الشاعر عماد فؤاد من الأصوات الشعرية الممثلة لجيل التسعينيات في مصر، والتي تكتب قصيدة النثر وترى فيها قصيدة المستقبل الشعري، تميزت قصيدته بتوظيفها للغة السرد دون أن تفقد الشعري لغة وصورة وإيقاعاً، صدر له حتى الآن ثلاثة دواوين هي "أشباح جرَّحتها الإضاءة"، "تقاعد زير نساء عجوز"، و"بكدمة زرقاء من عضَّة النَّدم" واصل الشاعر خلالها ترسيخ رؤيته وسعيه إلى ترسيخ خصوصيتها، وفي هذا الحوار معه نحاول التعرف على رؤيته لقصيدة النثر ومشهدها الشعري وعلاقتها بالواقع النقدي ..
* أعتقد أن ثلاثة دواوين، كفيلة بأن تدفعني لسؤالك عن رؤيتك الخاصة لقصيدة النثر، تقنياتها اللغوية والبلاغية والتي تنطلق منها في كتابتك لها؟
ربما أستطيع التَّحدث عن رؤيتي الخاصة للقصيدة الجديدة، أما التقنيات اللُّغوية والبلاغية التي أنطلق منها في كتابتي لها فأحتاج بالأحرى إلى من يحدثني عنها، ذلك لأنَّني لا أستطيع وضع يدي على قوانين أو مقوِّمات ملموسة أو واضحة أتبعها في الكتابة، بقدر ما أستطيع أن أشير إلى اهتماماتي التي ربما تكون ظاهرة في مجموعاتي الشِّعرية الثَّلاث الصَّادرة حتى الآن، في هذه الإشارة أعتقد أنَّني أملك اهتماماً وولعاً باللغة بوصفها وسيلة إلى الشِّعري وليست غاية، وسيلة للكشف عن ما هو سحري في العارض أو المباح، في البسيط الظَّاهر أو المعقَّد غير القابل للتفكيك في وهلته الأولى، ولعي باللغة من هذه الزاوية ولَّد بداخلي الرغبة في التجريب المستمر، التجريب الذي يشتغل على صناعة الصُّورة بالدرجة الأولى، الصُّورة بوصفها أحد أهم أعمدة بناء الشِّعر، كذلك أرى أنَّ لديَّ اهتماماً ثالثاً بالإيقاع الداخلي في الجملة الشِّعرية، سواء أكانت مقتضبة قصيرة أو طويلة محمَّلة بإفاضات يراها البعض سردية أكثر منها شعرية، دائماً ستجد الإيقاع لديَّ، واهتمامي به نابع من تصوري الخاص عن الشِّعر، بغضِّ النَّظر عن نوعه أو الشكل الذي يكتب فيه، لا أحد يستطيع في رأيي أن يحدِّد أطراً أو أشكالاً معينة لنوع شعري ما، وإلا فسوف نعود من جديد إلى القيود التي حاولت القصيدة الجديدة تحطيمها والخروج عليها، القصيدة الجديدة هي ابنة هذه اللحظة المزدحمة وغير القابلة إلا لتحويلها إلى شعر، إلى جنون، ورهان هذه القصيدة سيكون على قدرتها على العيش والاستمرار، من ثمَّ لا أجرؤ بالفعل على تحديد تقنيات ما لقصيدتي، ذلك لأنها أقرب إليَّ من اللازم، يحتاج الشعراء أحياناً إلى عيون الآخرين كي يروا أنفسهم جيداً.
* تحتلُّ لغة السرد في قصيدتك مكانة تكاد تشكل خصوصية مع حرصك علي الصورة والتشكيل البلاغي وهذا ميز تجربتك منذ ديوانك الأول وحتى ديوانك الأخير، لكن البعض جعل من هذه التقنية كل تجربته حتى صاروا قصاصين وليسوا شعراء، أرجو إلقاء الضوء على أسباب ودوافع اختيارك لهذه التقنية ورؤيتك لها ورؤيتك لاستخدام البعض لها؟
الشَّاعر الذي تتحول قصيدته إلى لغة سردٍ بحْتٍ ليس بشاعر، لأن سيادة السَّرد على القصيدة تأتي على حساب الإيقاع الداخلي، ولا شعر من دون موسيقى أو إيقاع، حتى لو كنَّا نتحدَّث هنا عن القصيدة الجديدة أو قصيدة النثر كما تسميها، من هنا أرى أنَّ شعراء قليلين جداً من استطاعوا بنجاح توظيف لغة السِّرد شعرياً، وذلك طبيعي في رأيي، لأن لغة السَّرد من السَّهل لها استيعاب جنون الشاعر وانفلاته، لكن القصيدة لا تستطيع استيعاب إفاضة الروائي أو السَّارد، هناك دائماً حضور طاغ داخلي لهذه المقابلة بين ال"شساعة" التي ينبني عليها البناء الروائي أو السَّردي، وبين ال"إيماءة" التي تنبني عليها القصيدة، شعراء نادرون جداً من استطاعوا الوقوف بنجاح بين البرزخين في كتاباتهم الشعرية، أحاول في قصيدتي أن تكون السَّردية وسيلة إلى الشِّعري، وليست غاية في حد ذاتها، وعلينا أن نعترف بأنَّ القصيدة الجديدة شجَّعت الكثيرين على كتابتها، ما أدى إلى استشراء السهولة ومشاعية النص المكتوب في راهننا الشِّعري، ولكن وكما قلت سابقاً، أيُّ سرد وأيُّ حكي ما تكتبه كي تستخرج الشِّعر الذي تطمح إليه قصيدتك؟، هنا، وفي هذا السُّؤال تحديداً، تكمن المشكلة التي تعاني منها القصيدة الجديدة مصرياً وعربياً، فأغلبية شعراء هذه الموجة يكتبون متخيلين أن أية كتابة من السَّهل أن تسمَّى شعراً.
