بعد انتظار طويل صدرت قبل بضعة أيام عن دار لاديفيرونس في باريس أول أنطولوجيا مخصصة للشعر المغربي باللغة الفرنسية تحت عنوان أنطولوجيا الشعر المغربي من الاستقلال إلي اليوم. وهي من إنجاز الشاعر المغربي المقيم في باريس عبد اللطيف اللعبي. وقد ضمت هذه الأنطولوجيا واحدا وخمسين شاعرا وشاعرة مغربية من كل المشارب والاتجاهات واشتملت على مداخل موجزة تُعَرف بكل صوت شعري على حدة، مع مختارات من قصائده بالإضافة إلى ملحق بيبلوغرافي في نهاية الكتاب الذي خرج في حلة أنيقة و270 صفحة من القطع المتوسط. ويشكل هذا الإصدار حدثا ثقافيا مهما على أكثر من مستوى. فلأول مرة يستطيع القارئ الفرنسي، والفرانكفوني بصفة عامة، أن يُكَون فكرة وافية عن المشهد الشعري المغربي المعاصر وأن يلمس عن قرب الثراء الذي يطبع تجربته، التي رغم حداثة عمرها قطعت أشواطا مهمة حتى بالمقارنة مع بلدان عربية لها تقاليد شعرية أكثر رسوخا. كما أن هذه الأنطولوجيا، وهذا ما نتمناه، تشكل فرصة سانحة لإثارة نقاش غني في الساحة الشعرية المغربية قد يعيد إليها بعضا من الحيوية التي افتقدتها في السنوات الأخيرة.
وعدا الجهد الكبير الذي تطلبه إنجاز أنطولوجيا من هذا الحجم فيما يخص تجميع النصوص واختيار النماذج وترجمتها في لغة فرنسية راقية، وهو جهد أخذ منه خمس سنوات، كتب اللعبي مقدمة نظرية مستفيضة من 16 صفحة بالغة الأهمية عكست قراءته الشخصية لمسيرة الشعر المغربي ورؤيته الخاصة للإشكاليات والمفارقات التي تطرحها وهذا في نظرنا ما سيفتح باب النقاش على مصراعيه لاشتمالها على أفكار وأحكام واستنتاجات قد لا يستسيغها بعض الشعراء والنقاد المغاربة. ورغم تأكيده على أن معايير اختياره للشعراء ونصوصهم يستند بالأساس على ذائقته الشخصية، بدا اللعبي مسكونا بهاجس توازن دخلت فيه عوامل يتجاوز بعضها الاعتبارات الشعرية. فبالإضافة إلي اشتمالها على شعراء العربية الفصحى والعامية والأمازيغية والفرنسية فسحت مجالا واسعا للشاعرات المغربيات من مختلف الأجيال في مبادرة منه لتشجيع التجربة الشعرية النسائية المغربية متتبعا ما سماه بـ التمييز الإيجابي أي أنه نهج نظام الحصص أو الكوتا لتكريس حضور نسائي متألق في الأنطولوجيا. ثمة اعتبارات مشابهة أيضا اعتمدها اللعبي في مختاراته من الشعر الأمازيغي تلميحا منه لتعاطفه مع تيار من المثقفين المغاربة يدعو إلي إعادة الاعتبار للثقافة الأمازيغية.
وبغض النظر عن حضور أسماء معينة أو غياب أخري فذلك يبقى في نهاية الأمر من صلاحيات مُنْجز الأنطولوجيا وعلى ذمته حتى ولو حاسبه البعض على ذلك. لكن الغياب الذي يفتح الإشكال على مصراعيه تجلي في إهمال التوقف عند تجارب جماعية وازنة لا تقل أهمية عن تجربة أنفاس التي أعطاها اللعبي حقها، وربما أكثر، في معرض تقديمه النظري. ومن ضمن هذه التجارب على سبيل المثال تجربة مجلة الثقافة الجديدة التي أسسها الشاعر محمد بنيس رفقة مجموعة من المثقفين المغاربة عام 1974 واستمرت في الصدور عشر سنوات وشكلت منعطفا لافتا في مسيرة الشعر المغربي الحديث وعبره إلى الساحة الثقافية في المشرق. وهي تجربة طرحت سؤال الحداثة على مصراعيه وجعلت من صفحاتها ورشة إبداعية نشيطة لتدارس مجموعة من الإشكاليات التي واكبت النص المغربي عربيا كان أو فرنسيا أو عاميا أو حتى أمازيغيا. ولا نظن أنه يكفي القول، كما يشير إلي ذلك اللعبي في حوارنا معه، بأن الثقافة الجديـــدة كانت استمرارية لنهج أنفاس فذلك ربما اختزال لتجربتها. فهذه الأخيرة لم تبلور فقط بعض الهواجس التي اكتفت أنفاس أحيانا بملامسة عتباتها فقط بل طرحت سؤالا أساسيا كان سيشكل لا محالة مأزقا حقيقيا لـ أنفاس لو عمّرت أطول واعني بذلك علاقة السياسي بالشعري وما تطرحه من مخاطر ومطبّات. وشعراء أنفاس عدا استثناءات قليلة من بينها محمد خير الدين وعبد الكبير الخطيبي ومصطفي النيسابوري، كانوا غارقين حتى أخمص القدمين في شعر ملتزم يسكنه الهمُّ السياسي والتعبوي وتخترقه أحيانا رومانسية ثورية ساذجة. في حين أن الثقافة الجديدة طرحت باكرا، مغربيا على الأقل، خطورة هيمنة السياسي على الشعري والثقافي بشكل عام، الأمر الذي عرضها لانتقادات واسعة حتى من طرف مثقفي اليسار أنفسهم. هذا عدا أن الثقافة الجديدة حرصت باكرا على لفت الانتباه إلى أهمية الخط المغربي والبعد البصري وسؤال المقدس والتراث الشعبي في القصيدة المغربية.
لكن الثغرة الأهم التي وسمت تقديم اللعبي في نظرنا تبقى هي تغييب أي إشارة ولو مقتضبة إلى الاختيارات الشكلية في القصيدة المغربية الحديثة. فالساحة الشعرية المغربية المعاصرة، ككل الساحات الشعرية العربية، عاشت منذ الستينات على إيقاع نقاشات وسجالات صاخبة حول الشعر الحر وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر وهي نقاشات مهمة أسست لسؤال الحداثة في النص الشعري المغربي. ولا نظن أنها كانت نقاشات فارغة كما يزعم اللعبي في الحوار. وإن كنا نفهم أن الشاعر، مغربيا كان أو تونسيا أو لبنانيا، عندما يتبنى الكتابة باللغة الفرنسية فهو ينخرط في تقليد أو مُنْجَزٍ شعري راكم خلفه قرونا من التطورات الجمالية والشكلية والنظرية، ويجد نفسه غير معني على المستوى الفردي بأسئلة الشكل والحداثة والتراث. إلا أنه من الضروري أن يتفهم شعراء الفرنسية، ومنهم اللعبي أيضا، أن الكتابة بالعربية انخراط عضوي في مسيرة الشعر العربي وأسئلته المزمنة. فخيار الشكل الفني موقف حاسم تترتب عنه بالضرورة رؤية جمالية وفكرية وسياسية حتى وليس هراء لفظيا أو ترفا نظريا. ولربما يعكس موقف اللعبي من هذه المسألة حدود قراءته الشخصية للقصيدة المغربية المكتوبة بالعربية. وحسب علمنا فحتى شعراء أنفاس المعربون لم ينشروا نظما بل شعرا حرا، وهذا في حد ذاته خيار عكس الانتماء إلى حركة التحديث الشعري العربي التي دشنها شعراء المشرق العربي.
كما أن اللعبي في معرض حديثه عن الجيل الأخير أو الشاب من الشعراء المغاربة لم يتحدث بالمطلق عن خصوصيات نصوصهم، نفسها السردي أو خلوها الكامل من أي أثر للوزن والتفعيلة وانحيازها شبه المطلق لقصيدة النثر بغض النظر عن الالتباسات التي يحملها هذا المصطلح.
على أن، هذه الملاحظات لا تقلل قطعا من أهمية الجهد ونبل المهمة التي نذر لها اللعبي نفسه ومن دور مشروعه في التعريف بالشعر المغربي المعاصر خصوصا وأن الأنطولوجيات الصادرة باللغة العربية نادرة حتى في المغرب نفسه. وإلى إشعار آخر لا يتوفر القارئ المغربي، والعربي على وجه الخصوص، سوى على أنطولوجيا يتيمة أنجزها كل من مصطفى النيسابوري وصلاح بوسريف عام 1998 وصدرت عن دار الثقافة المغربية تحت عنوان ديوان الشعر العربي المعاصر .
هنا نص الحوار الذي أنجزناه مع الشاعر عبد اللطيف اللعبي في احد مقاهي حي الباستيل في باريس بمناسبة إصداره.
* لماذا عنونتَ هذه الأنطولوجيا: الشعر المغربي منذ الاستقلال حتى اليوم . هل يتعلق الأمر بالاستقلال كتاريخ إجرائي أم أن الشعر المغربي الحديث اقترن بالاستقلال من ناحية تبلوره؟
كلا الاعتبارين صحيحان. الاستقلال منعرج أساسي في تاريخ المغرب المعاصر سياسيا وثقافيا. والخمسينات هي إجمالا الفترة التي تبلور فيها الشعر الحديث الذي يهمني في هذا العمل. ولإعطائك فكرة عن الفرق بين ما بعد الاستقلال وقبله فمن 1912 إلي 1956 لم يتجاوز عدد الدواوين المنشورة علي أقصي تقدير رقم عشرة. وكل ما نعرفه عن هذا الشعر يوجد أغلبه بشكل متناثر في بعض الأنطولوجيات والدراسات النقدية. لقد تطرقت إلي مسيرة الشعر المغربي قبل الاستقلال في التقديم وإسهامات بعض أسمائه المعروفة مثل علال الفاسي ومحمد الحلوي والمختار السوسي وعبد الكريم بن ثابت كما أشرت علي وجه الخصوص إلي شاعر غريب الأطوار اسمه محمد بن إبراهيم كتب قصائد متميزة في مدح النبيذ والعلاقات الغرامية المحرمة. لكن تجارب هؤلاء ظلت مغرقة في التقليدية ما يدفعنا إلي طرح التساؤل حول مدي تأثيرها علي شعر الأجيال اللاحقة.
