عندما دُعي الموسيقي العراقي نصير شمة للانضمام إلى لجنة تحكيم مهرجان روتردام للفيلم العربي هذ السنة، احتج البعض: «أفليس الأولى به أن يكتفي بالعزف؟» وكأن التخصص في الموسيقى ينفي تذوق السينما، وأكثر من ذلك، من مشاريع الفنان العراقي إخراج فيلم عن زرياب، ذلك الذي شكل جسرا حقيقيا بين الثقافة العربية والغربية، يعطي من خلاله فكرة عن إسهامات العرب في الفن الإنساني.
نصير شمة لم يحتجّ على الانتقادات التي تعرض لها في الصحف، بسبب انضمامه إلى لجنة تحكيم مهرجان روتردام، بل حمل عوده في حفل الاختتام وأطرب الحاضرين، قبل أن يطير إلى إسبانيا في انتظار أن يكتمل جزء من حلمه بافتتاح بيت العود في أبوظبي: «دائما أنظر إلى ما بعد». اللحظة بالنسبة إليه هي رحم الغد. واللحظة التي حلم فيها بمشروع إقامة بيت للعود العربي ببغداد وتكوين جيل من العازفين المنفردين ـ فجاءت الحرب لتجهضها ـ تحولت إلى واقع في العديد من البلاد العربية سنوات من بعد، في انتظار تحقيق الحلم الكبير في العراق.
كيف استطاع نصير شمة من الخروج من شرنقة المنفى التي فرضتها عليه أوضاع العراق القاسية قبل وبعد الاحتلال؟ يقول: «أنا أساسا لا أعرف المنفى، فالبلد الذي لا أحسه امتدادا للعراق لا أعيش فيه». وعلى الرغم من القرار الذي اتخذه لدى مغادرة العراق من ألا يمكث في أي بلد أكثر من خمس سنوات، إلا أن القاهرة تحولت مع الأيام إلى مرتع ومنطلق لكل مشاريعه: «كنت سأغادر القاهرة إلى برشلونة لكن إصرار الجميع على بقائي جعلني أتراجع عما خططته منذ بداية ترحالي».
عام 1989 جاء نصير إلى مصر من تونس، حيث كان مدرسا في المعهد العالي للموسيقى. في تونس كانت تجربته مختلفة، فالعود كان مادة ضمن مواد أخرى، لكن في القاهرة أصبحت الآلة التي يعشقها محورا لكل اهتماماته. هناك بدأ بتعليم الموسيقى وتقديم عروض مع فرقة تضم 30 عازفا. وهناك أسس أول بيت للعود العربي، ورهانه الأساسي أن ينجح في تكوين أجيال جديدة من العازفين يتخصصون في آلة واحدة ليتخرجوا عازفين منفردين «سوليست» بعد عامين فقط من الدراسة. بعد التخرج كان كل طالب يتعهد بتخريج 20 سوليست: «فكرت بإقامة بيت العود لمحاربة الأنا في داخلي. فالذين سبقوني احتكروا المهارات لأنفسهم وكان عليّ أن أسعى للإسهام في نشرها وتعميمها».
بيت العود العربي، هو المؤسسة التي تلقن عزف العود وفق قياسات علمية ورؤية جديدة للتعامل مع هذه الآلة التي عرفها الإنسان منذ عهد الأكاديين. وقد تحولت القاهرة، بعد أقل من ثماني سنوات، إلى أرضية احتضنت بيت العود، الذي رأى فروعا له تزدهر في العديد من البلدان العربية والغربية، وتضم طلبة من شتى الجنسيات. لقد تحول العود إلى هوية للثقافة العربية مثلما كان الأمر في الأزمنة المنصرمة: «كان حلمي أن أزرع في كل بيت عربي موسيقيا». وتحوّل العزف على العود على يديه إلى فن جماهيري يجلب الحشود «هل تصدقين أن حفلا قدمته في عمان كان الحضور فيه يشبه حضور مباراة لكرة القدم؟». فالعزف على العود بمفرده تقليد يبدو غريبا على أمة تردد الكلمات مع مغنييها، وبالتالي تغدو عملية إرساء وصياغة الذائقة الموسيقية المشدودة فقط إلى العزف عملية صعبة: «على الدول العربية أن تؤسس هذه الذائقة عبر وضع سياسة تباشر فيها ابتداء من رياض الأطفال لتستمر حتى الجامعة». بالنسبة لنصير شمة ليس هناك شيء اسمه تردي مستوى الجمهور. فالجمهور«ذكي ونبيل ويستحق العناء والتعب لأنك تستطيع توجيهه والارتقاء به طالما تمكنت من دواخله». أما عن هبوط مستوى الفن، فحديث «أقرأه من ألف سنة، منذ أن كان الناس يشتكون هبوط الغناء للخليفة الرشيد، فيجيبهم أن هناك حدسا جماعيا متعلقا بالذائقة الجمالية وهو الذي يتولى الاحتفاظ بالأغاني الجيدة في الوجدان». يروي شمة أنه ما ذهب إلى مدينة إلا ووجد القاعات مكتظة، «فمن كثرة القبح الموجود أصبح الناس يبحثون عن الجمال ويتجهون إليه».
العزف ليس وحده الذي أسبغ كل تلك الشهرة على الفنان العراقي نصير شمة، فللدراسة الموسيقية التي ينكب عليها دور كبير في الشهرة التي وصل إليها. لقد واظب لمدة أربع سنوات على دراسة المخطوطات التي تركها الفارابي والتي كانت موجودة بإحدى مكتبات آيرلندا. في واحدة من تلك المخطوطات اخترع الفارابي «العود المثمن» منذ ألف عام، وبهذا العود وصل إلى تضمين كل الأصوات البشرية. والأصوات البشرية مقسمة إلى طبقات، وكل التقسيمات تقع ضمن حدود «العود المثمن» الذي لم يُنجز في حياة الفارابي، ولا سُطر في مؤلفه الموسيقي الكبير. لقد عمد نصير شمة إلى صنع العود بثمانية أوتار مع صانع أعواد فلسطيني يعمل بالعراق، وعزف عليه، أي حقق عمليا حلم الفارابي: «إضافة وتر أو نقصان وتر لا تعني شيئا ذا أهمية. أحيانا استخدم هذا العود في حفلاتي كهدية للجمهور، فعزفه أصعب من العزف العادي لأن به أربع مساحات صوتية في حين يحتوي العود العادي على مساحتين».
اجتهادات لا تلهي الفنان عن الهدف الأصلي الذي لا يحيد عنه. عن بيت العود الجديد في أبوظبي يؤكد نصير شمة: «إلى جانب المدرسين سأعطي دروسا بنفسي، وبعد ستة أشهر ستكون هناك نتائج ملموسة». أما عن مشروع الفيلم، فهو أولا وأخيرا إعادة الاعتبار، عالميا، لرجل أسس أول معهد للموسيقى بأوروبا فشكل جسرا حضاريا بين العرب والغرب: «نحن نشرف أماديوس وبتهوفن في السينما وكأنه ليس هناك من يضاهيهم، في حين نغيب زرياب الذي أسهم ـ لا في الفن وحسب ـ بل في الابتكار وفي المساهمة في حضارة جمالية كاملة».
فهل سيبعث نصير شمة، الآتي من عراق الحرب، أصوات حضارة كانت ذات يوم أعظم الحضارات ليقول للعالم إنها لم تنقرض بعد؟
الشرق الاوسط
18 يوليو 2007
إقرأ أيضاً: