حاوره: ناجح حسن
(الأردن)

أمين صالحتشكل مؤلفات الأديب البحريني أمين صالح منجزا فريدا في الإبداع، ليس داخل وطنه البحرين فحسب، وإنما تتعدى ذلك إلى المشهد الثقافي العربي بأكمله، فهو صاحب الكثير من الأعمال القصصية والروائية والمسرحية والسينمائية والنقدية.
أدت كتابات صالح دورا أساسيا في الحراك الثقافي والفني في منطقة افتقدت إلى تلك الحقول الإبداعية التي خاض صالح غمارها في وقت مبكر بعمق وشغف نادرين، بحيث قادت اسمه لأن يتبوأ مكانة مرموقة في فضاء الثقافة والفنون، وعلى وجه الخصوص السينما التي قدم من خلالها أكثر من مؤلف وسيناريو كان آخرها الفيلم الروائي القصير "عشاء" ، وقبل ذلك فيلم "الحاجز" الذي عُدَّ أول فيلم سينمائي بحريني طويل حققه المخرج بسام الذوادي.
قدم صالح أربعة كتب متخصصة في السينما مستمدة عن أصول عالمية متباينة هي على التوالي: السينما التدميرية لأموس فوجل، و النحت في السينما لأندريه تاركوفسكي، وحوار مع فيدريكو فيلليني لجيوفاني جراتزيني، بالإضافة إلى كتاب الوجه والظل في التمثيل السينمائي .. وجميعها تبرز تفاعله مع ألوان من سينمات العالم المتفردة بألقها المميز جرى اختيارها بذائقته الفطنة التي جالت في مدارس وتيارات الفن السابع العريضة وعمل من خلالها على سد العجز الفاضح الذي تعاني منه المكتبة العربية في هذا النوع من الإصدارات.
يقتصر هذا الحوار على اشتغالات أمين صالح في السينما، ويكشف عن الجانب الآخر في قائمة إبداعاته الطويلة.

- ماذا عن تلك البداية التي قادتك إلى التواصل مع الفن السابع؟

- بدأت علاقتي بالأفلام عن طريق المشاهدة في الصغر كنوع من التسلية لذاك الطفل الذي أخذ يهيم بسحر حركة الناس وبطولاتهم وقصصهم الدرامية الآتية من على الشاشة البيضاء في طقس مغلف بعتمة الصالة.. لكن بمرور السنوات غدا الطفل شابا وأخذ يطرح أمام نفسه الأسئلة الصعبة حول وظيفة ودور وأهمية هذا النوع من التسلية القادر أن يصبح كفعل إبداعي متعدد الأشكال.
لقد شعرت بإحساس تقليدي يفلت من داخلي بأن هذه العوالم التي يفيض بها سحر الشاشة البيضاء لا يأتي بالصدفة أو السهولة التي يجري فيها عرض الفيلم عقب إضاءة الصالة، وإنما يقف خلفها مبدعون بذلوا المال والجهد الشاق الفردي والجماعي في العمل والدراسة من أجل تقديم إنجازاتهم السينمائية لتصل أفلامهم إلى هذه الصالة التي اعتدت على ارتيادها برفقة الأهل والأصدقاء.

أمين صالحومن هنا رغبت بمتابعة هؤلاء السينمائيين الأفذاذ سواء كانوا كتابا أو نجوما أو مخرجين، وأخذت علاقتي تتدرج في فهم السينما من تسليةٍ إلى وسيلة تعبيرية تمتلك مفرداتها الجمالية والفكرية بحيث قادني ذلك إلى إحساس بأن الواقع السينمائي يبدو أحيانا أكثر صدقية من الواقع نفسه.
أستطيع القول إن انتمائي إلى السينما كان بفعل علاقتي بطروحات لعناصر مثل المخيلة والأحلام والإبداع، وهو ما جذبني إلى التعرف على الفن السابع (السينما) دون الاكتفاء بالفرجة أو التلقي السهل عبر الشاشة فحسب، وإنما إلى السير باتجاهات ورؤى صانعيها من أصحاب المدارس والتيارات العريضة التي تكشفت عن تنوع إبداعي ثري.