* لماذا لم تضف كلمة المعاصر إلي العنوان ليتحول: الشعر المغربي المعاصر منذ الاستقلال حتى الآن . ربما كان ذلك كان سيكون أقل التباسا خصوصا وأن هناك من يري أن انبعاث الشعر المغربي الحديث بدأ مع تجارب شعراء بداية القرن الماضي؟
فعلا كنت أنوي ذلك ولاعتبارات تقنية تتعلق بطول العنوان حذفت كلمة المعاصر وعلي أي تعبير منذ الاستقلال يفسر إلي حد كبير المنحي المعاصر للشعراء المختارين. كما أنني شرحت أسباب اختياري لهذا التاريخ بشكل مفصل في التقديم. فربط بوادر الشعر المغربي الحديث بتاريخ 1956 مسألة رمزية بالأساس تعكس انتقاله من شعر تقليدي علي شعر حديث. بل أنني أعتقد أن استقلال المغرب غير المعطي الشعري بشكل جذري. لأن النخبة التي شكلت جيل الاستقلال والتي تلقت تعليمها في جامعات المشرق والغرب توفرت لها مرجعيات ثقافية مختلفة عن تلك التي حكمت عقلية الجيل السابق. ما مكنها من خلق زخم ثقافي حقيقي ابتداء من الستينات لم يكن الشعر غريبا عنه.
* في تقديمك تخلص إلي أن هناك ثلاث مفارقات أساسية في تاريخ الشعر المغربي: حداثة سنه وتنوعه اللغوي وارتباطه العضوي بمقاومة الاستبداد السياسي؟
نعم هذه هي المفارقات أو العلامات الأساسية قد تكون هناك مفارقات أخري أقل أهمية. الشعر المغربي عمره حديث ففي خمسة عقود وهو عمر وجيز انتقل هذا الشعر من التقليدية إلي الحداثة. المفارقة الثانية أن الشعر المغربي يتميز بتنوعه اللغوي نظرا لتركيبته العرقية والمجتمعية. فهناك الشعر المكتوب بالعربية وبالمغربية وبالأمازيغية.
المفارقة الثالثة هو أن هذا الشعر نشأ في ظروف سياسية قاسية وقمعية وتحول إلي قطب مقاومة في ظل نظام استبدادي حاول تلجيم المثقفين. الشعر المغربي بهذا أدي وظيفة سياسية استثنائية وتبلور في ظل هذه الشروط.
* منذ الفقرة الأولي من التقديم تؤكد علي أن هذا العمل يعكس رؤيتك الشخصية للشعر المغربي وأن معايير اختياراتك للشعراء المغاربة يعكس ذائقتك رغم أن أي أنطولوجيا كمشروع تحاول، نظريا علي الأقل، المزج بين الذاتي والموضوعي؟
في مجال الأدب من المستحيل الحديث عن موضوعية مطلقة. أعتقد أن هذا العمل قراءة شخصية للشعر المغربي منذ الاستقلال إلي الآن. هي شخصية لأنني لدي ذوق شعري معين وثقافة شعرية معينة وتجربة معينة. وقمت باختيار عدد من الشعراء يمثلون أجيالا مختلفة ومشارب فنية مختلفة. ولو انبري شخص آخر لانجاز نفس العمل فمن المؤكد أن النتيجة قد تكون مغايرة ومطبوعة بذاتية وذوق وتجربة مختلفة. فما هو العيب فيما أنجزتُ؟
* هل أنت الذي قمت بترجمة النصوص عن العربية والعامية والأمازيغية؟
كل النصوص المترجمة عن العربية والعامية من انجازي. فيما يخص الأشعار الأمازيغية استعنت بالشاعر المغربي الأمازيغي أحمد عصيد لمحدودية إلمامي باللغة الأمازيغية. دعني أعود إلي سؤالك السابق نعم قراءتي للشعر المغربي ذاتية وشخصية لكنها أيضا شاملة وتتوخي حدا أدني من الموضوعية. فالنماذج الشعرية المختارة ليست اعتباطية. كما أنني لم أطلب من الشعراء أن يختاروا بأنفسهم ما يحلو لهم من شعرهم. فقد أخذت علي عاتقي مهمة قراءة الأعمال الكاملة لكل شاعر قبل أن أختار قصائد معينة. ورغم صعوبة العثور علي مجمل أعمال بعض الشعراء فقد حاولت القيام بذلك بالقدر الذي سمحت به الظروف طبعا. وهذا عمل شاق اخذ مني جهدا كبيرا كما قد تتصور. لقد حرصت علي هذا لأنه أولا واجب معرفي وثانيا لأنني اخترت قصائد تمثل كنه التجربة الشعرية لكل شاعر. الاعتبار الثالث وهو مرتبط بعملية الترجمة. فهناك بعض النصوص المغرقة في الخصوصية والتي بترجمتها تفقد الكثير وبالتالي لا تعطي فكرة مناسبة عن تجربة الشاعر للقارئ الأجنبي. لذا حرصت أيضا علي اختيار القصائد التي يمكن أن تعبر إلي اللغة الفرنسية بيسر وبأقل الأضرار الممكنة من دون أن تفقد رونقها وخصوصيتها. وأتمنى أن أكون قد أفلحت في ذلك.
* من المؤكد أن مشروعا كهذا علي ضخامته والجهد الكبير الذي تطلبه سيتعرض لانتقادات قد يكون أولها مرتبطا بمعايير الاختيار. ما هي معاييرك في اختيار الشعراء؟ هل يتعلق بعدد الدواوين المنشورة أم بنوعية التجربة؟ هناك من نشر ديوانا واحدا وحضر وهناك من نشر العشرات ولم يحضر؟
المقياس الأول هو أن يكون الشاعر أو الشاعرة قد نشر علي الأقل ديوانا واحدا وليس قصائد متفرقة في المجلات والصحف. طبعا هناك من وردوا في الانطولوجيا رغم أنهم لم ينشروا سوي ديوان واحد لكنني اعتبرت أن تجاربهم متميزة وحضورهم قوي لذلك اخترتهم. خذ مثلا رشيدة مدني وهي شاعرة تكتب بالفرنسية لم تنشر سوي ديوانين لكن صوتها متميز وقوي جدا. نفس الأمر بالنسبة لبعض الشاعرات اللواتي لم ينشرن سوي ديوان واحد لكنني كما أسلفت أردت أن أعطيهم دفعة قوية كي يتألقوا بحضورهم في هذه الأنطولوجيا.
* إذن للاختيار حكمته وثمة اعتبارات غير شعرية أحيانا؟
لا أعتقد ذلك...
* طيب لنأخذ بعض الأمثلة الملموسة هناك محمد حمودان وهو شاعر يكتب بالفرنسية وينشر في نفس الدار التي أصدرت هذه الانطولوجيا، * لماذا استبعدت اسما كنتَ أول من شجعه بتقديمكَ لديوانه الأول قبل خمس سنوات؟
أنا لم أستبعد أحدا. لا تنس بأن خمسين شاعرا رقم كبير وإن اطلعت علي انطولوجيات أخري عن الشعر اليوناني مثلا أو الايطالي قد تجد عددا أقل. من جهة أخري لا أخفي عليك أنني لو رغبت فعلا في أن يحضر كل الشعراء الذين أستحسن نصوصهم وأثمن تجاربهم لوصلت إلي ضعف هذا الرقم. لهذا اضطررت أحيانا إلي الفرز والاختيار فمثلا اخترت ما بين علال الحجام وهو شاعر معروف وله حضور في الساحة المغربية وبين وساط مبارك وفي الأخير وقع اختياري علي الثاني بدل الأول. هناك إكراهات موضوعية فيما يخص الاختيار وحاولت أن أحسم فيها قدر ما استطعت. وبالنسبة للشاعر محمد حمودان كان قد نشر ديوانين عندما كنت بصدد وضع اللمسات النهائية علي مشروع الانطولوجيا. لهذا فضلت مثلا رشيدة المدني بدل حمودان وأنا أتحمل مسؤولية اختياري. وليس هناك حمودان فقط فقد استبعدت شعراء آخرين يكتبون بالفرنسية منهم علي الصقلي وعبدالله بونفور وشعراء آخرون.
لقد ذكرت لك مثال حمودان لأنه لا يخلو من الدلالة فهو الشاعر الوحيد إلى جانب محمد العمراوي الذي يكتب حاليا بالفرنسية في سياق يعرف انحسارا شبه كامل لتبني الشعراء للغة الفرنسية.
* أنتَ بهذا تعطي الإنطباع بأنك تختزل ربما الشعر المكتوب بالفرنسية في تجربة جيلك فقط؟
أعتقد بكل صراحة أن تجربة الكتابة بالفرنسية بذلك الزخم الذي عرفته تجربة أنفاس التي أفرزت أصوات قوية لبعضها حضور الآن علي المستوي العالمي وهي قد لا تتكرر. بل أن مستقبلها يبقي غامضا في المغرب. ولا أخفيك أنني في العشر سنوات الأخيرة لم أعثر في الفرنسية علي تجارب لافتة تؤشر علي انبعاث جديد للكتابة الشعرية باللغة الفرنسية بالمقارنة مع الدينامية الهائلة للشعر المكتوب بالعربية.
* نفس الملاحظة قد تكون صائبة أيضا فيما يخص الشعر الأمازيغي والعامي فعدا مراد القادري كل الأسماء التي أوردت في عملك تنتمي إلي جيل السبعينات؟
بالنسبة لشعر الزجل أو العامية أعتقد أن كل الأسماء الوازنة حاليا كانت من جيل أنفاس . ولا يبدو أن هناك أسماء جديدة حملت مشعل هذا الاتجاه.أما فيما يخص الشعر الأمازيغي لا ننسي أنه لأسباب سياسية لم تتوفر في الماضي للأمازيغيين فرصة ممارسة ثقافية حرة باللغات الأمازيغية. غير أن المعطيات السياسية تغيرت في السنوات الأخيرة. وهناك حاليا سياسة تتوخي إعادة الاعتبار للثقافة الأمازيغية حيث يتم تدريسها حاليا في المدارس والجامعات وهناك انبعاث في القضية الأمازيغية تؤشر إلي إمكانية تطوير الممارسة الشعرية الامازيغية. إذن هناك نوع من الرهان علي المستقبل فيما يخصها وفي اعتقادي لا يمكن أن نحكم علي تجربة الشعر الأمازيغي انطلاقا من ماضيها فقط. ويجب أن أسجل هنا أنني لم أتطرق أيضا للشعر المغربي المكتوب بلغات أخري مثل الاسبانية أو حتى الهولندية وربما الانكليزية لضيق المساحة.
* عندما يفرغ القارئ من قراءة تقديمك هذه الأنطولوجيا قد يتصور أن الشعر المكتوب بالفرنسية ما يزال حاضرا بنفس القوة التي كان عليها خلال فترة أنفاس . لكن الكل يعلم الآن أن تسعين في المئة من النتاج الشعري المغربي مكتوب باللغة العربية وهذا واقع لا سبيل لتجاهله...؟
لقد أشرت في مقدمتي إلي أنه بعد توقف تجربة أنفاس بدأت مرحلة أخري اتسمت علي الأقل كميا بهيمنة الشعر المكتوب باللغة العربية الفصحى. نعم غالبية الشعراء يكتبون بالعربية في الوقت الحاضر وهم ممثلون بشكل جيد في عملي بل أن لديهم حصة الأسد في هذه الأنطولوجيا بينما عدد الشعراء الذي يكتبون بالفرنسية لا يتجاوز أحد عشر اسما فقط. عندما بدأت فكرة المشروع تختمر في ذهني ابتداء من عام 200 رسمت لنفسي خطا معينا وحرصت، في الواقع، علي مجموعة من التوازنات في هذه الأنطولوجيا. أولها التوازن اللغوي فكل لغة ممثلة بثقلها الموضوعي. أما التوازن الثاني فهو مرتبط بالأجيال فقد حرصت علي أن تكون كل الأجيال ممثلة: جيل الاستقلال وجيل السبعينات والثمانينات وجيل التسعينات. هناك توازن أيضا علي مستوي الجنس. وقد استعملت حقي في التمييز الإيجابي وأفسحت حيزا واسعا للشاعرات المغربيات.
* نعم لقد لاحظنا أن كل الشاعرات المغربيات حضرن تقريبا في كتابكَ؟...
نعم لقد قصدت ذلك. لكن دعني أقول لك أن الهدف الأساسي من هذه الانطولوجيا يبقي هو كسر العزلة التي يعيشها الشعر المغربي عالميا وفك الحصار عنه وإعطاء نظرة وافية علي تنوعه اللغوي وثرائه المرجعي وأصواته الذكورية والنسائية.... فالشعراء المغاربة المترجمون إلي اللغات الأجنبية لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد الواحدة وبالتالي فهم لا يمثلون كل الثراء الذي تتميز به التجربة المغربية. فتوفير انطولوجيا شاملة عن الشعر المغربي يعني حضورها في الساحة الشعرية العالمية ولفت الانتباه إليها قد يعطيها دورا في المساهمة في مسيرة الحداثة الشعرية العالمية وليس العربية فقط.
وإذا كان هذا العمل موجه بالأساس إلي القارئ الفرنسي أستطيع أن أكشف لك الآن بأن بعض الشعراء الأمريكيين اطلعوا علي هذه الانطولوجيا وراودتهم فكرة نشر أنطولوجيا باللغة الانكليزية تعتمد علي هذه الانطولوجيا الفرنسية وهي مشروع في طور الإنجاز حاليا. نفس الأمر قد يتم في لغات أخري الإسبانية مثلا أو الإيطالية. إنني حريص علي حضور الشعر المغربي كمكون من مكونات التجربة الشعرية العالمية.
لماذا غاب شاعر مثل المرحوم محمد الطوبي وهو الذي كان غزير الإنتاج وحاضرا بقوة في سنوات الثمانينات بالمغرب وماذا عن شعراء معروفين من جيل التسعينات غابوا أيضا مثل جلال الحكماوي وعبد العزيز أزغاي وغيرهم.
بالنسبة للطوبي لا أخفيك أنني فضلت عليه لضيق المساحة الشاعر إدريس عيسي الذي أعتبره من أجود الأصوات الشعرية المغربية رغم قلة نصوصه. بالنسبة للأسماء الأخرى أعود وأذكرك بأنني حر في اختياراتي وبأن الأسماء التي وردت في الأنطولوجيا تعبر عن اتجاهات شعرية وليست فقط عن تجارب شخصية. هناك عدة أنطولوجيات صدرت بالفرنسية ولم تضم أكثر من ثلاثين اسما.
إن الكتاب الذي نتحدث عنه انطولوجيا تضم منتخبات شعرية وليست موسوعة تقوم بعملية مسح شاملة لكل ما صدر في الساحة الشعرية المغربية. أنا واع بأن ثمة قناصة ينتظرونني عند المنعطف لكنني أتحمل مسؤولية اختياراتي كاملة. أنا لم أقم بهذا المشروع لتصفية حسابات أو لتكريس ولاءات معينة أو حتى لتكريم بعض الأصدقاء أنا بذلت كل هذا المجهود لأسدي خدمة للشعر المغربي وللثقافة المغربية. على أن هذه الأنطولوجيا مشروع مفتوح وستكون هناك في المستقبل طبعات أخري مزيدة ومنقحة قد أتدارك فيها بعض النواقص والهفوات وأضيف أسماء أخري إن بدا لي ذلك ضروريا.
* في تقديمك لمسيرة الشعر المغربي الحديث تصور تجربة أنفاس كتجربة محورية ومركزية وكأن الشعر المغربي الحديث المكتوب بالعربية وبالفرنسية والبربرية كله ولد من رحم مجلة أنفاس. طبعا هذه قناعتكَ لكن هناك من قد يخالفك الرأي ويعتبر أنك تقدم نظرة غير صحيحة لقارئ غربي غير ملم بالمشهد الشعري المغربي؟
أنا أترك لك وللآخرين الحكم علي هذه القناعة الشخصية. في اعتقادي تجربة أنفاس كانت محورية في الفترة التي تم فيها التحول من الشعر التقليدي إلي الشعر الحديث.
ولا تنس أن أنفاس لم تعبئ فقط كتاب الفرنسية بل العربية أيضا. فانطلاقا من العدد العاشر تحولت المجلة من مجلة باللغة الفرنسية إلي مجلة مزدوجة اللسان أي باللغتين الفرنسية والعربية. وقد حرصنا علي أن تكون صفحاتها نقطة لقاء وحوار بين المثقفين المعربين والمفرنسين رغم وجود عدة اختلافات في الرؤى والمرجعيات بين الجانبين.
نعم أستطيع أن أجزم بأن أنفاس رسخت فكرة الحوار بين المثقفين المغاربة بغض النظر علي مرجعياتهم اللغوية والثقافية مع وجود رؤية سياسية وايديولوجية مشتركة تتمثل في رفض واقع الظلم والقمع. أنا أترك للنقاد ومؤرخي الأدب الحكم علي هذه التجربة.
* من المؤكد أن لتجربة أنفاس دورا مهما في مسيرة الثقافة المغربية والشعر المغربي لكنك لم تؤكد بنفس الإلحاح علي تجارب أخري كانت لها نفس الأهمية مثل مجلة الثقافة الجديدة؟
لا أنا ذكرت الثقافة الجديدة...
نعم ذكرتها لكن بشكل عابر جدا في سياق حديثك عن مجلات أخري مثل أقلام وآفاق وغيرها. أنا اقصد دور الثقافة الجديدة كبؤرة إبداعية ومعرفية تبنت هموم أنفاس وطورتها وذهبت بعيدا في طرح أسئلة الشعر المغربي ولعبت دور القاطرة في تحديثه وترسيخه؟
ما عليك إلا أن توجه السؤال لمؤسسي الثقافة الجديدة. لقد كانت بيننا نقاشات وحوارات حول هذا الموضوع عندما تعرضت أنفاس للمنع من طرف السلطات المغربية أثناء سنوات القمع السوداء. والقائمون على الثقافة الجديدة استمروا في نفس النهج. تجربة الثقافة الجديدة ورثت عن أنفاس مكسب الحوار بين المعربين و المفرنسين وعملت علي بناء أدب وشعر جديدين في المغرب. نعم كانت هناك استمرارية ووشائج بين التجربتين. والعديد من كتاب أنفاس واصلوا نشر نصوصهم لاحقا في الثقافة الجديدة.
* أعود معك إلي التقديم لماذا لم تشر ولو بكلمة إلي بعض النقاشات التي أرقت الشعراء المغاربة حول الاختيارات الشكلية مثل الشعر الحر أو قصيدة التفعيلة أو قصيدة النثر التي أسالت مدادا كثيرا في العقد الأخير؟
سأكون صريحا معك هذه النقاشات حول الشكل الشعري هي كلام فارغ ومضيعة للوقت. الأساسي بالنسبة لي هو الشعر والباقي لا يهمني. أنا عندما أقرأ المتنبي لا يهمني إن كان شعره موزونا بقدر ما تهمني حمولته الشعرية.
* لكن هل تتفهم أهمية اختيار الشكل ليس فقط في الساحة المغربية بل العربية إجمالا؟
قد يكون الشكل مهما لكن الجدل حوله لا يهمني بشكل خاص.
بما أن هناك مشاريع ستترجم الشعر المغربي إلي لغات أخري بناء علي هذه الأنطولوجيا أليس من الموضوعي أيضا أن يدرك هذا القارئ الغربي النقاشات النظرية التي واكبت هذا الشعر أيضا؟
هذه تفاصيل قد تشوش علي قراءة القارئ الغربي وتضيعه في متاهات هو في غني عنها. أنا سعيد بمستوي النصوص المختارة وليس لدي المغاربة ما يخجلون منه فمستوي الشعر المغربي يضاهي مستوي الشعر في بعض البلدان الأوروبية.
* نلاحظ مبالغتك في كيل المديح لبعض الشعراء في المداخل التي تقدمهم بها؟
ربما يعود ذلك إلي إعجابي ببعض الشعراء أكثر من غيرهم لذا سمحت لنفسي ببعض الحماس الفائق .
أقصد بأنك تعطي الانطباع، وهذا من حقك طبعا لأنها اختياراتك، بأن كل الشعراء الذين اخترتهم عباقرة وأن الشعر المغربي بحيرة هادئة لا يعكر صفوها شيء؟
أنا متفائل فيما يخص الشعر المغربي ومهمتي كمُنجزٍ لهذا العمل أن أشجع القارئ الفرنسي علي تذوق هذا الشعر ونقل عدوي حبي له إليه.
