين الماضي والصدى، بين الحاضر والذكرى.
أما استعادة الماضي فتتمثل بدءاً في استعادة أطياف من ذاك الزمن الذي عبر، وأولها طيف الأب الذي يحضر بشدّة. في قصيدة «لقاء متأخر» يخاطب الشاعر أباه معترفاً أو بائحاً برغبة لديه قديمة، هي أن يتحدث اليه. كان الحديث بين الابن والأب مؤجلاً دوماً نظراً الى الاختلاف بين حال الأبوة وحال البنوّة، بين الأب المشغول بالصلاة أو بالبحث عن «لقية» في «شوارع القاهرة القديمة» أو بالعودة الى القرية، والابن الطائش الذي سلبه الشراب والتدخين والذي هجر البيت من «أجل شعره الطويل» و «من أجل الليل»... لا يسعى الشاعر الى «قتل» صورة الأب بتاتاً بل هو يستعيدها ليعتذر منه بعدما أصبح الأب أشبه بـ «مَنْ يوغل في الضباب حتى يغيب». وقد لا يكون الاعتذار الذي تم متأخراً ليس إلا فرصة للأْمِ الصدع بين الأبوّة المكسورة والبنوة المكسورة أيضاً. يقول الشاعر في هذا الصدد: «افترقنا الآن أوغل الزمن وحقّ لنا أن نكتشف هذا التفاهم». وإذ يعلن الشاعر اذعانه لصدق الأب يُعلمه أن «الآباء يقولون توقعاتهم بعد فوات الأوان».
هذه الصورة الجميلة للأب المستعاد تقابلها صور أخرى مستعادة من الماضي، لا تقل عنها جمالاً أو أسى. في قصيدة «وراء الصوت» مثلاً يسترجع الشاعر شخص الأم ولكن داخل مشهد عائلي أليف تصنعه «النسوة اللابسات السواد» اللواتي كن يقصدن الأم لغاية ما، تفوح منهن رائحة العجين والحليب. لا تحضر الأم وحدها، بل محاطةً دوماً بصديقات، وفي مشهد عائلي وطبيعي أو «بيئي» أليف: «صديقة أمي تجيء لها بالكحل من سوق الأحد...»، كما يقول مضيفاً: «تجلس لدينا حين يرتفع الضحى، نسوة طويلات أكثر سيولة من النيل». والأم على خلاف الأب لا تحتاج من الشاعر الى أي اعتذار متأخر، فالأم كانت تسرق تبغ الأب لتعطيه الى الابن، وكأن لديها رغبة دفينة (أو لا واعية) في أن يحلّ محلّه.
شجرة الطفولة
في قصيدة «أغنية النخل» تحضر تلك شجرة النخيل، حارسة الطفولة، وقد عهد الشاعر اليها مهمة الكلام لتخبر عنه عندما كان صغيراً يخبئ التبغ الأول في سعفها وكيف «أخذته الأيام» من ثم و «استطال فرعه». ومثلما تحضر النخلة، يحضر البيت (قصيدة «بيت لنا») كصورة من الماضي يسعى الشاعر الى الحفاظ عليها والى «مسح الغبار» عنها و «وضعها بجوار الحائط». ليس البيت هنا طللاً يقف الشاعر أمامه بل أشبه بالكائن الذي «يأخذ في العتمة سمت امرأة». أما في النهار فهو «يلوح حقلاً بلا سياج». هكذا يؤنث الشاعر البيت مانحاً اياه صفة الحضن الأنثوي أو الأمومي الذي يملك رحابة الليل وعمقه، وكذلك صفة المكان الطبيعي المفتوح على هواء الحرية. ولا تكتمل صورة البيت إلا عبر نشيد التراب الذي هو الماضي أيضاً، في تقلباته ومآسيه. ففي «أغنية التراب» يتكلم التراب نفسه قائلاً: «سأنسى أنني أُداس بالأقدام يهجرني الماء فأتشقق يغمرني الدم المسفوح».