- كيف اقتحمت مجال العمل في السينما كنشاط إبداعي في تلك الحقبة وأنت في بيئة من النادر أو من غير المألوف أن تتعاطى مع هذا النوع من الفن، وتفتقر إلى البنية التحتية لعناصر الفن السابع مثل التمويل أو توافر الأستوديوهات وصالات العرض الملائمة؟

- هذا كله دفعني بحماسة الشباب إلى ضرورة أن أتوجه لدراسة السينما والالتحاق بقافلة صناعها، بيد أن الظروف العائلية والمادية الصعبة وقفت عائقا أمام استكمال هذه الرغبة التي ظلت في دائرة المشاهدة والمتابعة النقدية لقطوف من نتاجاتها المتباينة.

وبحكم عوامل العرض والتوزيع السائدة ليس في منطقة الخليج فحسب، وإنما في سائر أنحاء الوطن العربي إن لم يكن بالمعمورة أيضا، ظل تواصلي بقامات السينما العالمية والتي كرستها أقلام النقاد، شاقا ومحدودا.. وبجهود ذاتية وعن طرق مبتكرة في الحصول على نسخ من بين تلك الإبداعات الفيلمية وذلك بدافع الشغف والحرص على المتابعة، وهو ما يحسب لفورة التقنية التكنولوجية التي وفرتها أشرطة الفيديو و السي دي و الدي في دي ، الامر الذي قادني في حقبة الثمانينيات إلى الكتابة السمعية البصرية لصالح الشاشة التلفزيونية حيث العمل في السينما في البحرين لم تكن قد بدأت إطلالته بعد، وبطبيعة الحال استفدت من تجربتي التلفزيونية التي لم تثمر سوى السهرات والمسلسلات والبرامج في القدرة على الولوج إلى عالم السينما الذي كان حلمي الأكيد.. من هنا استطعت في بداية التسعينيات من القرن الفائت اقتحام المجال السينمائي الذي تبلور بكتابة السيناريو لدى قيام المخرج بسام الذوادي بالتحضير لإنجاز فيلمه الروائي الطويل الأول آنذاك والمعنون "الحاجز" ، ومن ثم تكررت محاولاتي وصولا الى ما قدمته في احدث اعمالي سيناريو الفيلم القصير عشاء الذي التقطت فكرته من خبر في صفحة الحوادث داخل صحيفة عربية.

- كيف تصف حال الثقافة السينمائية ونوعيات العروض المقدمة لرواد الصالات وفيما إذا كانت هناك عروض موازية لأفلام السوق المحلية؟

- تميزت البحرين عن سائر بلدان الخليج بريادتها في إنشاء عدد وفير من صالات العرض السينمائي منذ وقت مبكر، حيث كانت قاعات العرض السينمائي تعرض الكثير من الأفلام العربية (المصرية) والأجنبية (الاميركية)، و(الهندية) طبعا.. واغلب تلك الأعمال قادم من استوديوهات القاهرة وبومباي وهوليوود التي تستهدف افلامها دائما الإثارة والتشويق والكوميديا والخيال العلمي، بيد أن هذا لا يحول أحيانا من عرض أفلام مغايرة ومميزة لقيت استحسان النقاد وإعجاب رواد الصالات بالعالم على غرار أفلام مثل: زوربا اليوناني و معركة الجزائر ، إلى جوار أفلام أوروبية أخرى لمخرجين قامات، مثل انجمار برجمان ومايكل أنجلو انطونيوني وديفيد لين.

ومع دخول أشرطة الفيديو إلى السوق البحرينية بات بامكان المتلقي أن يعثر على ضالته من الأفلام الكبيرة التي قدمتها استوديوهات السينما في فرنسا وايطاليا والاتحاد السوفياتي السابق واليابان وإسبانيا وبلدان الشمال الإفريقي والقادمة أيضا من أميركا اللاتينية رغم هيمنة وطغيان الفيلم التقليدي على المشهد السينمائي برمته.

