حاورته: عزيزة علي

عماد فؤاديعتبر الشاعر المصري عماد فؤاد ان القصيدة الطويلة هي سمة طبيعية للشعراء جميعاً في محاولاتهم الأولى، حيث يريدون ان يقبضوا على العالم من دون أن يفوتهم شيئا مما يروه. ويرى فؤاد الذي صدر له ثلاث مجموعات شعرية هي "أشباح جرَّحتها الإضاءة" و "تقاعد زير نساء عجوز"و "بكدمة زرقاء من عضَّة النَّدم"، والحاصل في العام 2005 على جائزة الشعر الثانية من مؤسسة الهجرة الهولندية El Hizjra-Literatuurprijs عن قصيدته "كنبع وحيد في الرمال"، ان الكتابة الجيدة هي ما تتناول العادي والمشاع بصورة ليست عادية ولا مشاعاً.ويؤكد فؤاد المولود في العام 1974، ان كل مبدع يعد مغتربا حتى وان بقي في وطنه، لأن الإبداع في رأيه هو الاغتراب نفسه.

* كيف نسجت خيوط قصيدتك الأولى، ومتى ؟

-بدأت كتابة الشعر منذ المراهقة، كان ما أكتبه وقتها عبارة عن خواطر ساذجة، حتى بدأت أطلع على الشعر العربي ورواده، ووقعت في هوى أمل دنقل لفترة طويلة، حتى أخرجني من سطوته شعراء آخرون من أهمهم محمود درويش وأمجد ناصر ووديع سعادة وأنسي الحاج ومحمد الماغوط وقاسم حداد وعبد المنعم رمضان ورفعت سلام وغيرهم كثر، وفي بداية التسعينيات بدأت قصيدتي تتماسك في شيء يمكن الاعتماد عليه شعرياً، أخذ في التشكل ببطء حتى أصدرت مجموعتي الشعرية الأولى "أشباح جرَّحتها الإضاءة" في العام 1998، ثم توقفت عن كتابة الشعر أربعة أعوام حتى أصدرت مجموعتي الشعرية الثانية "تقاعد زير نساء عجوز" في العام 2002.

* ما يزال أثر أمل دنقل في قصائدك واضحا؟

- لم يؤثر فيَّ شاعر مثلما فعل أمل دنقل، وأعتبر أنه هو وصلاح عبد الصبور أكثر من أثرا فيَّ من الشعراء المصريين، ولكن أمل امتاز عن عبدالصبور بأنه التفت إلى عناصر شعرية هي في جوهرها ركائز النص الشعري المصري الجديد، ومن أهم هذه الركائز الالتفات إلى التفاصيل الصغيرة واليومي والمعاش، برز في شعر أمل دنقل كذلك الحس السينمائي باشتغاله على تقنيات المونتاج والقناع والمسرحة التي نراها اليوم بارزة لدى شعراء الجيل الجديد في مصر، تعلمت منه كيف أبدأ قصيدتي وكيف أنهيها، كيف أحكم جملتي وأجعلها قصيرة ووافية، في اعتقادي الشخصي لم يقرأ أثر أمل دنقل الحقيقي نقدياً حتى الآن قراءة تفيه حقه علينا، وترصد أثره الذي تركه فينا، من قراءتي لأشعار أمل وصلت لأن أتماهى مع شخصيته الإنسانية بوصفه أحد المهمشين الذين صنعوا أنفسهم بأنفسهم، من هنا تربى ولعي بالهامشي في الحياة الراهنة، باعتبار أن همومي هي أيضا هموم كائن هامشي، لكن عندما تكتب هذه الهموم في نص شعري، يصبح النص هو المتن.

* ديوانك الأول فيه الكثير من القصائد الطويلة بينما الأخير فيه اختزال ماذا تقول في هذا المجال؟

- أعتقد أن هذه سمة طبيعية يتمتع بها الشعراء جميعاً، الشاعر دائماً في محاولاته الأولى للقبض على العالم لا يريد أن يفوِّت شيئاً مما يراه، يحاول أن يرصد كل شيء بكل طريقة ممكنة، أما بعد ذلك وفي تجاربه اللاحقة تكون اللغة لديه قد ثقلت وأصبح لها كيانها الخاص الذي لا يحتاج إلى الإفاضة كي تظهر مكنوناتها، وكم نجد من شعراء كبار يرفضون الاعتراف بمجموعاتهم الشعرية الأولى، مبررين ذلك بأنها كانت فترة مراهقة شعرية لا يعتمد عليها، أنا لا أرفض مجموعتي الأولى أو أتبرأ منها، بل أعتز بها جداً، مثلها مثل مجموعتيَّ اللاحقتين، لكنني أردت أن أقول إن الشاعر في بداياته ربما يكون نهماً في رصده لعالمه، ما يجعل كتابته تأتي معتمدة على السرد أكثر من الشعر.

* تملك جرأة في الكتابة خصوصاً في وصف المرأة والجنس كيف ترى إقحام الجنس في النص الشعري، وهل ترى ضرورة له في كل نص؟

- الشعر في جوهره ضد كلمة ضرورة هذه، أما عن الجنس والجرأة في الكتابة فكم من الكتابات في تراثنا العربي احتفت بالجنس واعتبرته ركناً لا يمكن غض الطرف عنه في الحياة الإنسانية، من هنا يأتي اهتمامي برصد ما هو إيروتيكي بداخلي وبداخل وعيي الخاص، وأفرق هنا بين ما هو إيروتيكي وبين ما هو مبتذل، لأن الكتابة الجيدة هي ما تتناول العادي والمشاع بصورة ليست عادية ولا مشاعاً، وأحيلك هنا إلى العديد من قصائدي التي تناولت فيها الجنس بمنظور خاص تبعا لثقافتي ورؤيتي الشخصية، ومن هذه النصوص: "تهشُّ على أغنامها من دون عصا"، "يدها التي في مكمن ضعف"، "بدء تقاعد زير نساء عجوز". ولكن أحب أيضاً أن أنوه إلى أنني لم أقصر قصيدتي على هذه الناحية من الكتابة، ولا أحب أن أصنف على أنني أحد الشعراء الذين يكتبون نصاً إيروتيكاً فقط، هناك العديد من قصائدي التي تتناول موضوعات أخرى، أما عن إقحام الجنس في النص الإبداعي العربي الجديد بهدف جذب القراء أو شد انتباههم، فحدث ولا حرج، هناك الكثير من الكتابات التي تحاول استثمار الجنس كي تخفي هشاشتها، وهناك مئات النصوص الشعرية وغير الشعرية التي تتناول الآن الجنس لا لشيء إلا لتخفي هشاشتها وسطحيتها.

* ماذا عن المهجر وإطلاعك على الثقافات الأخرى ؟

-كل مبدع في رأيي هو مغترب وإن بقى في وطنه، الإبداع في الأصل ابن اغتراب، من ثم لا أعتبر نفسي شاعراً مغترباً بعد، لم يمر على وجودي في أوربا أكثر من ثلاثة أعوام، ولا أعتبر نفسي شاعراً مهجرياً كما كنا نسمى الشعراء قديماً، بل إن اغترابي عن الوطن جعلني أستعيد خبرات شخصية ربما لم أكن لألتفت إليها لو بقيت في مصر، والدليل على ذلك ما تجلى واضحاً في مجموعتي الشعرية الأخيرة "بكدمة زرقاء من عضَّة النَّدم" من قصائد أستعيد فيها طفولتي في مصر، ورؤيتي الشخصية الراهنة لما ترك بداخلي من احتكاكي بهذا العالم الذي ربيت ونشأت فيه، إطلاع المبدع على ثقافة أخرى هو كشف جديد لثقافته التي جاء منها، لذا أضاء لي احتكاكي بالثقافة الأوربية ثقافتي العربية من جديد، وخلق لي آلاماً جديدة، ومسرات جديدة.