لا يؤنسن الشاعر الأشياء أو العناصر الجامدة (البيت، التراب، النخلة...) بغية اسباغ صفة الحياة عليها، مقدار ما يضفي عليها حالاً طيفية تشبه الحال الطيفية نفسها التي تتجاذب الأنا والآخر، أنا الشاعر وآخر(ه). لكن هذه الجدلية ليست قائمة على المواجهة أو التضاد والتنافر، بل على التواؤم والتناغم، وكأن الأنا صدى الآخر أو كأن الآخر رجْعُ الأنا. ولا يتمّ تناغمهما - أكثر ما يتمّ - إلا في نزعتهما الطيفية وبعدهما «المرآوي». فالشاعر كأنما يقف أمام مرآة غائبة، يخاطب نفسه فيها بصفته «الغائب» الذي هو «المتكلم» بصفته طيفاً. وقد لا يكون مستغرباً أن تطغى هذه «الجدلية» على قصائد كثيرة في الديوان فهي تمثل ذروة تجلّي التجربة، في اللغة وما تحمل من مخزون أو عمق. في قصيدة «تعريف» يخاطب الشاعر نفسه معتمداً ضمير المتكلم ومتوجهاً الى «الصديق» الذي هو المخاطب، المخاطب «المنفصم» أو بالأحرى «المنفصل» عن الأنا: «أنا صديقي الوحيد أكلّمني وفي أوقات الشدّة أعزّيني...». لم يخاطب الشاعر نفسه قائلاً: أنا صديق نفسي، أكلم نفسي... بل ألغى الحدود بين المتكلم والمخاطَب الذي هو كلاهما معاً، خالقاً من وحدتهما صورة لشخصين منفصلين ومتحدين في آنٍ واحد. فضمير «الأنا» أو المتكلم عندما يسأل أحياناً يجيبه «الصديق» الذي أصبح هو: «أحياناً أسأل ويجيب صديقي أحياناً يسأل فأتركه بلا اجابة...». إلا أن ضمير الغائب ( هو) يستحيل في قصيدة أخرى ضمير المخاطب (أنت) كأن يقول الشاعر: «أنا... أجدني بغتة وجهاً لوجه معك أنسى أنني أخذتك من يدك... أنسى أيضاً أنني تركتك وحدك في العراء».
ليس الضمير المتكلم والضمير الغائب والمخاطب إلا الشاعر نفسه، الشاعر المتواري خلف قناع شفاف يشبه «لوح الزجاج» الذي يتحدث عنه في احدى القصائد. وخلال هذا الزجاج بدا الشاعر قادراً على أن يبصر نفسه وأن يبصر آخر(ه) أو الآخر الذي هو نفسه، مخاطباً اياه حيناً (أنت) ومتحدثاً عنه حيناً في صيغة الغائب (هو). ويحدث أيضاً أن يرى الشاعر نفسه «رجلاً خيطياً» يمشي في نومه أو «يسير في مرآة»، وأن يبصر «سرواله» يمشي وحده مُفرَعاً منه، كما يقول. هذه الحال «الخيطية» توازي الحال الطيفية التي ترين على القصائد، مثلما تشبه «السيولة الغامضة» التي يقول الشاعر انه ينتمي اليها. ليست حال «انفصام» مرضي هذه الحال التي تعتري الشاعر والتي تحمل الشعر الى إحدى ذراه، بل هي حال حلمية أو متوهمة تتيح للشاعر أن يبصر ما وراء المنظر، بعينه الداخلية ومن خلال «الغبش» أو «العشوة» التي سمّاها رامبو «خلل الحواس». «من يرني يظنني واحداً لكننا اثنان»، يقول الشاعر. ويقول في قصيدة أخرى: «من حقّ الرجل العطشان أن يشرب... ليصبح رجلين، الأول، ثمل يزفّه الصبية اللاهون في السكك والثاني يتجوّل متسكّعاً تحت سماء مضيئة».
لئن بدت الضمائر في صيغها المتعددة متحدة في «الذات» الشاعرة أو في ذات الشاعر، إلا أنها تؤدي أدواراً مختلفة انطلاقاً من وحدتها. فـ «الأنا، كما يقول رولان بارت، شاهد، أما الفاعل فهو ضمير الغائب، هو». وهذه حقيقة بينة في اللعبة «القناعية» التي يمارسها الشاعر. ضمير الأنا ليس هو الذات وان كان صداها، وضمير الهو أو الغائب هو المخاطب (أنت) وإن كان ترجيعاً له. «الأنا - آخر» حقاً، كما قال رامبو، مضيفاً: «إذا استيقظ النحاس ووجد نفسه بوقاً، فالذنب ليس ذنبه». العلاقة بين الأنا والآخر هي صنو العلاقة بين النحاس والبوق، كلاهما واحد وكلاهما ليس بواحد. والأنا لا تتماهى بالآخر إلا عبر اللبس القائم بينهما. الأنا يمكن أن تكون أنت وهو ونحن وهم... انها لعبة الضمائر التي ليست إلا لعبة أقنعة، قاعدتها الذات التي هي بمثابة وجه الشاعر نفسه الذي تتبدّل أقنعته. الأنا هي الذات وليست الذات، مثلما أنّ الذات هي الأنا وليست الأنا. هذه الثنائية المتناغمة كان الفيلسوف يونغ خير من عبّر عنها ونظّر لها، مميزاً بين الأنا التي تنتمي الى الزمن الواقعي (أو الخارجي) والآخر الذي ينتمي الى الزمن الداخلي الغائب أو الباطن.
يفاجئ الشاعر محمد بدوي قراءه، بعد انقطاعه فترة غير قصيرة عن نشر الشعر، حاملاً اليهم قصائد تفيض حياة ونضارة أو شباباً إن أمكن القول، فهذا الشاعر الذي نجح في تلميع صورته كناقد جادّ وطليعي، لم يتخل عن «الآخر» الكامن فيه، الذي هو الانا الحقيقية، أنا الشاعر، الشاعر المتجدّد دوماً والمنفتح على الجماليات الحديثة وعلى الشعريات المستجدّة، عالمياً وعربياً.