تحولات
* شهدت لغتك تحولاً من الديوان الأول إلي الديوان الثاني واستقرت في الديوان الثالث، هل وجدت في ديوانك الأول خروجاً غير مقبولاً للغة فكان التحول أم ماذا؟
لا أسمِّي التطور الذي حدث على لغتي تحوُّلاً بقدر ما أعتبره تطوُّراً طبيعياً في الرؤية ونضجاً في استخدام اللغة والسَّيطرة عليها، ذلك أن كلمة "تحوُّل" توحي بأنَّني غيَّرتُ من لغتي تماماً وهذا ليس صحيحاً، أرى أن لغتي نضجت بعد المجموعة الأولى، والذي كنت أحاول من خلالها المزاوجة بين سحر الشفاهية وبين المكتوب، ستلمح حرصي المتزايد في هذه المجموعة على استخدام الكلمات المتداولة شفاهة في الحياة اليومية، كنت وما زلت أومن بأنَّ لهذه اللغة سحريتها وشعريتها الخاصة، لكنَّ هذا الحرص خفَّ كثيراً في نهايات المجموعة ذاتها، وأصبحت اللغة أكثر كثافة وأقل انحيازاً للثرثرة في القصائد الأخيرة منها، مثلما في قصيدتي "الصِّدق لي خمسة أصابع في كل كف" و"كائنات رجل قتلته الوحدة"، وأعتبر أن هاتين القصيدتين كانتا اللبنة الأولى لتطور لغتي في المجموعتين اللاحقتين، ولكن أحب أيضاً أن أشير إلى أن لكلِّ نص لغته وطريقته في الكتابة، ربما حتَّى بدون سيطرة من الشاعر، خذ مثلاً على ذلك اللغة في قصيدتي "تهشُّ على أغنامها من دون عصا" والتي وجدت أنني أستفيد فيها من التراث الشعبي في الريف المصري، ستجد جملاً مثل: "تقول: لي في المحبَّة ألف فدان/ وأرضكنَّ لم تزل بوْر" أو: "كلَّما دُسْتُ الأرض/ رنَّ في أذنيَّ صوتٌ/ كأنَّ لكعبيَّ حدوةٌ كالفرس"، وغيرها، وأغلبها صور مستقاة من حياة وخبرة مومس ريفية، في المقابل ستجد أنَّ اللغة في نص آخر مثل "مريم" في ديواني الثاني "تقاعد زير نساء عجوز" تأخذ شكلاً أصعب وأكثر تركيباً وتعقيداً، ربما تستفيد أكثر من عمق شخصية "مريم" ذاتها في المتون المقدسة والأدب العالمي، كما لو أنَّ النصَّ نفسه هو الذي يحدِّد اللغة التي يكتب بها وفيها.
* هناك اختلاف واضح بين قصيدتك وقصيدة جيلك وبين قصيدة الشعراء السابقين لكم الذين كتبوا قصيدة النثر كيف تقيم أسباب هذا الاختلاف؟
كي أجيب على سؤالك هذا يجب عليَّ أولاً الإلمام بالمنجز النَّثري في الشِّعرية العربية، وهو ما لا أجرؤ على قوله، لكنَّني سأكتفي بالإشارة إلى أنَّ المشهد الشعري العربي الآن مزدحم ومليء بالأصوات التي تكتب نصوصاً جيدة وهامة، ولكن لا يمكنني الجزم بأن هناك قصيدة نثر عربية واحدة، بقدر ما هنالك قصائد نثر متعددة ومتفاوتة ومغايرة، هناك مشاهد كاملة وأجيال مختلفة في الأقطار العربية، قصيدة النثر في لبنان تختلف في مقوماتها وبنيتها عن قصيدة النثر في مصر أو العراق أو الخليج أو المغرب العربي، لذا سأقصر إجابتي على جزئية الاختلاف الذي لمحتَه بين قصيدتي وقصيدة جيلي من الشعراء المصريين، وأرجو أن أكون قد نجحت ولو في التميز عن الأصوات العديدة في الشَّعرية المصرية الراهنة، أرى أن النَّص الشعري الجديد متعدِّد بتعدُّد شعرائه ، لم تعد هناك تلك الوحدة التي كنَّا نجدها قديماً في القصيدة العمودية أو التفعيلية، حيث كان البحر الشعري يوحِّد من خلفه أصوات الشعراء، القصيدة الجديدة - وأفضل تسميتها هكذا بدلاً من تسمية قصيدة النثر - جعلت لكل شاعر موهوب صوته الخاص، ومن ثم أرى أن هناك قصائد نثر بتعدد الشعراء الحقيقيين الموجودين، وهذا لا ينفي الاشتباك والتقاطع والاستفادة بين هذه الأسماء، لكنَّه لا يوحِّد الصُّورة ولا يؤسلب المكتوب.