كما يحسب للمراكز الثقافية الأجنبية التي تتبع السفارات العربية والأوروبية في البحرين دورها في تمكين المشاهد البحريني من حضور إبداعات سينمائية لافتة بفعل احتفاليات وأسابيع الأفلام الدورية على مدار العام.. كما إننا استطعنا تكوين ناد للسينما يعرض الأفلام النوعية المختلفة بشكل أسبوعي مصحوبة بنشرة متخصصة تتعلق بالفيلم وصانعيه وتعرّف المشاهد بأبرز تيارات ومدارس السينما العالمية سواء كانوا مخرجين مستقلين أو من رواد الموجة الفرنسية الجديدة في السينما أو الواقعية الجديدة في السينما الإيطالية.. كما جرى عرض وتقديم أكثر من ملف نقدي خاص بالمخرج الفرنسي ذائع الصيت جان لوك غودار، أو بمفاهيم ونظريات جماليات السينما الفقيرة والتدميرية.

- ماذا عن العوائق التي واجهتكم أو ما تزال تواجه صناعة الأفلام في البحرين، وهل أمكن تجاوزها اليوم في ظل وجود هذا الكم من إنجازات المخرجين الشباب؟

- عقب عرض فيلم "الحاجز" وما أتبعه من إنجازات محدودة.. "حكاية بحرينية" .. "اربع بنات" .. يبدو الأمر كما لو انه حلم وتحقق.. لكن للأسف لم تستمر عجلة صناعة الأفلام البحرينية بحيوية تلك البداية التي كنا نعلق عليها آمالا عريضة، وهذا ناتج عن الظروف الصعبة رغم أننا نعمل في بلد خليجي تتوفر فيه الإمكانيات المادية أو يمكن تذليلها.. ومن باب الطرافة اذكر أننا ذات مرة ولدى مشاركتنا في واحد من المهرجانات السينمائية العربية الدولية في القاهرة سئلت على هامش عرض فيلم الحاجز عن أسباب غياب صناعة السينما في بلدنا وأجبت إنها الظروف والامكانات المالية الصعبة.. طبعا هنا ضجت الصالة بالضحك للمفارقة الناشئة عن عدم استطاعة بلد خليجي توفير ميزانية لدعم أفلامه.

- حدثنا عن دورك في التنشيط السينمائي سواء عبر تجربة نادي البحرين للسينما التي يرى كثير من النقاد انها من التجارب اللافتة في الثقافة السينمائية في الوطن العربي او من خلال الكتابة النقدية في الصحافة؟

- تنوعت ذائقة رواد نادي البحرين للسينما بين أفلام شقت طريقها للشهرة العالمية وأصبحت اليوم أمام ناظري المتلقي البحريني رغم صعوبة فهمها أحيانا متعة وطقساً احتفالياً جذاباً، وهو ما جعل الواحد من الأعضاء يندفع بأقصى طاقته إلى متابعة أعمال صانعيها والتسابق على اقتناء أشرطتها وغدت أسماء مثل: الروسي أندريه تاركوفسكي والألماني وورنر هيرتزوغ والإيطالي بيار باولو بازوليني والهندي ساتيجت راي جزءا أساسيا من مكونات مكتبة النادي يجري تداولها وعرضها بين الأعضاء وأصدقائهم بشكل دائم.

