بين فكرة ضرورة أن يكون كاتب الدراما مثقفاً، وبين إمكانية أن تسقط هذه الصفة عنه ثمّة مؤيد ومعارض، وبين الرأيين أيضاً ثمّة واقع تعيشه الدراما الخليجية اليوم لا يتصل مطلقاً بالفكرتين ولا يلتزم فيه كاتب الدراما بأي من القواعد في كتابته، مما يدخل الدراما الخليجية في دائرة التكرار والتنميط الخاطئ والكثير من السلبيات الأخرى التي تؤخذ على صناعة هذه الدراما في الخليج.
رغم ذلك فإن الاتجاه »غير المؤسس« الذي تنتهجه الدراما، أنتج بالصدفة أعمالاً درامية لامست الواقع الخليجي وحاولت معالجة تفاصيله من خلال الدراما، وربما نجحت أحياناً في التطرق لمواضيع مخبوءة وإثارتها لمعالجتها مشياً على مقولة »تشخيص المرض هو نصف العلاج«. وفي الجهة الأخرى أخفقت صناعات درامية مشابهة حتى في تقديم صورة هذا الإنسان بالشكل اللائق، لتقدمه بصورة نمطية مزعجة ومكررة، أو هي تبحث في أعماق هذا المجتمع عمّا يمكن أن يشد المشاهد وليس بالضرورة أن يقدم له واقعاً، والفرق كبير بين الإثارة الكامنة في الحالات الشاذة، وبين الواقع الذي لا يجده كاتب الدراما محفزاً على الكتابة.
هل تنتج هذه التباينات نتيجة ضبابية في الرؤية، أم هي نتاج وعي متباين لدى كتاب الدراما في الخليج لدور الدراما وتأثيرها على فكر المجتمع؟ وفي المقابل هل يتنبه المجتمع »السريع التأثر والقاصر معرفياً« للخلل الكبير أو النقص في ما تطرحه هذه الدراما أم أن هذا النقص هو ناتج بالأساس من المشاهدة اللاواعية لهذا المجتمع؟
السؤال - حسب الكاتب أمين صالح - يفترض وجود طرفين، كتّاب الدراما الذين لهم »دور في تنمية الفكر الاجتماعي«، بمعنى أنهم يلعبون دور العارف، الواعي، الموجّه، »القدوة«، وطرف آخر هم المجتمعات »القاصرة معرفياً« - مع تحفظه على هذا الوصف - التي تحتاج إلى من يغذّيها بالمعرفة والوعي والحكمة.
مثل هذا الافتراض، يرى صالح أنه لا يبدو سليماً أو دقيقاً، »فما يتصل بمجال فني مثل الدراما التلفزيونية يعاني في أغلب ما يقدمه من الخلل والهشاشة والسطحية ما تعانيه مجالات ثقافية أخرى كالمسرح والتشكيل والأدب«.
ويضيف: »المنتج التلفزيوني يحرص على أن تكون المادة الدرامية ملائمة للنزوع الاستهلاكي عند الجمهور العام، ومتفقة مع الذائقة السائدة التي اعتادت - حد الإدمان وبلا ضجر - على التراجيديات العائلية بما تزخر به من فواجع وبكائيات ومبالغات«، متابعاً : »أي خروج عن هذا المطلب، أي مغايرة، هي مجازفة لا يرغب المنتج في القيام بها«.
ويوضح صالح: »الكاتب التلفزيوني محاط بسلسلة منيعة من الرقابات«، معدداً، »المنتج الذي لا يكف عن تغذية الجمهور بما هو مكرر ومبتذل وعديم القيمة، والجمهور الذي يصيح كالطفل المدلل طالباً وجبته اليومية من القصص المألوفة، والمخرجون والممثلون والفنيون الذين ينظرون بعين الارتياب إلى كل ما هو مختلف، والصحفيون الذين يطالبون ليلاً ونهاراً بحرية الرأي والتعبير لأنفسهم لكنهم لا يرون عيباً أو تناقضاً في المطالبة - عبر مقالات انفعالية ومحمومة - بفرض رقابة صارمة على المسلسلات ومنع عرضها إن أساءت الأدب وخدشت الحياء، والجمعيات الأهلية والمهنية والدينية التي تتربّص بأي محاولة لـ »تشويه« صورة مهني (طبيب أو محام أو غيرهما) أو التعرّض لقضايا مثل الطائفية، وأخيراً - وليس آخراً - هناك الرقابة الذاتية التي يفرضها المؤلفون أنفسهم، متجنبين تقديم ما هو مخالف لتوقعات الآخرين«.