لائحة الشعراء التي ضمتهم الأنطولوجيا
حسب التسلسل الذي وردت فيه
محمود عبد الغني
محمد الأشعري
ياسين عدنان
مهدي أخريف
أحمد عصيد
مليكة عاصمي
علي صديق ازايكو
احمد بلبداوي
احمد بركات
عائشة البصري
عبد المجيد بن جلون
طاهر بن جلون
وداد بن موسي
محمد بنيس
محمد بنطلحة
عبدالرحمن بوعلي
احمد بوعناني
جمال بودومة
صلاح بوسريف
محمد الخمار الكنوني
عبدالدين حمروش
ادريس عيسي
مراد القادري
محمد خير الدين
عبدالكبير الخطيبي
عبداللطيف اللعبي
محمد عزيز الحبابي
وفاء العمراني
احمد لمسيح
محمد الواكيرة
رشيدة مدني
محمد الميموني
ثريا ماجدولين
الزهرة المنصوري
احمد المجاطي
ادريس الملياني
ادريس المسناوي
محمد مستاوي
زغلول مرسي
رشيد ميموني
حسن نجمي
مصطفي نيسابوري
مبارك وساط
حسن الوزاني
محمد علي الرباوي
عبدالله راجع
محمد الصباغ
محمد السرغيني
عبدالكريم لطبال
كمال الزبدي
عبدالله زريقة
القدس العربي- 2005/01/29
******
من جهتي، وجدت علي الدوام انجذاباً كبيراً
نحو مناقشة الشعر مع الشعراء والهواة
فريدرك شليجل
(عبداللطيف اللعبي ومحمد بنيس) |
أصدر عبد اللطيف اللعبي مؤخراً أنطولوجيا بالفرنسية للشعر المغربي الحديث، تحمل عنوان الشعر المغربي من الاستقلال حتى أيامنا عن دار لاديفرانس ، في باريس. أنطولوجيا تأتي في سياق الحياة الجديدة التي تعرفها القصيدة المغربية، بعد ما يقرب من قرن علي الخطوات الأولي للتحديث الشعري في المغرب. من تجليات هذه الحياة، صدور أنطولوجيات تعيد الاعتبار لمغامرة شعرية لها تاريخ صعب مثلما لها أصوات أغلبها مجهول. أذكر هنا الأنطولوجيات التي أصدرها بيت الشعر في المغرب لكل من الشعر المعاصر ثم للشعرين التقليدي والرومانسي، كما أشير إلي وجود أنطولوجيات محدودة أو موسعة علي الصعيد الدولي، تستجيب للاهتمام المتزايد بالشعر المغربي الحديث. من بينها تلك الصادرة بالمقدونية عن المهرجان العالمي للشعر في مقدونيا، و بالفرنسية والإنكليزية والإيطالية والإسبانية في مجلات عديدة. علي أن هناك منتخبات علي مواقع الانترنيت، من بينها التي نشرها بيت الشعر في المغرب علي موقعه أو قام بإنجازها ويشرف عليها الشاعر نورالدين الزويتني ضمن الموقع العالمي للشعر في روتردام باللغات العربية والفرنسية والإنكليزية، ويفوق زائروها شهرياً عشرة آلاف قارئ. لكن أنطولوجيا عبد اللطيف اللعبي من عمل شاعر يعتبر دفاعه عن هذا الشعر من التزاماته الثقافية. وهذه الأنطولوجيا هي الثانية بالفرنسية، من حيث الأهمية. فهي تأتي بعد ما يقرب من ثلاثين سنة علي الأنطولوجيا التي كان الطاهر بن جلون أصدرها في السبعينيات، عن دار ماسبيرو في باريس، بعنوان ذاكرة مستقبلية .
هي إذن حالة موسعة من الانفتاح علي الشعر المغربي الحديث ولذلك تبريره. كنت، طيلة الستينيات ثم السبعينيات والثمانينيات، أستغرب غياب أنطولوجيات بالعربية للشعر المغربي الحديث. أول أنطولوجيا بالعربية لهذا الشعر هي التي كان أصدرها محمد بلعباس القباج سنة 1929 بعنوان الأدب العربي في المغرب الأقصى، وكان لها فضل تناول الشعر المغربي بمختلف اتجاهاته. عمل متفرد يحتاج لتكريم. وهو يتجاوب مع ما خص به، في الفترة ذاتها، كل من زين العابدين السنوسي الشعر التونسي في القرن الرابع عشر الهجري ومحمد الهادي الزاهري الشعر الجزائري. هذه المنتخبات الثلاثة كانت منطلقة من الرغبة في الإعلان عن الصوت الجماعي، في كل قطر مغاربي علي حدة، للتحديث الشعري بالعربية. وكان من أول ما اتفقنا عليه في بيت الشعر في المغرب ، أثناء الإعداد للمهرجان العالمي للشعر بالدار البيضاء سنة 1998، إصدار أنطولوجيا للشعر المغربي المعاصر. وكلفنا كلا من مصطفي النيسابوري وصلاح بوسريف بإنجاز هذه الأنطولوجيا، التي كان إصدارها متزامناً مع موعد الدورة الأولي للمهرجان. وألحقناها بثانية خاصة بالشعر التقليدي وثالثة بالشعر الرومانسي قام بإنجازهما عبد الجليل ناظم وصدرتا معا بالتعاون مع وزارة الثقافة أثناء مهرجان الشعر العربي المقام بمناسبة الرباط عاصمة الثقافة العربية سنة 2003. هذه معلومات أولية، لها طابع الإخبار المجرد. وهي مع ذلك تختزن أسراراً لا أستطيع الإحاطة بها في كليتها. فمغامرة التحديث في الشعر المغربي، منذ الثلاثينيات من القرن الماضي حتى الآن، ليست أمامنا واضحة، ومن ثم فإن وضع خريطة يقينية لها سابق لأوانه.
***
من هنا أنظر إلي أهمية العمل الذي قام به عبد اللطيف اللعبي وكلفه سنوات، كما كلفه مجهودات، لجمع المتن واختيار القصائد والترجمة والنشر. كل من له خبرة يدرك قيمة هذا الجهد، كما يدرك أن روح الكرم التي تميز بها السابقون في وضع أنطولوجيات للشعر المغربي، قديمه وحديثه، هي نفسها التي يتميز بها عبد اللطيف اللعبي وهي التي هيأته لإنجاز كهذا.
عمل عبد اللطيف اللعبي سيساهم في تقديم صورة عن الشعر المغربي المعاصر. صورة هي منتوج اختيار لا يمكن لأدب أن يتضح في اتجاهاته ومغامراته بدونها. لذلك فإن أنطولوجيات من هذا الصنف عادة ما تفتح حواراً واسعاً، عندما تكون الظروف مهيأة للحوار، من أجل رؤية تاريخ وأفعال شعرية عن قرب. فهذه الأنطولوجيا مفيدة للمغاربة بقدر ما هي مفيدة لكل من يمكن أن يكونوا أصدقاء الشعر المغربي المعاصر. إن الترجمة إلي الفرنسية تفتح أفقاً للتعرف علي تجارب ذات غني يدركه كل العارفين بالشأن الشعري. وهي، إلي جانب الأنطولوجيات والدواوين الفردية والملفات التي تم نشرها من قبل في لغات أجنبية، ستضيف من دون شك إلي الشعر المغربي المعاصر أرضاً يواصل بها حواره مع قراء الشعر في لغات وثقافات.
وقام عبد اللطيف اللعبي، بالإضافة إلي اختيار الأسماء وترجمة القصائد وتقديم الشعراء، بكتابة مقدمة لتاريخ الشعر المغربي الحديث. لكل من المنتخبات والمقدمة وظائف، من بينها حسن استقبال القصائد والشعراء. فنشر قصائد للشعر المغربي الحديث بدون مقدمة لربما يضع القارئ في متاهة لا يدري من أين يبدأ دخولها ولا كيف يتابعها. ولذلك فإن المغاربة سيكونون أول المستفيدين من الكتاب، رغم أن قارئه المفترض هو الفرنسي بالدرجة الأولي، أو الفرانكوفوني عامة. لا أضخم الوضع. ففرنسا لم تعد تعني بالشعر. والقارئ الفرنسي لم يعد (ولربما لم يكن) يأبه بالشعر والشعراء. ولكن الذي سيقبل علي قراءة الديوان سيجد نفسه مضطراً لمعرفة كيف يقرأ هذا الشعر ومن أين يبدأ القراءة.
ثم اطلعت في عدد السبت/ الأحد 29 ـ 30 كانون الثاني (يناير) 2005 من جريدة القدس العربي علي حوار جدي وممتع أجراه الشاعر عبد الإله الصالحي مع عبد اللطيف اللعبي، يتناول هذه الأنطولوجيا. وإني لأري في هذا الحوار إضافة غنية للأنطولوجيا ومقدمتها، بما أثاره عبد الإله الصالحي من ملاحظات ناتجة عن طريقته في قراءة المنتخبات والمقدمة، وعن معرفته بالوضع الشعري في المغرب منذ السبعينيات حتى الآن، علي الأقل. وهو ما يصعب التوفر عليه في حوار بين شاعر مغربي ومحاور في استجواب صحافي. فالحوار، من هنا، يرقي إلي حوار بين جيلين شعريين مغربيين وبين رؤيتين للشعر ولتاريخ الشعر المغربي المعاصر. انتبهت لدقة ملاحظات عبد الإله الصالحي مثلما تتبعت الطريقة الواضحة والمكثفة التي استثمرها عبد اللطيف اللعبي في الجواب. كل من الديوان والحوار يخاطب قراء مفترضين. وأنا، بهذا المعني، أعتبر نفسي من هؤلاء القراء المفترضين.
***
لكن قراءتي ذات وضعية مختلفة تماماً. فأنا أحد الشعراء الذين اختارهم عبد اللطيف اللعبي، بل أحد الذين ساهموا في هذا الشعر وفي دراسته وفي جوانب من وجوده في وضعيته الراهنة. عندما كنت أقرأ الأنطولوجيا والمقدمة ثم الحوار، كنت في الوقت ذاته أتأمل ما أقرأ. ولحظة بعد لحظة كنت أفطن إلي انسياقي وراء حوار مع عبد اللطيف اللعبي. حوار نادراً ما مكنني أحد من الدخول فيه. وأنا هنا أشكر عبد اللطيف اللعبي علي هذه الفرصة التي يتيحها لي كي أعود من جديد إلي تاريخ شعري مغربي حديث. فحياتنا الثقافية في المغرب تكاد لا تسمح لنا بالمناقشة، بسبب ندرة الفضاءات الحرة للحوار.
أثناء قراءتي للأنطولوجيا توقفت، في البدء، عند المقدمة، ومنها انتقلت إلي قراءة تقديم الشعراء وقراءة قصائدهم. وجاء الحوار مع عبد الإله الصالحي لينبهني علي جوانب أخري. حواري مع المقدمة والحوار، وقائع، أسماء، أعمال. فضاءات تاريخية وثقافية. كأنني أستعيد حياة عريضة لمغرب قديم وحديث، في كل ذلك معرفة ودعوة لحوار معرفي.
والدعوة إلي حوار معرفي استخلصتها من جزئيات تدق في المقدمة وأحياناً تختفي. ما يدق ويختفي في المقدمة هو المواقف النظرية التي تشرط قراءة عبد اللطيف اللعبي لتاريخ الشعر المغربي المعاصر. هذه المواقف النظرية تتركنا وجهاً لوجه مع جواب المقدمة علي سؤال: كيف نؤرخ للشعر المغربي الحديث؟ إنه سؤال نظري بحت. ويصعب علي مؤرخ للشعر المغربي الحديث ألاّ يفكر فيه، حتى ولو لم يكن يعنيه مباشرة. ذلك شرط كل خطاب حديث يؤرخ للأدب. ومن ثم لا يمكن الجواب عليه بثقافة حديثة إلا إذا نحن خصصنا الشعر المغربي بمثل الجواب الذي نخص به أي شعر حديث في العالم. بمعني أننا لا نستطيع أن نكون حديثين فيما نحن لا نعبأ بموقفنا النظري عندما نقبل علي كتابة تاريخ الشعر المغربي الحديث. موقف نظري هو ما يدفعني للحوار.