بدأت أكتب في الصفحة الثقافية من خلال ركن مخصص للتعليق النقدي على الأفلام، وفيه كنت أختار مواضيعي من الأفلام السائدة التي تعرض في السوق والتي أرى أن بعضها كان يحمل قيمة ما جمالية أو فكرية، وأنطلق منها بالتفكيك والتحليل، وأقدم من خلالها الكثير من المعلومات التي تتعلق بهوية الفيلم وصانعه، مسلطا الضوء على نجومه ومشوارهم السينمائي والمواقف الادائية التي قادتهم إلى الشهرة وسوى ذلك من نوعية الكتابة الصحفية.. ومع مرور الوقت أصبت بالخيبة من عدم التفاعل الحيوي من جانب القراء بما أنشده من كتابة سينمائية رغم انه وصلتني رسائل قليلة تعقب على مناقشتي للفيلم، بيد أنني كنت اطمح إلى شيء آخر والتلاقي مع سينما أخرى مجهولة، ووجدت في كتاب السينما التدميرية الذي اشتغلت بترجمته بتأنٍّ وجهد مضاعف بعيدا عن المواكبة السيارة للأفلام، ولفتني ذلك الثراء الفريد في نماذجه المختارة للدراسة وجميعها بالطبع من الصعب الحصول عليها في سوق سينمائية في منطقة الخليج، فأغلبيتها كانت لأفلام مخرجين ذائعي الشهرة عالمياً على غرار: أنجلو ثيو بولوس وفرنسوا تروفو وفيم فاسبندر وسيرغيه برادجانوف.. وبعد رحلة صعبة من البحث وجدنا ضالتنا بالعديد من تلك القامات السينمائية وأخذنا في إصدار نشرة نادي السينما المعنونة أوراق سينمائية المكان الملائم لنشر تلك التقييمات النقدية سواء كان ذلك ترجمة أو رؤية نقدية، وشاركني بهذا الجهد نخبة من الزملاء في النادي الذي كان نافذتنا على الأفلام المغايرة التي يتجنب الموزع السينمائي عرضها في الصالات المحلية.

- طبعا أثمرت هذه التجربة عن حراك آخر في مجال اقامة المهرجانات السينمائية، وكنتم في البحرين من اوائل الدول الخليجية التي نظمت مهرجانا ضخما للسينما العربية العام 2000. برأيك لماذا توقفت مسيرة المهرجان؟

- قبل الحديث عن المهرجان اود الاشارة الى ان نشاطنا السينمائي التثقيفي كان يتعدى النادي إلى بيوت الأصدقاء، حيث كنا نختار فيلما معينا نلتقي على مشاهدته في بيت زميل، ثم نقوم بحوار نقدي يشارك فيه الجميع في ما يشبه الندوة النقدية المتخصصة إلى أن اتيحت لنا الفرصة في توسيع دائرة اهتمامنا لتبلغ إقامة المهرجانات السينمائية على الطريقة الدولية، واجزم بالقول إننا نجحنا بذلك لولا بعض تلك العثرات التي لا بد منها في هذا المسيرة من الثقافة السينمائية، حيث قدمنا وللمرة الأولى العام 2000 أول مهرجان ضخم للسينما العربية في البحرين تحت اسم مهرجان البحرين للسينما العربية المستقلة شارك فيه أغلبية النقاد والمخرجين العرب على امتداد رقعة الوطن العربي، بيد أن ظروفا عديدة أعقبت المهرجان حالت من تكراره.. ولئن كنا ما نزال نطمح إلى استعادته بصورة أخرى تختلف عما نراه حاليا من تعدد المهرجانات العربية.

لا شك أن واقع مهرجانات السينمائية اليوم بحاجة إلى إعادة تقييم ودراسة للحؤول من التكرار من ناحية، ولإعطاء الهدف الأسمى من إقامة هذا النوع من الاحتفاليات أبعادها المرتجاة من ناحية أخرى، وصولا إلى خلق ذائقة سينمائية من اجل تحفيز صناعة أفلام في بلدان الخليج.

لا أنكر انه كان لي سابقا تحفظات في مسألة إقامة مهرجانات بمنطقة الخليج وتحديدا في بلدي البحرين، لحرصي على تقديم نموذج يبغي الوصول إلى الغاية الأساسية من إقامة المهرجان في تفعيل الحراك السينمائي أولا، وان يجري تقديم هذه المصاريف الباذخة إلى صندوق خاص يدعم نتاجات السينمائيين الشباب.. ومن الطبيعي أن أشير إلى أنني كنت لا أحبذ أن يجري التركيز على إبهار النجوم في المهرجان.