ويشدد صالح على أن لا يُفهم من حديثه تبريره للمؤلفين، والبحث عن أعذار لهم، »فأي متابع للدراما التلفزيونية يدرك أن نسبة كبيرة من المؤلفين لا يمتلكون الوعي الاجتماعي والفكري، ولا الخبرة الثقافية، ولا الحساسية الفنية. أغلبهم حرفيون، يراهنون على العلاقات الاجتماعية العامة، وعلى جهل المنتجين، وعلى خوف المخرجين من البطالة، وعلى جمهور يفضّل كل ما هو تقليدي ولا تعنيه الخاصية والجودة«.
إذاً، هل يؤثر غياب كاتب الدراما المثقف والملم بكل إشكاليات الكتابة الدرامية والمحيط بكل جوانب المجتمع على واقع الدراما الخليجية، وهل يؤثر بروز كم من القنوات الفضائية سلباً على ظهور الكاتب المميّز وتميّزه؟
يجيب صالح : »لا أعرف من تعني بكتّاب الدراما المهمين، أعتقد ان شراهة المحطات والفضائيات إلى المسلسلات الدرامية التي تغطي ساعات طويلة من البث، تجعل من الحاجة إلى كتّاب نصوص حاجة ملحّة ودائمة. وبالتالي، نحن نجد على الساحة الكتّاب الجيدين (رغم قلّتهم) والكتّاب السيئين (رغم كثرتهم)«. مضيفاً: »الساحة متاحة للجميع، لكن شرط أن تلبي هذه النصوص شروط الإنتاج«.
وحول كيفية خلق الكاتب الدرامي المميز، وتنمية مستوى وعمق كتاب الدراما في طرح الأفكار وفهم طبيعة المجتمعات وتأثير الدراما عليها يقول صالح: »على الكاتب أن يعي طبيعة وخاصية المجال الذي يعمل ضمنه، سواء من ناحية المضمون والأفكار والحبكات ورسم الشخصيات والأحداث، أو من ناحية الشكل والأسلوب والتقنية«، ويضيف: »هذه أساسيات لابد من توفرها في أي كاتب سيناريو. لكن أيضا يتعيّن عليه أن يمتلك تجربة حياتية وثقافية عميقة، إلى جانب الحساسية العالية، نفسياً واجتماعياً، في التعامل مع شخوص درامية متنوعة ومتباينة« متابعاً: »إن العمق في طرح الأفكار يستلزم امتلاك المعرفة الحياتية والثقافية التي بدونها لن ينتج المؤلف غير الضحالة والسطحية«، ولكن - يستدرك - ينبغي أن ندرك أن العمل الدرامي التلفزيوني ليس فردياً، إنما هو نتاج وحدة كاملة من العناصر الفنية ليس النص غير عنصر مشارك، أساسي لكن ليس له السيادة المطلقة«.
وحول جهة الكتابة الدرامية في الخليج ما إذا كانت تتجه للتاريخي أو الواقعي، يرى صالح أن الكاتب لا يملك الكلمة الأولى والأخيرة، أي أنه ليس من يقرّر نوعية الدراما التي يمكن للمحطات أن تقدمها. »المنتج هو من يقرّر ذلك«. ويضيف »إذا شعر هذا المنتج أن الأعمال التراثية والتاريخية هي المطلوبة شعبياً، وهي الرائجة جماهيرياً، فإنه سيبحث عن عمل تراثي«.
متابعاً : »بصورة عامة، وفي الوقت الحاضر فإن أغلب المنتجين يفضلون الأعمال الاجتماعية بسبب انخفاض كلفتها الإنتاجية من جهة، وإقبال الجمهور عليها من جهة أخرى. وهم يتجنبون الأعمال التاريخية والتراثية لأنها تتطلب ميزانية عالية. لذا فإن كتابة أعمال تراثية هي مجازفة غير مضمونة«.
وعن طرح الدراما البحرينية والخليجية عموماً على المستوى الفكري، لمشاكل المجتمعات، وما إذا كان يقدم صورة حقيقية عنها، يضيف صالح: »الكثيرون يطالبون الدراما المحلية والخليجية بأن تعرض وتعالج قضايا الواقع والمجتمع، لكن بمجرد أن يقترب عمل من الواقع الحقيقي ويمس قضية أساسية، حتى نجد حالة غير طبيعية من الهياج والسعار احتجاجاً على جرأة ووقاحة العمل الفني لتصويره الجانب السلبي والبشع من الواقع، متهمين العمل بأنه يشوّه صورة المجتمع، ويفضح ما ينبغي ستره من ممارسات وسلوكيات، مطالبين بمنع عرضه«.
ويتابع: »تقارير وزارة الداخلية والمحاكم والصحافة تنشر يومياً قضايا القتل وشبكات الدعارة والسرقات والحوادث وغيرها من القضايا التي يزخر بها مجتمعنا، كما الحال مع بقية المجتمعات على الكرة الأرضية. لكن ما أن يبدي عمل درامي اهتمامه بإحدى هذه القضايا، ويمس مكامن الخلل في الواقع، حتى يعلو الصياح الهادر: هذا شيء دخيل على مجتمعنا الطاهر البريء، هذا شيء لا يحدث عندنا، هذا تحريف للواقع، هذا فضح لا يليق، هذا جرح لمشاعرنا الرقيقة، هذا إيذاء لحواسنا الرهيفة، هذا غسيل وسخ لا ينبغي نشره على الآخرين، هذا تشويه لسمعتنا، إلى آخر مظاهر النفاق الاجتماعي ومحاولات التضليل والتزييف«، موضحاً: »بالطبع نحن نرفض الابتذال والتسطيح في تناول وعرض مثل هذه القضايا، لكن ينبغي أيضاً أن ندين الأصوات التي تطالب بعرض مشكلات المجتمع وفي الوقت ذاته تخاف من الفضيحة إن بادر عمل ما إلى تصوير إحدى هذه المشكلات، الصورة الحقيقية لأي مجتمع هي الصورة التي تشمل النقائض والأضداد كلها، ومن لا يجرؤ على النظر إلى هذه الصورة الحقيقية، عليه أن يكف عن لعب دور القاضي، لأنه سوف لن يكون عادلاً ونزيهاً«.
إذاً، هل تلعب الدراما دوراً مهماً وحقيقياً في هذا الاتجاه، أعني توريث المشكلات الاجتماعية أو القيم الفكرية والجمالية من وإلى المجتمعات، ثم هل يمكن أن الدراما أداة تحفيز وإنتاج لمثل هذه المشكلات؟
»على الإطلاق ليس هناك أي تأثير للدراما على المجتمع«، يقول صالح، ويضيف: »من لديه استعداد للانحراف والجريمة لن ينتظر أن يؤثر فيه عمل سينمائي أو تلفزيوني، بل يكفيه الدافع أو السبب أو الفرصة السانحة ليرتكب فعلته«. ويوضح: »لو سلمنا بإمكانية وقدرة العمل الدرامي على التأثير في جمهوره، فلماذا يمارس تأثيره على شخص واحد وليس كل الجمهور؟ لماذا لا يخرج الجمهور كله، من الصالة أو من البيت، ليمارس عنفه وشروره وجرائمه؟ إذن لابد أن المنحرف أو المجرم كان لديه الاستعداد والسبب والدافع (الاجتماعي أو العائلي أو النفسي) لارتكاب انحرافه أو جريمته، وإلا لتحولنا جميعاً، نحن المدمنين على أفلام الأكشن والعنف والرعب، إلى قتلة أو منحرفين أو مجانين«.
الأيام
22 يونيو 2008