***
يستند عبد اللطيف اللعبي في كتابة المقدمة إلي ثلاثة مواقف نظرية في تاريخ الأدب، ويطبقها علي الشعر المغربي الحديث، بدون أي انتباه لتناقضاتها، مكتفياً في التأريخ بثقته في كفاءة متابعته للشعر المغربي الحديث أو من خلال تعرفه علي وقائع لهذا الشعر. هناك الموقف الاجتماعي التاريخي، الذي يقرأ في ضوئه الشعر المغربي لما قبل مرحلة أنفاس. ثم هناك الموقف الوصفي للعمل الشعري، الذي يضيء من خلاله تجربة شعراء مجلة أنفاس . ثم الموقف السياسي الذي يعتمده للتعرف علي التعدد اللغوي أو وضعية المرأة الشاعرة. إن هذا الخلط بين المواقف النظرية عرض خطابه لمآزق التأريخ. وهذه المآزق من بين ما تستحوذ علي خطابنا النظري العام، بخصوص التعامل مع الشعر المغربي. مآزق لم نتأملها بعد، لأن الاشتغال النظري علي الشعر المغربي الحديث لا يزال في بداياته. وإذا كان عبد اللطيف اللعبي يري، عن صواب، أنه بذل المجهود لإسداء خدمة للشعر المغربي وللثقافة المغربية فإني أرجو أن يكون الحوار المعرفي، بخصوص القضايا النظرية التي تطرحها هذه المقدمة، يمثل بدوره خدمة للشعر المغربي وللثقافة المغربية.
المأزق الأول هو المعرفة. مأزق أدي إليه تعويض الشعري الثقافي بالاجتماعي التاريخي والمطابقة بين النسقين تعويضاً ومطابقة يبرزان في نقاط متعددة من المقدمة. من ذلك أن عبد اللطيف اللعبي يخلط بين أسماء ومراحل. فهو، مثلا، يضع علال الفاسي ومحمد الحلوي ومحمد المختار السوسي وعبد الكريم بن ثابت وعبد الله كنون في خانة واحدة، هي خانة الشعر التقليدي. إن محمد الحلوي جاء بعد أكثر من عشرين سنة علي علال الفاسي ومحمد المختار السوسي وعبد الله كنون. وعبد الكريم بن ثابت من الرومانسيين السابقين علي محمد الحلوي ذاته، الذي هو تقليدي جاء بعد الأوان. فكيف الجمع بين هؤلاء جميعاً في لحظة واحدة وفي وعي شعري واحد؟ من خلال هذا الخلط لا يتبين عبد اللطيف اللعبي نوعية العمل الذي قام به كل من التقليديين والرومانسيين المغاربة. وهو ما يحدث مع شعراء الستينيات محمد الخمار الكنوني وأحمد المجاطي ومحمد الميموني وعبد الكريم الطبال، الذين يضيف إليهم عبد الله راجع، وهو من جيل السبعينيات.
أكتفي بالمجموعة الأولي. يبرر عبد اللطيف اللعبي الجمع بين الشعراء الأولين ضمن خانة التقليدية كونهم كانوا مناضلين بشعرهم. فالشعر ظل تقليديا لأنه جاء علي صورة المجتمع ونخبه. ولكن إذا كان مردوده لا يتحدد في المستوي الجمالي فهو لم يذخر جهداً في خلخلة العقول وفي جعلها تستيقظ من السبات الذي كلف المغرب فقدان حريته . بهذا تكون القراءة الاجتماعية التاريخية هي المعتمدة في مقاربة الشعري الثقافي. لم يكن لهذا الشعر، حسب اللعبي، فعل من داخل القصيدة نفسها، من حيث اللغة والأشكال والقيم والحساسيات. إنه شعر نضالي، وطني، من غير أن نعرف السر في واقعة لا شعرية ( هي النضال) تصل بين التقليديين والرومانسيين.
هذه القراءة هي التي تنسحب علي قراءة عبد اللطيف اللعبي لتاريخ الثقافة المغربية بعد سقوط غرناطة. أتفق علي أن المغرب، بعد 1492، دخل مرحلة الانغلاق علي الذات. لكن ما فسر به التأثير السلبي لبقاء المغرب خارج الاحتلال العثماني لا يستند إلي معرفة بالوقائع الثقافية. فهو يري أن عدم خضوع المغرب للاحتلال التركي أبعد المغرب عن المشرق والثقافة المشرقية. قراءة تاريخية اجتماعية محدودة. ذلك أن الجزائر وتونس، اللتين كانتا تحت الاحتلال العثماني، عاشتا، منذ عصر النهضة العربية، نفس المشاكل التي عاني منها المغرب من الرؤية المشرقية الدونية له ولثقافته في العصر الحديث. لكن المغرب، رغم انغلاقه، لم يكن، بين القرن السادس عشر والثامن عشر، مجهولا في المشرق في هذه الفترة. بل كان المشرق يعامله كمنبع ثقافي، من خلال احتفائه بالموشحات والأزجال، ومن خلال اتباعه للتصوف والمتصوفة المغاربة، ثم الموسيقي والحركات الدينية المتدفقة من المغرب. ولا ننسي، هنا، أن الحياة والأفكار التركية كانت لها تأثيراتها في المجتمع المغربي وفي نخبه، إما عن طريق تلمسان (الأخت الصغرى لفاس) أو عن طريق تركيا مباشرة. وهو الشأن نفسه لحركة الأفكار في بعض البلاد العربية، مثل السعودية علي إثر ظهور الحركة الوهابية. عبد اللطيف اللعبي لا يلتفت إلي هذا التاريخ المسكوت عنه ولا يدرك أن الصدور عن الاجتماعي التاريخي، في الشروط الثقافية العربية، كثيراً ما يبعدنا عن الثقافي. لكن ما ينقص هذه القراءة هو أن المغرب، مثله مثل بقية العالم العربي، كان منفصلا عن أوروبا، عن حركة الأدب والأفكار والفنون والاختراعات العلمية والتحولات السياسية والاجتماعية فيها.
هذان النموذجان يبينان كيف أن اللعبي يستعمل الموقف الاجتماعي التاريخي عندما يكون بعيداً عن معرفة الوقائع الثقافية والشعرية. ويمكن التدليل علي وجود مواقف وأحكام، من هذا النمط لديه، تقدم لنا تاريخ الشعر المغربي الحديث جاهزاً، بدون أي سؤال أوشك أو حيرة. يقينية يصعب قبولها. من ذلك تحديده الفترة الزمنية للأنطولوجيا باستقلال المغرب سنة 1956.
لقد فطن، أثناء حواره مع عبد الإله الصالحي، لمأزق هذا التحقيب، فاعتبره مسألة رمزية بالأساس علي حد تعبيره. إن المعيار السياسي في التحقيب لم يعد مقبولاً في تاريخ الأدب. موضوع قديم وتم حسمه في دراسات أصبحت من البديهيات في التاريخ الأدبي. فلا وجود لمطابقة بين الشعري الثقافي وبين السياسي. يري عبد اللطيف اللعبي، في المقدمة، أن استقلال المغرب سوف يغير توزيع أوراق اللعب تغييراً كلياً ولهذا فإن النخبة الجديدة أخذت علي عاتقها مواجهة شروط المثقفين والثقافة لمثل هذا الإقلاع . والنخبة الجديدة هي، في كلامه، تلك التي عادت بتكوين أكاديمي من المشرق والغرب (فرنسا).
أريد أن أوضح أن هناك مغاربة توجهوا إلي الشرق وفرنسا وإسبانيا وعادوا قبل الاستقلال. فالنخبة، التي عادت بعد الاستقلال (ومنها التي تكونت في الولايات المتحدة)، ليست منفصلة كلية عن السابقة عليها. ومن ثم لم يأت الاستقلال مباشرة، في هذا الشأن، بما يغير البنيات، فيما هو قبل الاستقلال لم يكن يفتقد بنيات تحديثية. أول ما شرع في تغيير البنيات الثقافية، برأيي، هو تأسيس اتحاد كتاب المغرب العربي سنة 1961. تأسيسه فكرة كان هناك مثقفون من الرباط وتطوان، من بينهم سعيد حجي ومحمد الصباغ، يدعون إليها، أثناء المرحلة الاستعمارية، بصيغة محصورة في المغاربة. فهو ليس جديدا كفكرة، ثم إنه، في الوقت نفسه، تحقق علي يد محمد عزيز الحبابي (عميد كلية الآداب بالرباط)، الذي لم يكن ينتمي للأحزاب السياسية المعارضة، المهيمنة آنذاك، وهي حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. فمع إنشاء اتحاد كتاب المغرب العربي ظهرت، بمبادرة من الحبابي، مجلة آفاق سنة 1963، وبمبادرة منه أيضا تم تعاون في نشر الكتاب بالعربية مع دار الكتاب. نحن هنا أمام مؤسسة ثقافية جديدة لا عهد للمغرب بها من قبل. ولذلك قامت صراعات كبري للاستحواذ عليها، في مرحلة تالية، من طرف الأحزاب السياسية المعارضة. وإلي هذا العنصر، أضيف صدور مجلة أقلام سنة 1964، التي كان لها دور جمع الكتاب والمثقفين التقدميين، الكاتبين بالعربية والمنتمين إجمالا لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والمتعاطفين معه. وفي مجلة أقلام ذاتها صدرت القصائد المعاصرة الأولي سنة 1964. فهذه، برأيي، هي العلامات الفارقة بين زمنين شعريين، ما قبل الشعر المعاصر وما بعده، لا بين زمنين سياسيين، مرحلة الاستعمار ومرحلة الاستقلال. فالتركيز علي علامة شعرية ثقافية يفيدنا في معرفة تحقيب شعري وفي مسار (ومصير) ثقافي. وموقف عبد اللطيف اللعبي في هذا لا يختلف عن موقف عبد الله كنون، التقليدي، الذي كان يري أن مجيء الاستقلال سيغير الشعر المغربي، دون أن يري ما كان يحدث في القصيدة المغربية في مرحلة ما قبل الاستقلال. التقاء قراءتين، لقارئين مختلفين ظاهريا، مصدره اعتماد كل منهما الاجتماعي التاريخي بدلا من مقاربة الشعري الثقافي.
المأزق الثاني هو الانتقائية. يري عبد اللطيف اللعبي أن الحركة الثقافية لمرحلة ما بعد الاستقلال غير معروفة بما يكفي. ولكنه، لكي يعرفنا بها، يقوم بانتقاء الكتاب باللغة الفرنسية، كما يخصص صفحتين لمجلة أنفاس، التي كان مديراً لها. وهنا يخص الثقافة بعزيمة بروميثيوسية من جهة، والإنتاج الأدبي والفني بالمعني الكامل للطليعية من جهة ثانية. هكذا تكون مجلة أنفاس وجدت نفسها في قلب هذا التسريع للتاريخ الذي يحرر مجري المغامرة المبدعة. بل إن شعراء وفناني ومثقفي أنفاس سيرجون هذه الصخرة إلي الحد الذي سيجعلونها تتشظي لإعادة تكوينها علي هواهم، وهم يعرفون أنهم يقومون في هذا بعمل التكوين .