وجرى سجال طويل بيني وبين صديقي المخرج بسام الذوادي في مثل هذه الأمور، وكنا نرغب أن يكون لدينا مهرجان بسيط بميزانية تقشفية يجري فيه تمويل أفلام متنوعة لشباب طامح غلى خلق صناعة سينمائية بأشكالها التسجيلية والروائية والتجريبية.

- ماذا عن خريطة المشهد السينمائي في البحرين اليوم، خصوصا ونحن نلمس في مهرجان الخليج حضورا كثيفا ومتنوعا لأفلام جيل الشباب.. وهل ترى ان من بين تلك المواهب من يحمل بذرة الابداع في مستقبل الفيلم البحريني؟

- حصيلة ما هو موجود من أفلام في البحرين اليوم كان بفعل هواة، لكنها تفتقر إلى الوعي الحقيقي بوصفها مقدمة لأعمال لاحقة نجحت إلى حد ما من خلال المخرج بسام الذوادي وأقرانه في حفنة الأفلام القصيرة، واشعر مع وجود هذا الكم الوفير من المهرجانات بالمنطقة بإطلالة محاولات بعضها للأسف ما يزال يتعثر وغير متجانس، إلى جوار تلك الأعمال الفردية التي تحرص على النهوض بوعي السينمائي الحقيقي.

بسام الذوادي ما يزال حريصا على التجديد والابتكار والانفلات من خارج دائرة السينما العربية التقليدية، لكن مشاريعه دائما ما تصطدم بالعوائق التمويلية أو ذائقة الجمهور والرقابة وفي التقاليد الاجتماعية وعدم توفر منتج سينمائي يجازف باقتحام صناعة الأفلام أو الاستثمار فيها، وأرى أن الدولة مطالبة بأن تعوض هذا النقص أو الغياب ولو بميزانيات متقشفة لدعم أفلام أولئك المخرجين الشباب وتحفيزهم على صناعة الأفلام.

- كقاص وروائي.. كيف تنظر الى جدلية العلاقة بين السينما والادب عموما؟

- إلى زماننا الحالي والعلاقة بين الرواية والفيلم (السينما) تتنازع اهتمامات صناع السينما، وكانت تتخذ موقف الرافض تماما لهذا التدخل نتيجة للتحولات والاختلافات والتمايزات عن الوسيطين في الوقت الذي كنت تجد فيه المؤلف الذي يمنح المخرج الرواية ويقول له لك الحرية المطلقة في الاختيار والتصرف.

معلوم أن السينما لغة بصرية سمعية، والأدب لغة تعمل على تصوير مفردات الواقع بالكلمات، فالصورة إذن مشتركة وحضورها يتطلب وجود التجاذب والتقنية واللغة، وبالتالي عندما ندرك هذا التمايز والفرق يبدأ التعامل مع السينما والرواية بشروط وتقنية العصر السائدة.

الأدب أثّر كثيرا في السينما من خلال أعمال جيمس جويس وبروست وشكسبير وتولوستوي وشتاينبك وفوكنر وماركيز وآلان روب غراييه، وبعض الذين عاصروا السينما اخترقوا هذا الحقل الإبداعي كتابة وممارسة، وتلحظ مثل هذا التأثير في عناصر المونتاج والاختزال والحوار والانتقالات وتبادل الأدوار والأمكنة وتوظيف مفردات الزمان وكيفية البناء الدرامي بلوغا إلى المشهدية المرجوة.. وبالمقابل فالرواية تأثرت بحدود في السينما، وانتشرت نظريات المونتاج التي وضعها غريفيث وايزنشتاين، وهناك أيضا ذلك الارتباط الحقيقي في الرواية الجديدة التي اشتغل عليها مخرجو تيار الموجة الفرنسية الجديدة.. لا يوجد عندي أي تحفظ في أن تتحول الرواية إلى الفيلم أو العكس. أتمنى أن اعثر على فيلم آخر تانغو في باريس بين دفتي كتاب.. تحويل العمل إلى رؤية خاصة مسألة تنطوي على علاقة شديدة التعقيد، وهي تمتد إلى بدايات عهد السينما وصولا إلى هذه اللحظة، وما تزال من دون حسم حقيقي. ونستذكر بهذا الصدد صرخة همنغواي: إنها ليست رواياتي .. وبدوره نجيب محفوظ لم يكن ليتدخل في السيناريو لأي عمل مستمد عن رواياته رغم براعته بهذا المجال، لأنه أدرك بفطنته إن مبدعا آخر بات صاحب العمل الجديد نتاج هذه العلاقة المتشابكة بين الادب والسينما.