* هل ترى أن قصيدة النثر عقب تخليها عن المفهوم الكلاسيكي للإيقاع استطاعت بالفعل تحقيق إيقاع خاص بها؟
كما في إجابتي السابقة، ليس هناك إيقاع خاص أو شكل محدد للنص الشعري الجديد، هناك شعريات وإيقاعات متعددة بتعدد الشعراء الحقيقيين.
كيف ترى مشهد قصيدة النثر في مصر وهل قارب على الاستقرار أو أن تتشكل له ملامح خاصة من خلال شعراء بعينهم أم لازال في طور الاستقرار والتشكيل؟
لو قارب المشهد الشِّعري في مصر على الاستقرار فقل عليه السَّلام، أتمنى ألا يستقر المشهد وأن يظل على ما هو عليه من حراك وتخبُّط وحيوية ومحاربة، يموت الشِّعر في أزمنة السلم والمهادنة، والقصيدة الحقيقية توجد في الخلاف والمحاربة والسَّعي إلى عالم لن يوجد أبداً.
لا نقاد
* وماذا عن رؤيتك للحركة النقدية في مصر وهل يمكن أن نقول إن هناك جزءاً من هذه الحركة مهموم بمتابعة مشهد قصيدة النثر؟
ليس هناك حركة نقدية أصلاً في عالمنا العربي، لدينا نقاد معدودون، وأغلبهم يصرفون جهودهم وأبحاثهم في نبش الماضي وتفتيت القديم، متغاضين عما يحدث من حولهم، وهذا ليس اختياراً منهم، بقدر ما هو كشف لفقر موهبتهم، فهم عاجزون عن تحليل القصيدة الجديدة، وحين يحاولون يبدون في بؤسهم الكامل وهم يشرِّحون النص الجديد بمباضع النقد القديم، فتستحيل القصيدة الجديدة بين أيديهم جثَّة ويصبح شاعرها هو المرتكب للجريمة.
نحن في حاجة إلى عقلية نقدية جديدة مؤهلة لتناول القصيدة الحديثة بقوانينها الخاصة، كل قصيدة تستنُّ لنفسها قانونها الخاص، والناقد العربي الراهن يحشد مقالاته بأسماء النقاد الغربيين وكأنَّه يحتمي بهم من جهله، المهمومون الآن بمتابعة قصيدة النثر هم الشُّعراء أنفسهم الذين يكتبون من حين إلى آخر عن شعراء مثلهم، أمَّا عن المشهد النقدي في مصر فلم يقدِّم بعد الأصوات النقدية المؤهلة لتناول النص الجديد.
* هل تراجع مكانة الشعر ودوره وراءه الشعراء أم النقاد أم كلا الطرفين مع أطراف أخرى وما هي هذه الأطراف الأخرى وحجم دورها؟
ليس الشِّعر وحده الذي تراجع، كل الفنون الكتابية تراجعت وحلَّ محلَّها الفضائيات والستالايت والانترنت، لا زمننا زمن الرواية ولا الشعر ولا المسرح ولا الصحافة، زمننا زمن الغناء ومطربيه الجدد، قبل عدة أعوام كنت أسخر من أنه سيأتي يوم يطالب فيه الشعراء كي يكونوا ناجحين وموجودين بأن يصوِّروا قصائدهم بطريقة الفيديو كليب سعياً إلى مخاطبة جماهير انصرفت عن الكتاب واستسلمت لشاشات التلفزيونات والفضائيات، ويبدو أنَّني كنت محقاً، كما أن مقولة "احتضار الشعر" التي أصبحت مضغة في الأفواه كانت سبباً في انصراف الناس عن الشِّعر، متصورين أن الشّعراء الجدد يكتبون ألغازاً وكلاماً خارج المعاجم العربية، يقولون الشعر في أزمة، فإذا كان هذا صحيحاً، فما الذي لا يشهد أزمة في مجتمعاتنا العربية؟
* انطلاقاً من رؤيتك السابقة كيف ترى لمستقبل قصيدة النثر داخل مستقبل الشعر عامة؟
من ذا الذي يجرؤ على الحديث عن مستقبل ما وهو ليس بآمن في حاضره؟، مغرور من يحاول، أنا لا أستطيع الحديث عما سأكونه غداً، فكيف لي المغامرة بالحديث عن مستقبل فن ما في لحظة كتلك التي نحياها.
(القاهرة)
السفير
2006/10/14