نعم، هناك حيوية جديدة، ذات قوة معرفية وإبداعية مع كتاب بالفرنسية ومع مجلة أنفاس. مع ذلك فإن الانتقائية غير مقبولة من الناحية النظرية، لأن عمل التكوين لم يتم علي هذا النحو. والوقائع (الشعرية والثقافية) وحدها تدل علي ذلك. من ناحية، كان عدد من الكتاب والفنانين، الذين يذكرهم في هذا السياق، مثل ألبير وجيرمان عياش وعبد الكبير الخطيبي ومحمد شبعة وعبد اللطيف اللعبي نفسه ينتمون للحزب الشيوعي المغربي، الذي كان جل مثقفيه يكتبون بالفرنسية. وفئة من هؤلاء (ولا أقصدها وحدها) هي المؤسسة لمجلة أنفاس. هذا المعطي هو ربما الذي يفسر لنا معني الأسباب السياسية بالدرجة الأولي الكامنة، في عبارة اللعبي، وراء عدم معرفتنا بهذه المرحلة. إنها الصراعات بين حزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية وبين الحزب الشيوعي في فترة ما بعد الاستقلال. صراعات إيديولوجية وثقافية ولغوية، كانت تمثل وجهة نظر وطنية ترفض الحزب الشيوعي المغربي وتعتبره ممثلا للحزب الشيوعي الفرنسي، مثلما سبق لها أن استقبلت بالرفض كتابات بالفرنسية لكل من إدريس الشرايبي وأحمد الصفريوي. فهل هناك علاقة بين الكتابة بالفرنسية وبين الاختيارات الإيديولوجية والثقافية للشيوعيين المغاربة؟ أطرح هذا السؤال وأنا أعلم أن جميع هذه الأحزاب كان لها مثقفوها الكاتبون بالفرنسية كما أن هناك مثقفين شيوعيين آخرين كانوا كاتبين بالعربية. أطرح السؤال لأن مثقفين عديدين في العالم العربي كانوا شيوعيين. والحركة الشيوعية كانت حركة مثقفين. ومع ذلك لا نجد مثل هذا الذي نجده من تلاحم بين الانتماء للشيوعية والكتابة بالفرنسية، كما هو الحال في المغرب (والجزائر وتونس).
من ناحية ثانية، كانت هناك حركة فريدة في تطوان، أثناء المرحلة الاستعمارية، قامت بها مجموعة من الكتاب والمثقفين المغاربة والعرب والأسبان، تجسدت في أعمال ثقافية، منها مجلة المعتمد التي كانت أصدرتها الشاعرة الإسبانية ترينا مركادير بين 1947 و1956 في العرائش ثم في تطوان. حركة تتناغم مع النخبة الثقافية الإسبانية، التي لم تكن تجافي (أو تحارب) العربية ولا الثقافة العربية، كما كان سلوك الفرنسيين. إن هذه الحركة استطاعت أن تدل المغاربة علي الطريق التي عليهم إتباعها. وهي طريق التعرف المباشر علي الثقافة الغربية وتثوير العربية من داخلها. فاللعبي، عندما يكتب تاريخاً للشعر المغربي الحديث دون أن يهتم بهذه الحركة، يضع خطابه التاريخي في مأزق نظري، قبل كل شيء. من هنا، يتعذر علينا قبول أحكامه لأنها تدفع إلي الاعتقاد (والقبول) بأن الثقافة المغربية بالفرنسية هي التي كانت (ومن المفترض أن تكون) السبيل إلي التحديث الثقافي في المغرب.
إن الاعتراض علي هذه القراءة لا يعني المطالبة بتقاسم ما. لا، أبداً. ما حدث بعد الاستقلال هو أنه تمت بعنف إزاحة تاريخ ونموذج تطوان الثقافي من المشروع التحديثي الثقافي للمغرب. إن عبد اللطيف اللعبي لا يبالي بهذه الحركة الثقافية النوعية، التي عاشتها تطوان في المرحلة الاستعمارية. وهو لو عرفها وتأملها لاكتشف مأزق الانتقائية في تأريخه للشعر المغربي الحديث. علي أن انتقاء الكتاب المغاربة بالفرنسية، ومجلة أنفاس بمفردها كتجربة حملت للمغاربة حقيقة التحديث، يتناقض، من جهة أخري، مع المقدمات التي ساقها عبد اللطيف اللعبي في قراءته لانغلاق المغرب، الذي كان مصدره البعد عن المشرق وعن الثقافة العربية.
تأكيداً أن بعض الكتاب المغاربة بالفرنسية هم الذين استفدت منهم أكثر من الكتاب المغاربة بالعربية. ولكن استفادتي الشخصية لا تؤدي إلي قول إن اختيار الفرانكوفونية هو ما يمثل تحديث الثقافة المغربية. لهذا فإن تخصيص عبد اللطيف اللعبي صفحتين لمجلة أنفاس، مقابل جمع مجلات أخري في جملة واحدة، ليس من التأريخ إلا إذا كان الانتقاء لا يتعرض للأسئلة بما هي حوادث. إن ما فعله مع تطوان هو ما فعله مع مجلة أقلام ومجلة الثقافة الجديدة.
القدس العربي- 2005/02/09
***
صدرت مجلة أقلام سنة 1964، كما ذكرت. مجلة أسبق في الوجود من مجلة أنفاس الصادرة سنة 1966. وهي حاملة لتيار ثقافي واسع، كان له حضوره القوي وما زال في الثقافة المغربية. إنه تيار التقدميين المغاربة، الكاتبين بالعربية، محمد إبراهيم بوعلو ومحمد برادة وأحمد المجاطي وأحمد السطاتي ومحمد عابد الجابري. ومن بينهم عبد الله العروي الذي نشر في المجلة كتابات وترجمات أيضاً. ولا يمكن لأي مؤرخ، كيفما كان، للشعر المغربي المعاصر، أن يقفز علي أقلام. هذه المجلة توحدت فيها وتآلفت، ابتداء من 1964، القصائد الأولي للمغامرة الشعرية المعاصرة في المغرب، لأحمد المجاطي ومحمد الخمار الكنوني وسواهما. فمهما اتفقنا أو اختلفنا، مع مشروع المجلة، فنحن لا يمكن أن نضع أقلام إلي جانب مجلة 2000، التي كان صدر منها سنة 1970 عدد واحد ولم يكن له أي أثر في الثقافة المغربية.
أما الثقافة الجديدة فقد ورد ذكرها، في المقدمة، عابراً مثلما ورد ذكر أقلام ووضعها بدورها إلي جانب مجلة 2000. وقد استدرك اللعبي كلامه عنها. فهو أضاف توضيحاً في حواره مع عبد الإله الصالحي جاء فيه أن الثقافة الجديدة ورثت عن أنفاس مكسب الحوار بين المعربين و المفرنسين وعملت علي بناء أدب وشعر جديدين في المغرب. نعم كانت هناك استمرارية ووشائج بين التجربتين. وعدد من كتاب أنفاس واصلوا النشر لاحقاً في الثقافة الجديدة. هذه الإضافة سبقتها إشارة إلي أنه كانت هناك حوارات بين أصحاب مجلة أنفاس ومجلة الثقافة الجديدة، علي إثر منع أنفاس.
الإشارة إلي الحوار بين الطرفين صحيحة. ولكن الثقافة الجديدة كانت مجلة قائمة الذات. وهنا لا بد من توضيح. إن مجلة أنفاس التي قامت بما يما وصفه عبد اللطيف اللعبي بـعمل التكوين ليست أنفاس في مرحلتها الثانية، التي صدرت باللغتين العربية والفرنسية، بعد هزيمة 1967، علي إثر اختلاف عبد اللطيف اللعبي وبعض كتاب المجلة مع الحزب الشيوعي المغربي في موقفه من القضية الفلسطينية. فالأولي كانت ذات بعد إبداعي فني، فيما الثانية أصبحت معبرة عن تيار سياسي، معروف في الأدبيات السياسية المغربية بتيار إلي الأمام . ولذلك فإن بعضاً من أعضاء أنفاس الأولي انفصل عن أنفاس اللاحقة. ثم قام كل من الطاهر بن جلون ومحمد المليحي ومصطفي النيسابوري (وكان محمد خير الدين غادر المغرب إلي فرنسا) بتأسيس مجلة أنتكرال ، التي لم يرد لها ذكر في مقدمة اللعبي. هذه التوضيحات ضرورية وأري أنها مضيئة. فالشرخ، الذي حصل في أنفاس، كانت له نتائج كبري في مصير المجلة، التي لم تعد واحدة بل مجلتين مختلفتين تماماً.
أما النقاشات، التي دارت بيني وبين أصدقاء من مجلة أنفاس، فكانت طبيعية في مناخ الحركة الطلابية اليسارية (وامتداداتها الثقافية)، التي كنا جميعاً ننتمي إليها ونتحرك في يوميات نقاشاتها بين المنفصلين عن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في تنظيم 23 مارس والمنفصلين عن الحزب الشيوعي في تنظيم إلي الأمام . ولكن الثقافة الجديدة، منذ انطلاقتها، كانت تجسد توجهاً مختلفاً عن أنفاس السياسية مثلما كان توجهها مختلفاً عن أنفاس الإبداعية. كان توجه الثقافة الجديدة هو الاشتغال علي ثقافة تعمل، من داخل العربية، علي تغيير القيم والحساسيات والتصورات الفكرية والإبداعية. وكان المنطلق هو السؤال. لم تطرح أنفاس السؤال كمنطلق. أما الثقافة الجديدة فجاءت من مكان لا تعرف عن تاريخه الثقافي الحديث شيئاً ولها استراتيجية التعرف عليه. ما يميز الثقافة الجديدة هو أنها أرادت أن تجمع بين حركة تطوان السابقة وبين اللقاء المباشر مع الحركة الثقافية في العالم. إن مصطفي المسناوي ومحمد البكري ثم عبد الله راجع (وفي مرحلة قصيرة عبد الكريم برشيد)، الذين اشتغلوا في الثقافة الجديدة إلي جانبي، والمتعاونين معنا، كانوا في أغلبهم مزدوجي اللغة ويكتبون بالعربية. ذلك هو اختيارها الأول، الذي يتوجه مباشرة نحو ما يجب أن يكون منطلقاً لفعل التحديث الثقافي في المغرب. فالثقافة الجديدة، من هنا، كانت متفقة مع اختيار العربية من طرف أنفاس في مرحلتها الثانية. ولكنها كانت تري بوضوح أن تغيير القيم والحساسيات والتصورات الفكرية والإبداعية لا يتم إلا من خلال مشروع ثقافي بلغة عربية مفتوحة علي اللغات الحديثة، الفرنسية والإنكليزية والإسبانية وسواها. فمشكلة المغرب لم تكن بالنسبة لنا ذات بعد واحد هو البعد السياسي، ولم يكن تعاملنا مع الثقافة كخادم مطيع لأمر سيد سياسي. كانت الثقافة بالنسبة لمجلة الثقافة الجديدة ذات استقلال في مشروعها، ما دامت الحركة الوطنية لم تول المشروع الثقافي ما كان يتطلبه لظهور ثقافة مغربية حديثة. وكان يلزم التحديث الثقافي أن يمر عبر العربية وهي تلتقي مباشرة (وبدون وسائط، كما فعل الكتاب المغاربة بالعربية من قبل) مع اللغات الأجنبية وتتفاعل معها.
ذلك برأيي هو شرط التأثير القوي الذي كان لمجلة الثقافة الجديدة في مغرب السبعينيات وبداية الثمانينيات. تأثيرها، الذي كانت السلطة تراقبه، هو ما جعلها تتعرض بدورها للمنع من طرف السلطة في كانون الثاني (يناير) 1984، بعد أن صدر منها ثلاثون عدداً علي امتداد عشر سنوات. ونظراً للمكانة الخاصة، التي اكتسبتها لا في المغرب فحسب بل في عموم العالم العربي، أقدم محمود درويش في الحادي عشر من مجلة الكرمل علي استضافة عددها الحادي والثلاثين، الذي كنا علي قيد إصداره وكان خاصاً بالمسألة الثقافية في المغرب. الثقافة الجديدة، من هنا، ليست جملة اعتراضية في تاريخ الشعر المغربي المعاصر، كما توحي بذلك مقدمة عبد اللطيف اللعبي، مثلما هي لم تستمر علي نفس النهج الذي كان لمجلة أنفاس في مرحلتيها الأولي أو الثانية، كما جاء في حواره. إنها المختبر الذي احتضن تجارب شعرية وتيارات فكرية وكتابات نقدية وترجمات، في عمل فكري إبداعي منفتح علي السؤال والمغامرة والتأمل النظري والوعي النقدي. ولها، بهذا المعني، مكانتها في عمل التكوين .
ولا شك أن التفاعل مع الحقول الفكرية والفنية المتباينة كان الدليل علي أن الثقافة الجديدة تعثر علي حضور سؤال: كيف التحديث؟ إنه سؤال التفاعل المباشر مع الثقافة الغربية بدون وسيط. في هذا السؤال كان اللقاء مع عبد الله العروي وعبد الكبير الخطيبي ومحمد عابد الجابري ومع الحداثة الشعرية في بيروت وفي عدة مناطق عربية وعالمية. وكان التفاعل المباشر، ولأول مرة في العربية، مع الشكلانيين الروس ورولان بارت وجوليا كريستيفا وغيرهما. ومعه أيضا كانت مسألة الأشكال الشعرية من صلب عمل الشعراء من أعضاء المجلة، وفي مقدمتها مشروع الكتابة ، الذي صدر عنه عدد خاص يوضح التجربة الشعرية، التي أقدمنا عليها، عبد الله راجع وأحمد بلبداوي وأنا، في كتابة قصيدة بصرية بالخط المغربي. وكان العدد (19) يشمل بيان الكتابة ، الذي كتبته، ومناقشات ونصوصاً علي هامش البيان، ومختارات لابن عربي عن الكتابة ومنتخبات من الخط المغربي. مع هذا التفاعل أيضا كان نشر قصائد لشعراء شبان أصبحوا يتبنون قصيدة النثر. هكذا ندرك أن ما كان يميز الثقافة الجديدة هو العمل علي تعدد الأزمنة في الزمن الواحد من ناحية؛ وعلي عدم تبعية الثقافي للسياسي من ناحية ثانية. وهما معا فرضيتان تم استخلاصهما من الفعل الثقافي ذاته داخل المجلة وخارجها، ومن الممارسة الشعرية والنظرية. ومعلوم، اليوم، أن الفرضية الثانية أصبحت من أبجدية الحركة الثقافية العربية. علي أن التصريح بهاتين الفرضيتين والاشتغال في ضوئهما كانا من بين ما كلفني شخصياً عذابات (تلك هي لعبة ومآسي الصراعات المعقدة في المغرب) وكلف (ويكلف) المجلة التعتيم والإلغاء. هذه الأطروحة لم يكن لمجلة أنفاس أن تفكر فيها، لأنها لم تصدر في مرحلتها الأولي عن تفاعل، من داخل اللغة العربية، مع تاريخ الثقافة المغربية والعربية ومع تاريخ شعرها وأشكاله الشعرية، كما أنها في مرحلتها الثانية حصرت مشروعها في الكتابات السياسية. وما أقوله عن الثقافة الجديدة أقوله عن دار توبقال للنشر. يعرض عبد اللطيف اللعبي في أقل من جملة للنشر الوليد ، الذي مكن من التعريف بشعراء اللغة العربية، دون أن يذكر كلمة واحدة عن أي دار، وخاصة دار توبقال للنشر، التي كنت أحد مؤسسيها سنة 1985، سنة واحدة بعد منع الثقافة الجديدة. وإصداراتها لا تزال مستمرة حتى اليوم، أي بعد عشرين سنة. لقد عملت دار توبقال للنشر علي تعضيد الفكرة التي قامت عليها الثقافة الجديدة من حيث دعم الكتابات والمغامرات الشعرية المكتوبة بالعربية وكذلك خطة الترجمة والفكر الداعي إلي تحديث العربية، مع مواصلة العمل بالفرضيتين السابقتين.
وبهذا الخصوص، لست أدري كيف يمكن التأريخ للشعر المغربي الحديث دون الوقوف علي المنجز الاستثنائي لـ بيت الشعر في المغرب في التسعينيات، الذي فتح للمغاربة بابا واسعاً علي قارات شعرية في العالم وللشعراء المغاربة إمكانية الاتصال مع شعراء، كما نقل الشعراء المغاربة، من لغات وتوجهات، إلي مرحلة جديدة في التعامل مع كيف يمكن أن يبنوا مستقبلاً مغايراً للشعر المغربي. ولا يمكن التقليل من مكانة مشروع وزارة الثقافة، ابتداء من عهد حكومة التناوب، الرامي إلي نشر الأعمال الكاملة للشعراء الحديثين.
بهذا يظهر مأزق الانتقائية. فكيف يخصص عبد اللطيف اللعبي ثلاث صفحات في توضيح الدور التاريخي لمجلة أنفاس والكتاب بالفرنسية ثم لا يختار من بين شعراء هذه المجلة سوي ستة أسماء؟ ثم كيف يختار أربعة وثلاثين اسماً لشعراء بالعربية دون أن يذكر ما يجب ذكره عن الأرض التي وقفوا عليها والمشروع الذي تلاحم معهم والفاعلين الذين كانوا يسهرون علي تحقيق هذا المنجز الشعري والثقافي الذي كان من قبل مستحيلا؟ ثم كيف يمكن أن يكون هذا العدد من شعراء العربية (وهم ليسوا معربين) حاضرا بحيوية في الأنطولوجيا ولا توجد قراءة لمغامرتهم الشعرية ولا للأشكال والموجهات الفكرية والجمالية التي هي أثرهم الشخصي في كتابة قصيدة مغربية حديثة، متفاعلة مع سواها عربيا وعالميا، وبخلافها لا يصبح لشعرهم معني؟ ثم لنذهب أبعد من كل هذا ونتساءل عن المانع في أن نتناول حضور بعض من هذا الشعر في الفضاء الشعري الدولي، فيما المتتبعون، اليوم، يلمسون هذا الحضور النوعي، رغم حداثة سن القصيدة بالعربية، في أكثر من مكان في العالم وفي لغات يصعب حصرها؟
***
هذه أسئلة يفرضها مأزق الانتقائية. وهي تفيد أن عبد اللطيف اللعبي قليل العناية بالشعر العربي ولا ينزل إلي قعر نهر الثقافة العربية. وهو، بالتالي، غير مستعد لتناول الخصائص الداخلية لتجربة شعرية تستحق أبعد من تقديمها شهادة علي عهد السلطة الاستبدادية، لأن ذلك برأيه مجرد ترف. هذه القراءة هي نفسها التي كنت اعترضت عليها، دائما، في دراساتي كما في كتاباتي المختلفة. إنها قراءة تلغي الشعري باختصار وتنزع عنه الحق في أن يكون شعرا يتقاسم حق الإقامة مع غيره من الشعر في العالم.
إن انتقاء الفرانكوفونية وحدها، وتخصيصها بتحقيق مشروع تكوين الشعر المغربي الحديث دون غيرها، له أكثر من دلالة. وأهم هذه الدلالات هو أن التناول الداخلي للحركة الشعرية التحديثية بالعربية في المغرب، ابتداء من الستينيات حتى اليوم، والتطرق إلي الحركة ذاتها في المرحلة الاستعمارية بتطوان (علي الأقل)، سيظهر المشروع الفرانكوفوني متعارضاً والمشروع الطبيعي للتحديث الشعري والثقافي والمجتمعي في المغرب، عندما نقترب منه في ضوء مشروع تحديث المجتمعات الأوروبية الحديثة، التي نعتبرها نموذجاً لحداثتنا، بل سيظهر عائقاً في وجه التسريع في التحديث. ما يؤكد الاستدلال هو أن مجموعة من الشعراء المغاربة، لما بعد السبعينيات، لهم تكوين جامعي بالفرنسية أو الإنكليزية أو الألمانية أو لغات غير هذه، يكتبون شعرهم بالعربية التي تغتبط بغريبهم . ألا تبعث هذه الواقعة علي التعامل معها بمعرفة نظرية؟ ألا تدفع إلي التأمل في الفعل التحديثي للقصيدة المغربية المعاصرة، من حيث هو فعل داخلي، يرج البناءات الشعرية وما وراء هذه البناءات من متخيل وقيم وحساسيات؟ ألا يغرينا هذا الفعل بفتح الممرات المقفلة ليري كل واحد منا، وغيرنا، مشهد القصيدة المغربية المعاصرة وهي تعيد الشعر إلي المجهول واللانهائي؟ ألا يستحق كل هذا سؤالاً واحداً يشكك في مسلمات مضت عليها أربعة عقود؟ أسئلة لا تتوقف بسهولة. وهي جميعها تردنا إلي ما غاب عن المقدمة، أقصد معني الشعر المغربي الحديث ومعني حداثته.
المأزق الثالث هو الاستراتيجية. يتمثل هذا المأزق في المعايير التي يقوم عليها اختيار الممثلين للشعر المغربي المعاصر. كل أنطولوجيا لها استراتيجيتها، التي قد تكون تربوية أو جمالية أو فكرية أو تاريخية. واستراتيجية أنطولوجيا عبد اللطيف اللعبي هي التعريف، علي نحو واسع، بالشعر المغربي الحديث عبر حرصه علي التوازنات في المجتمع الشعري والسياسي للمغرب. ذلك ما عبر عنه في الحوار قائلا: حرصت علي التوازنات، أولها التوازن اللغوي(...) أما الثاني فهو الأجيال(...) ثم توازن علي مستوي الجنس حيث أفسحت حيزا للشاعرات المغربيات .