* ماذا تعني لك قصيدة "كنبع وحيد في الرمال"؟

-ربما تندهشين حين أقول إن هذه القصيدة تحديداً لا أعتبرها من قصائدي المفضلة أو القريبة من روحي، وليس لأنها نالت جائزة من مؤسسة الهجرة الهولندية(El Hizjra-Literatuurprijs 2005) سأعتبرها ذات أهمية خاصة وسط قصائدي الأخرى، بل على العكس، حين شاركت في مسابقة الهجرة شاركت بهذه القصيدة إلى جوار عدد من القصائد الأخرى، منها "يدها التي في مكمن ضعف" و"مغناج اسمه الشعر" و"أنا السكين التي تئنُّ تحت يدي وهي تذبح الذكرى"، والذي يطلع على هذه النصوص الأربعة سيرى أن قصيدة "كنبع وحيد في الرمال" ليست أفضل هذه القصائد، بل هي في الحقيقة أقلها، ولكن هذه هي الجوائز، لا تعني شيئاً غير أن أهواء لجنة التحكيم اختارتها دون غيرها لأسباب تخصهم وحدهم.

* هل لك ان تطلعنا على مشاركاتك في مهرجانات شعرية في هولندا وغيرها، وماذا حصلت من وراء هذه المشاركة؟

- شاركت في مهرجان الشعر العالمي بمدينة روتردام الهولندية(Poetry International Festival) في العام الماضي 2005، وجاءت مشاركتي بعد أن اطلعت إدارة المهرجان على عدد من قصائدي التي ترجمت إلى الإنجليزية ونشرت في مجلة "بانيبال" الشهيرة، وكنت الشاعر العربي الوحيد خلال هذه الدورة والتي جاورت فيها عدداً من الشعراء الذين جاؤوا من مختلف بلدان العالم، هذا الاحتكاك أضاف لي الكثير، حيث أنها كانت المرة الأولى لي التي أشارك في مهرجان بهذا الحجم وهذه الأهمية، وكان الاحتكاك الأول لي أيضاً بالعديد من الشعراء الآتين من ثقافات مختلفة، على الرغم من أنني قرأت قصائدي في عديد من المدن البلجيكية والهولندية قبل مشاركتي بالمهرجان، إلا أن احتكاكي بالشعراء الآخرين في هذا المهرجان مثل لي الكثير، وأطلعني أيضاً على راهن الشعر في بلدان عديدة لم أكن لأحلم بالتواصل مع شعرائها أو مبدعيها.

* ثمة مفردات تكررها مثل الملاك والملائكة برأيك ما هو الدال والمدلول من وراء هذا التكرار اللافت ؟

- لديَّ نص قريب جداً إلى قلبي وروحي هو "يوم في حياة ملاك صغير"، حاولت من خلاله طرح عدد من الأسئلة الوجودية التي شغلتني وقتاً طويلاً، ولأن كل شاعر بداخله طفل يتماهي مع الملائكة في أفعاله ولهوه، وجدت نفسي أتماهي أكثر من مرة مع الملاك بوصفه روحاً مطهرة، قادراً على طرح أسئلة مشاكسة يصعب على الوعي الإنساني أحياناً طرحها على حقيقة وجوده، من هنا تجدينني أقول في أول قصيدة بمجموعتي الشعرية الأخيرة تحت عنوان محاولة للطيران":

"لم أكن أقلدُ الطَّيرَ
فليسَ لي أجنحةٌ
لكنَّني كنتُ أجرِّبُ صدْقَ أمِّي
قالتْ لي يوماً:
الأطفالُ ملائكةُ اللهِ
على الأرضْ."

وأردت لهذه القصيدة الصغيرة أن تكون بمثابة افتتاحية للمجموعة الشعرية ككل، لأن الحالة الشعرية التي تطرحها المجموعة هي حالة استعادة مستمرة ودائمة لطفولة مسلوبة.

* هل تطرح في قصائدك أسئلة الوجودية؟

-تتلخص أسئلة الوجود لدي في كلمة "أنا"، هذه الكلمة تختصر كل همومي، باعتبار أن (أناي) تشمل في جوهرها كل الآخرين، أنا في علاقاتي مع ذاتي، مع العالم، مع الآخر، وهي مبتدأ قصيدتي ومنتهاها، أعتبر أن كل نص أكتبه هو صورة مني، حتى لو كنت أتحدث فيه عن الآخر، هذا الشعور يجعلني أوقن أن ما أكتبه هي حيوات أخرى داخلي، إن لم أكتبها سريعاً فسوف تموت بموتي، لذا أعتقد أن ما أكتبه الآن معبر عن المرحلة التي أحياها، شعريا وثقافيا وحياتيا.

الغد- الأردن
1/6/2006