- حملت اصداراتك عن السينما الكثير من الالتزام في نموذج ما اصطلح على تسميته سينما المؤلف .. بيد ان تخصيص كتاب عن دور الممثل في الفيلم يصب في دائرة الاهتمام بالظاهرة النجومية التي تغلب على السينما السائدة .

- لست ضد مبدأ النجومية الذي أنعش سينمات عالمية كثيرة.. لكن المعضلة الأساسية أو المعنى السلبي لهذه الظاهرة أننا إزاء ظواهر نجومية تتعمد الشكلية لا تزيد اهتماماتها على تلك الصورة الفارغة للبطل ومن دون أي اعتناء بمبدأ الخوض في غمار صناعة الأفلام.. انظر مثلا إلى النجم الاميركي روبرت دي نيرو، أرى انه ممثل حقيقي يمتلكه شغف حقيقي بالسينما ويتطلع إلى دعم أفلام الكثير من الشباب الذين يواجهون عوائق أمام دخول الفن السابع، فقد انشأ مهرجانا سينمائيا لجميع الثقافات على غرار النجم روبرت رد فورد ومهرجانه ذائع الشهرة سندانس، حيث أصبحت مؤسسة قائمة بذاتها تحتذى في مجال التعاطي والاحتكاك بين المكرسين وأصحاب المواهب، وأخذت على عاتقها الارتقاء بسينمائيين شبه مجهولين إلى مرتبة لائقة في حراك السينما العالمية، فهما اليوم بالإضافة إلى أسماء أخرى أشبه بمؤسسة متخصصة في صناعة الأفلام وتوفير الدعم لأصحاب المواهب والكفاءات الشابة والمغمورة، ليس في أميركا فحسب، وإنما في أرجاء المعمورة. إنهم باختصار نجوم حقيقيون لديهم نظرتهم الثاقبة إلى السينما كأداة وفعل حضاري.

مشروع الكتاب في الأصل كان يتجزأ إلى قسمين الأول عن مخرجين والآخر عن ممثلين ورؤيتهم إلى الحياة والواقع وتجليات الإبداع السينمائي والعلاقة التي تجمعهم مع المؤلف والسيناريست والمخرج والمنتج.. وتوفر لي حصيلة واسعة بهذا الشأن بعد جهد طويل من القراءة المتواصلة في المكتبة السينمائية العربية والأجنبية التي تتناول أعمال وسير ابرز قامات السينما العالمية التي كانت أفلامهم تثير الإعجاب والجدل بين عشاق السينما، وقمت بتدوين هذه الآراء وتوثيقها ضمن المنهجية النقدية التي اشتغلت عليها، وبالفعل عملت على إنجاز الجزء الأول بكتاب عن النجوم، وقريبا انهي الجزء الثاني الذي يتعلق بالمخرجين كي ادفع به إلى المطبعة.

للأسف، الممثل الغربي صاحب تجربة ثرية وأفكار عميقة بعكس ما هو لدى الممثل العربي الذي ينطلق إلى النجومية بأفكار سطحية لا تستقيم وحراك الواقع، وتنقصه أيضا الثقافة والمعرفة العامة والاهتمام بتنويع أدواره بالإضافة إلى تعمده التقليد المصطنع الذي يحيد عن التلقائية والعفوية في توظيف تعابيره في المواقف الدرامية المتباينة.

الرأي الأردنية
30/5/2008