يمكن مسايرة عبد اللطيف اللعبي في أن لكل منتخبات شعرية قسطاً من الذاتية. هذا طبيعي. لكن ما معني التوازنات؟ وما معني التوازنات اللغوية، أساساً؟ يحصر عبد اللطيف اللعبي التوازنات، في المجال اللغوي، بين العربية والمغربية والفرنسية والأمازيغية. هنا نقف علي المأزق الاستراتيجي. عندما يعتبر اللعبي هذه اللغات هي وحدها التي تستحق الخضوع للتوازنات يكون معينا لحدود لها أن تصبح رسمية، بفعل السلطة الرمزية للغة الفرنسية، أي أنه يلغي لغات أخري يكتب بها شعراء مغاربة، مثل الإسبانية والإنكليزية والإيطالية والهولندية (ويمكن أن تكون هناك لغات أخري لا أعرفها)، ويمنع عنها حق مغربيتها.
لا بأس من الإشارة هنا إلي أن الكثير من السياسيين والمثقفين المغاربة لا يكفون عن القول بأن المغرب متعدد لغوياً وثقافياً. وهذا ليس صحيحاً، لأن المغرب كان، مباشرة بعد الاستقلال، وضع الفرنسية في الشمال مكان الإسبانية، حتى تكون الفرانكوفونية هي التي لها السيادة. وهو ما يتحكم في مغرب اليوم. عندها نفهم أن التوازنات لدي اللعبي، في المجال اللغوي، ذات معني سياسي. وهي لا تتركنا نفهم معني الحضور الملموس والمبدع للعربية في الحقل الشعري، أو نطرح السؤال علي معني الشعر المغربي في ضوء تعدد لا توجد لدينا معايير لتسميته وتعيين حدوده ، أو نبحث عن الكيفية التي يمكن التعامل بها مع هذه الوضعية غير الطبيعية للغات في المغرب وفي مجتمعات كانت خاضعة للاستعمار الأوربي أو لأفراد يعيشون في مجتمعات أوروبية ويكتبون بلغاتها فيما هم ينحدرون من مجتمعات غير أوروبية ويصرون (أو نصر) علي انتماء أدبهم إلي مجتمعاتهم الأولي.
إن عبد اللطيف اللعبي يبرر عدمَ إدراج شعراء يكتبون بلغات، غير التي اختارها، بضيق المساحة. تبريراً لا يكفي. فضيق المساحة سبب ناقص. لنفرض أن شاعراً مغربياً (أو شخصاً) آخر أقدم علي وضع أنطولوجيا بالإنكليزية وألغي منها الشعراء بالعربية والفرنسية، وضم إلي الكاتبين بالإنكليزية شعراء بالمغربية والأمازيغية والهولندية وتذرع بالسبب ذاته، ضيق المساحة. فكيف سنخاطب هذا الشاعر (الشخص)؟ وبأي حجة معرفية سنمنعه من هذا الاختيار للغات دون غيرها؟ وكيف لا نقتنع أن السبب هو فعلا ضيق المساحة؟ هذا منطق التوازنات السياسية وليس مسألة ضيق المساحة. إنه منطق لا يعتمد قيماً شعرية ولا موجهات فكرية، كما هو الشأن في كل المجتمعات الشعرية والأدبية في العالم الحديث. ولا أستبعد أن يحدث هذا (وأكثر من هذا) في المغرب، إن نحن سرنا علي هذا المنوال من التوازنات السياسية في التأريخ للشعر والأدب والثقافة. فالمغرب مقبل علي الحضور الأمريكي، ولا نعرف بالضبط ما الذي سيؤدي إليه في المجال الثقافي. مبدأ التوازنات السياسية، في مجال ليس سياسياً، لا يخفي مأزقه. وحتى لو كان اليوم في مصلحتنا أو مصلحة المغرب فلا أحد يمكن أن يتنبأ بأنه لن يكون غدا في غير مصلحتنا أو في غير مصلحة المغرب. لذلك انطلقت منذ البدء من أننا لا نملك خياراً آخر، ونحن نختار قيم وأفكار المجتمعات الحديثة، إلا أن نعامل الشعر المغربي بما تعامل به هذه المجتمعات ثقافتها وأدبها وشعرها من إسناد تسمية لها وتعيين لحدودها، حتى يصبح التأريخ لهذا الشعر ممكناً. فلا يجوز، في تصور حديث كهذا، أن يأتي شخص، كيفما كان، ويعين بنفسه حدود أدب بلد (أو شعره)، قد تضيق وقد تتسع، حسب المساحة التي تتوفر لدي الشخص، ولا أن يتولي مسؤولية تسمية هذا الأدب (أو هذا الشعر) إلا كان هذا البلد يفتقد مشروعه التحديثي، بما هو مشروع كلي. ومن ثم فإن التسمية وتعيين الحدود من أوليات تأريخ الشعر والأدب. وهي لا تدخل ضمن الملكية الفردية بقدر ما هي ليست منحة نعطيها لمن نريد ونمنعها عمن نريد.
إن مفارقات الشعر المغربي، التي يتناولها عبد اللطيف اللعبي بكل عناية، لا تولي الانتباه إلي مسألة تسمية الشعر المغربي الحديث ولا إلي تعيين حدوده. وهي لهذا السبب لا تهتم بتلازم الحداثة والمحايثة اللغوية ولا إلي الأشكال التي عرفت اختباراً بعيد المدى بالعربية، لأن الكاتبين بها لا ينطلقون من مواقف إيديولوجية، بل هم ينخرطون في تاريخ شعري كبير، ورثوه عن ثقافتهم القديمة وورثوه عن الثقافة الكونية الحديثة، التي لا تنحصر في أوروبا ولا الغرب وحدهما.
إن التسمية، هنا، تأخذنا إلي الأقصى. ولهذا جعلت هذا المأزق من طبيعة استراتيجية. لدينا الآن تسمية الأدب المغاربي . بمجرد ما يقرأ قارئ أو يستعمل باحث مصطلح الأدب المغاربي يفهم أنه الأدب المكتوب بالفرنسية، حصراً، من طرف أدباء ينتمون إلي بلاد المغرب والجزائر وتونس (وقد تضم إليها موريتانيا لاحقاً). مالك التسمية هو المؤسسة الفرانكفونية. لا أحد يتجرأ علي إدراج أدب مكتوب بلغة غير الفرنسية ضمن الأدب المغاربي . لا بالعربية ولا بالمغربية ولا بالأمازيغية. هذا هو منطق المؤسسات المؤمنة بالتعددية والمدافعة عن الاستثناء الثقافي! وهو يفيد أنه لا يوجد أدب مغربي ولا جزائري ولا تونسي بالفرنسية قائم الذات أو في ملكية منتجيه. هو أدب قام مالك التسمية، المؤسسة الفرانكفونية، بتسميته وتعيين وحدوده الجغرافية والبشرية واللغوية. وصاحب التسمية، المعين للحدود هو صاحب الملكية. فكيف نتعامل مع هذه السلطة؟ لم لا نسأل عمن ولاّها أمر تسمية هذا الأدب وتعيين حدوده؟ وكيف نقبل هذه التسمية عندما نكون ضمنها(مستفيدين منها) ونرفض استعمال تعريف التسمية وتعيين الحدود عندما نشتغل باستقلال عنها؟ ومتى يمكن للمغاربة (وغيرهم) أن يطرحوا السؤال علي الحدود اللغوية لأدبهم، مثلما هو الشأن في المجتمعات الحديثة، ومن بينها المعترفة حقاً بالتعدد الثقافي، علي غرار إسبانيا، مثلا؟
وعلي هذا النحو، لا تتساءل مفارقات عبد اللطيف اللعبي عن هذا الشعر الذي لا نعرف هل تكمن أهميته في تعدد لغاته (بما فيها التي لم تجد مكانها في الكتاب) أو في قدرته علي بناء تجربة شعرية، ولا عن السر في وجود حركة ديناميكية بالعربية، رغم أن هذه اللغة لا تتكافأ مع الفرانكوفونية في الوسائل والامتيازات داخل المغرب وخارجه. وإذا كانت هي لا تتساءل فإن التعبير الذي أعتبره مصيباً، في حق الشعر المغربي بالعربية، هو أنه شعر يقاوم احتضار لغة عربية واحتضار ثقافة عربية في مجتمعهما وعلي يد أبنائهما، فيما هما لا يملكان أي سلطة معرفية في التسمية ولا تعيين الحدود. هذا هو الوجه الملحمي للكتابة بالعربية في المغرب. ملحمي ولا يتخلي عن مكانه، الذي هو مكان الحداثة في العالم. وبذلك فهو يجد المنصت إليه في كل مرحلة من هجرته، غريباً يبحث عن غريب.
***
هذه المآزق، التي تقع فيها قراءة عبد اللطيف اللعبي لتاريخ الشعر المغربي، منذ سقوط غرناطة سنة 1492 حتى اليوم، هي مآزق نظرية تخص تأريخ الشعر وتأريخ الأدب. إنها لا تساعدنا في الوقوف علي ما حدث في تاريخ شعري صعب الاختزال، ولا تقنعنا بالمعرفة، التي تفصل الشعر عن وقائعه وأشكاله أو عن لغته وتاريخ ثقافته. ولكنها، إضافة إلي ذلك، لا تدلنا علي الاختيارات الجمالية والفكرية واللغوية، التي قامت بها النخبة المغربية بالعربية، من أجل تحديث لغة وتحديث شعر وتحديث رؤية إلي الذات وإلي العالم، بل هي لا تفكر في تسميته ولا في تعيين حدوده.
ولكن المقدمة لا تدلنا علي معني الحداثة الشعرية، ولا علي مدي فعل هذا التحديث في متخيل وقيم وحساسيات، داخل مجتمع مغربي وموروثه الشعري والثقافي، ولا مكانة هذا الفعل ضمن التحديث الشعري في العالم العربي، ولا ما الذي يجعله قريباً من الحركة الشعرية في العالم.
فإذا كان المغرب دخل مرحلة الانغلاق، بعد سقوط غرناطة، فهو لا يمكن أن ينفتح علي نفسه ولا علي العالم من خارج يفصله عن داخل لغته وتاريخه الثقافي. وما يحدث في الحقل الشعري المغربي لا يخلو من حرب لغوية وثقافية تجاه العربية وثقافتها وإبداعها، بعكس ما تغرينا به مقدمة عبد اللطيف اللعبي وهي تعرض علينا الوضع الشعري المغربي في صورة وردة تنقص العالم، الذي لا يدري كيف يعثر عليها.
كل ذلك يجعلنا أمام تأريخ للشعر المغربي الحديث متعدد المآزق. يجعلنا، نحن الذين يمكن أن نستقصي ونناقش ونتدارك، مقتنعين أن هذه المقدمة تبرر أكثر مما توضح، تنفي أكثر مما تثبت. ولكنها تجعل القارئ الفرانكوفوني يبتعد أكثر عن حياة هذا الشعر، مطمئنا إلي ما يتطابق ونموذجه الثقافي. ونحن، هنا، عصابة من التائهين مع قصائدنا. نكتب ونهاجر في الكتابة، التي هي وطننا. لا ننتظر أحداً سيأتي يوماً ويقول: كانوا هنا.
القدس العربي
2005/02/10
إقرأ أيضاً: