نيويورك من على جسر بروكلن |
(من اليمين) عباس بيضون، وليم غرانارا، ميرال طحاوي وصموئيل شمعون أمام تمثال مؤسس هارفرد |
قيل لي إن عليّ أن أحمل عناوين وأرقاماً تليفونية قد أحتاج لإبرازها للشرطة. بحثنا عن رقم خالد المصري في الإنترنت وأضفت إليه من تليفوني النقال رقم «ماكس ويس» الصديق الأميركي الذي ترجم روايتي «تحليل دم»، واستباقاً لأسئلة أخرى أحضرت معي أيضاً دعوة جامعة هارفارد روايتي المترجمة المنشورة في أميركا ولما خفت أن لا يكفي ذلك أحضرت معي أعداد «بانيبال» التي حوت ترجمات لأشعاري، ولم أكتف بذلك بل حملت معي أيضاً أنطولوجيا منشورة بالفرنسية وافترضت أن كل ذلك يكفي للتعريف إليّ ككاتب كما يكفي لإقناع المحققين المفترضين بغايتي بحت الثقافية من دخول الولايات المتحدة الأميركية. حين وزعت علينا قبل الصعود للطائرة بطاقتان لتعبئتهما وتسليمهما لشرطة المطار أسقط في يدي. علمت أن كل الضمانات التي وفرتها لا تكفي فها هي مطالب أخرى لست متأكداً من قدرتي على الإيفاء بها. ثمة سلسلة من الأسئلة لجهلي المطبق بالإنكليزية لن أتوصل إلى فهمها أو الجواب عليها. هذا حرج إضافي لم أعرف كيف أخرج منه. دسست البطاقتين في جيبي وحين تفقدتهما في الطائرة وجدت قسيمة إحداهما شبه ممزقة فزاد حرجي ولم أعرف ماذا أفعل ببطاقة انفصلت عنها القسيمة المتصلة بها. وجدت نفسي أطلب غيرها من المضيفة التي جاءتني بخضراء محلها. اللون لا يهم ما دامت البطاقة نفسها، المشكلة في ملئها فكيف يتسنى لي أن أجيب بالإنكليزية. لم أجد مناصاً من أن أطلب من المضيفة مساعدتي لكنها بعد أن وعدت أحالتني على مسافر أحالني بدوره على مجلة الشركة (إير فرانس) قائلاً إن كل شيء موجود بوضوح على الصفحة الأخيرة. لم أكن واثقاً لكني بحثت عن الصفحة الأخيرة وبدون أن أدقق تيقنت من أنها لن تفيدني. كان حرجي قد غدا مسدوداً حينما وجدتني أطلب مساعدة الذي حل بشهامة مكان الراكب الذي لم يجدوا له مقعداً جنب زوجته وكان سألني إذا كنت مستعداً لمبادلة مقعدي جنبه بمقعد زوجته فرفضت متلعثماً فهذا سفر سبع ساعات وقد أسعدني أن مقعدي على الطرف في وسعي أن أخرج منه وأعود بدون أن أضايق أحداً ثم إنني مرتبك بهذا السفر وبالبطاقتين ولست في حال يمكنني من مساعدة أحد. سألت جاري وكنت أتوقع أن يكون فرنسياً إذا كان يعرف الإنكليزية فأجاب بلى. أخذ مني البطاقتين وتولى ملأهما بعد أن كان يسألني عن تاريخ ميلادي ورقم جوازي وعما إذا كنت أوقفت أو حوكمت في بلدي. أثناء ذلك علمت أنه أميركي وأنه يعمل في بلدان أفريقية وقد قضى في المغرب سنوات ولا تزال على لسانه بضعة تعابير عربية، كان سعيداً بإيرادها في محلها من كلامه. كان هذا هو الأميركي الأول الذي أقابله وأنا في الطريق الى الولايات المتحدة.
في الطائرة تكررت نداءات أن ننتبه إلى بطاقاتنا وأن نملأها بحرص فكل غلط سينتهي بردها. نداءات أعادني إلى اضطرابي فقد ملأت البطاقتين كما اعتدت لكن الأمر، كما يبدو، يتطلب هنا جدية أكبر، ويواجه عواقب أخرى. عدت إلى جو التحقيق والمحققين، وكنت سمعت حكاية عن أكثر من من تحقيق فزدت انكماشاً. حين وصلت الطائرة. كانت مفاجأتي الأولى أننا لم نكن سرنا إلا قليلاً في واحد من الأروقة الموحشة التي نعبر فيها عادة قبل أن يلفظنا الممر الطويل الذي يصل الطائرة بالمطار.
لم نكن سرنا إلا قليلاً حين أشرفنا على الحاجز الذي يضم الشبابيك الزجاجية لرجال الأمن. توزعنا على الشبابيك وطمأنني أنني سمعت الفرنسي الشاب الذي سبقني يقول إنه لا يعرف الإنكليزية. حين حل دوري لم أكن محرجاً كثيراً من أن أقولها أنا أيضاً، لكن فهمت أن بطاقتي الخضراء غير مقبولة. أين أجد ورقة بيضاء والأهم أين أجد من يملأها لي. احتججت والشرطي لم يبال لكن وجدت أمامي شرطياً آخر أسود يقودني إلى حيث يقدم لي ورقة بيضاء، وبعد أن علمت أنه يعرف الفرنسية وقف على رأسي يمليها عليّ. حين عدت لم أقف طويلاً أمام الشباك، شرطي أسود ابتسم لي وأنا أقول إنني لا أعرف الإنكليزية. تردد وهو يطابق بين بصمتي على الجهاز المضيء وتلك التي وجدها في كومبيوتره. طلب مني أن أضع أصابعي مرات على زجاجه، ثم اقتنع وأطلقني إلى باحة المطار حيث وجدت صموئيل شمعون بانتظاري.
كان الوقت لا يزال عند الظهر والنهار لا يزال أمامنا. أخذني صموئيل إلى مانهاتن. وكان هذا الاسم لا يزال بالنسبة لي غامضاً. أخذني إلى «ضيعة» مانهاتن والضيعة اسم يطلق على الحي القديم في مانهاتن. لم أكن أعلم إلى الآن مكان مانهاتن من نيويورك وحين وجدتني في الضيعة خلت أن نيويورك في مكان آخر. فليس في الضيعة شواهق نيويورك. هناك مبان عادية كتلك التي تحضرنا في بقية المدن. قال صموئيل إن هذا الحي لا يزال أوروبياً، أوروبيا فقط بارتفاع مبانيه وسوى ذلك فهو أشبه بالضواحي الأوروبية. ما من شبه مع باريس أو لندن أو أمستردام، إذ لا نجد التفنن والأناقة والانسجام التي نجدها في هذه العواصم. مبان عادية وشوارع عادية بلاطها المكسر أحياناً ومضائقها وهندستها البسيطة لا تملك ما تشعرنا به عواصم أوروبية من أنها بحد ذاتها متاحف كبيرة. نشعر فقط بأننا أمام تقليد أوروبي غير متقن فحين نمر أمام حديقة واشنطن لا نتذكر بالطبع أياً من حدائق باريس أو لندن. حديقة محدودة عادية، أما القوس الذي تصدرها وحمل على قائمتيه نحت واشنطن فهو أيضاً أشبه بتقليد لأقواس أمجد وأفخم. أما الغريب فيه فهو أنه مزروع أمام الحديقة لا يستقبل شيئاً وعهدنا بالأقواس أنها تنصبّ على الشوارع لتستقبل المواكب أو لتوحي بأنها تستقبلها. كان صموئيل الذي اعتاد «الضيعة» قد ألفها وأحبها، أما أنا فغلبني شعور بأننا لم نصل إلى نيويورك ولم أنتبه إلا بعد وقت أنني أنسى نفسي وأخالها في لندن. أزعجني هذا الشعور وكافحته ونجحت في أن أبعده لكن إحساسي بأنني في نيويورك بقي باهتاً. حين كان صموئيل وبعده عماد خشان يحدثانني بأن هنا عاش كبار الفنانين وكبار الكتاب والمشاهير إجمالاً وأن هنا قلب مانهاتن كنت لا أفهم جيداً، بقدر أنني لم أكن أفهم بسرعة مكان مانهاتن من نيويورك. لم أستوعب بسهولة أنها جزيرة وأنها، للعجب، جزيرة في نهر. لم ألتقط ذلك من أي من الأفلام التي شاهدتها تدور في نيويورك، لكني من على جسر بروكلين رأيت نهر هدسون عريضاً شاسعاً لا يفترق عن البحر، ومن مبنى الأمم المتحدة أشرفت على نهر يصعب حصر ضفته الأخرى، ثم رافقت النهر نفسه في القطار ساعتين وهو عارم مرتفع يتحول تحت جسوره الرائعة من لانهائي الى هائل الى ضخم. لا بد أن هذا فريد وأننا هكذا نبدأ بالتعرف على نيويورك.
لم يكن نهر هدسون وحده الذي نحار فيه ولا نشك لأول نظرة أنه بحر. في الطريق إلى بوسطن حرت في كثير من الشواطئ ولم أعرف إذا كانت لأنهار أو بحار ولم يسعفني صموئيل بجواب فهو الآخر لم يفرق، حين نشرف من جسر بروكلين نرى جزراً كثيرة ونرى تمثال الحرية الشهير قائماً على جزيرة وحده ونرى المياه وقد ملأت الجهات. لكننا نتعب لنصدق أننا في جزيرة ولا نصدق إلا حين ننتبه أنها محمولة على الجسور. ان الجسور هي تقريباً أجنحتها. الجسور التي نراها تطير فوق الهدسون العظيم. جسر بروكلين يبدأ من ضيعة مانهاتن لكنه أحد أوثان مانهاتن، ونيويورك مليئة بالأوثان بدءاً من تمثال الحرية مروراً بسنترال بارك وروكفلر سنتر ووول ستريت والبرجين الشهيرين المدمرين ومتحف موما ومبنى الأمم المتحدة. إنها جميعاً معابد نيويورك ومن يصل فلا بد من أن يحج إليها، وإلا فكأنه لم يزر نيويورك التي هي أيضاً وثن ضخم.
جسر بروكلين القديم الذي تم تجديده في الخمسينيات هو أكثر من طبقة وإحداها للمشاة. أول انطباع لصاعدي الجسر، الذي يبدو لأول وهلة كأنه اقتطع من الطريق، هو أن أجيالاً من المشاة نعّمته وها هي أفواج أخرى تملؤه ذاهبة آتية، فالمشي هنا طقس. ثمة كثير من السياح الذين يلاحظون بكاميراتهم كل لحظة وكل حركة. هناك اليابانيون الذين يصوّرون أولاً قبل أن يعيشوا ما صوروه. هناك الأميركيون يروحون ويجيئون وجميعهم تقريباً بالجينز الأزرق الذي هو رمز الديموقراطية الأميركية بدون أن يغدو زياً موحَّداً. الجسر ينفصل عن الأرض ويطير في الجو بدون أن نشعر، لكن حبالاً معدنية وقساطل ألمنيوم فضية تمتد عالية لتشدّ الأقواس المنصوبة على الجسر. أقواس تستقبل المواكب السيارة حاملة على سطحها تواريخ من القرن التاسع عشر إلى الخمسينيات حيث يجتمع البناء القديم مع تباشير المعمار ما بعد الحديث، وسيمتد الجسر إلى أن يرسو في «بروكلين» واحدة من المناطق الخمس التي تشكل نيويورك.
جسور أخرى ولكل منها شكله. جسر لامتناه تضيع نهايته بقدر ما تضيع الضفة الأخرى وهو يمتد رشيقاً نحيلاً خفيفا، فيما جسر آخر معقود بقوة بين الضفتين قائم على قواعد راسية ترتفع حلقاته وهياكله متينة ثقيلة. جسر بعد جسر ومانهاتن تتقارب جسورها وأحيانا تتجاور وكل يمضي في رحلته حاملاً الجزيرة إلى أعلى في الفضاء والماء.
شعوب
نزلت في «هوليداي إن» ولا يغتر أحد بالاسم فهوليداي إن هذا فندق متواضع في «شاينا تاون» أي الحي الصيني في شارع لافاييت والشارع بلا أي ميزة. انه سوق عادية للغاية لكن حين اشتريت بطاقة تليفون وجدت أن لها رقمين أحدهما للصينيين ويشار إليه بكتابة صينية. المارة يحملون صحفا بالصينية وبالطبع هناك مطاعم صينية وخضار صينية وبقالة صينية لكن الجنز يجمع الأميركيين. قبل أن يرحل هنتنغتون تنبأ بانهيار المجتمع الأميركي الذي يفقد مقوماته فقد قام على أسس البروتستانتية واللغة الإنكليزية والإنسان الأبيض وهذه جميعها باتت مهتزة. لقد طغت الأطراف على الأساس وباتت الكاثوليكية والإسبانية والملونون قوة مقابلة. هل يبشر انتخاب أوباما بصلح اجتماعي يبعد الخطر الذي تنبأ به هنتغنتون. سائقو السيارات هم في الأغلب مسلمون، تعرفهم من أسمائهم المسجلة على الحاجز الزجاجي الذي يفصل السائق عن الركاب. وأحياناً كثيرة يحيونك بالعربية ما ان يبلغ كلامك سمعهم. لا تعدم أن ترى لبعضهم لحية طويلة وثوبا إسلاميا وسبق لصموئيل أن شكر السائق التونسي الذي أوصلنا الى المطار على اهتمامه بإنزال حقائبنا فأجاب هذا بتواضع بأن لا داعي لشكره على فعل هو يقوم به طوال النهار حتى ل «الكفرة». أما ع.خ. الذي لا يزال يرغب في الاندماج في التجربة الأميركية فيعترف بأن أيام ما بعد أيلول كانت صعبة وأجبرته على شبه اختفاء.
المهندسة العراقية الشابة تريد ان تقيم عرسها في اطلال جرش وتريد ان تخصص هناك لكل من راحليها أغنية او شعرا فتحس ان هؤلاء جميعا يشتركون في يومها وتقول انها تريد عرسها هكذا ليكون في ما بعد ذكرى جميلة لها. انها من الآن، قبل ان يحدث العرس، تتأمله كذكرى مستقبلية. غادرت العراق وهي بعد طفلة لكنه استحال ذكرى كبيرة لها. تقول ذلك قبل ان تشير الى مبنى زجاجي ذي شكل مخروطي متعدد السطوح متباين من الجوانب وتقول انها عملت فيه لتوازن ما بين الشكل الخارجي والوظائف الداخلية وتروح تشرح ذلك بلغة دقيقة وغنية، ثم تقرر انها لا تستغني عن رياضتها «الجيم» يوما. لقد كانت شبيهة بالمبنى الذي وصفته وربما نجحت مثله في ان توازن بين خارج وداخل متباينين. لكن هذه أميركا.
لا نزال مع ذلك في «الضيعة». كان عليّ ان أذهب في الصباح التالي مع ميرال الطحاوي وصموئيل الى بوسطن ثم ان اذهب مع صموئيل الى بيت الكتاب في ناحية من هدسون. اعود كل مرة الى الضيعة وابيت ليلتي فيها. في الطريق تلوح من بعد العمائر الشاهقة فيقول صموئيل انظر، لكن نيويورك لا تزال صورة. على يميني وانا على جسر بروكلين عمارات متراصفة عملاقة وانظر اليها لكنها على قربها في مكان آخر. اما على شمالي فغابة من ناطحات السحاب لكنها اشبه بمنظر خلفي. مهما كان اعتدادهم بالضيعة فان صورة نيويورك ليست هنا انها تماما في تقاطع العمارات الشاهقة، في تكوكب ناطحات السحاب، هنا يقال لك هذه هي نيويورك.
متحف للفضاء
هذه هي نيويورك وهي ليست باريس او لندن او امستردام او حتى برشلونة (الشبيهة في تصميمها بها). انها ليست التفافات وتدويرات ودواخل ضمن دواخل وتخريم ونحت لكل ثنية وكل عطفة وجسر ونمنمة ونسج شبكي وتفاصيل مبدعة. ليست متحفا ضخما ولا متاهة، انها من الضيعة ذات اسماء (برودواي، لافايت، طومسون) لكنها في غيرها ذات ارقام، وهي ايضا رقعة شطرنجية. تقاطعات مستقيمة من شوارع وجادات لا تحيد مهما بلغ طولها وتلزم اتجاهها، انها البساطة والوضوح والضخامة معا. في أي صورة لنيويورك لا نرى الا تناظر ناطحات السحاب لكن الصور لا تقول كل شيء، بل هي في احيان لا تقول شيئا. في تناطح هذه العمارات العملاقة المصورة تشعر ان الفضاء حجري، بل ليس هناك فضاء. نشعر بالتزاحم والاكتظاظ واحيانا بالانسداد. ولا اعرف لماذا الاصرار على صور كهذه تبدو فيها الاحجام جامدة ومتكتلة، الامر قد يكون هكذا في بعض مناطق «الخليج» العربي حيث الرقعة الضيّقة تنوء بالمكعبات الاسمنتية وحيث تزحم هذه الفضاء ولا توازن حقيقيا بين الارتفاع والامتداد.
ليست هذه حال نيويورك، انها مختلفة بالطبع ولهذا نحتاج الى عين أخرى بل هي قد تجدد رؤيتنا وعيوننا. في موسكو، وفي زيارة سريعة، فهمت ان للضخامة وللاشكال العملاقة سحرها الحقيقي فهي تستدعي مخيلتنا الطفولية والسحرية. هنا وانا امر في نيويورك وأرى عند تقاطع الشوارع مساكب مستديرة امتلأت بأزهار التوليب التي تزفر الوانا حية، اقف واشعر مثل صبي الحكاية بأني في غابة مسحورة. اشعر بأن كائنات عملاقة واليفة تتسامر فوقي، وارى امامي بناية من زجاج ترتفع مطوية قليلا ثم صاعدة كورقة عملاقة. أرى مبنى آخر يتصاعد مخروطيا ويضيق في قمته وتتباين سطوحه. أرى مبنى مرتفعا كالوتد وعلى قمته الضيقة ارتفع تاج ثقيل يحاول ان يرسم شيئا لكنه متراكب فظ. افكر عندئذ بتيجان مباني امستردام ولندن الرشيقة المحكمة فأفهم ان الأميركي لا ينجح هنا حيث ينجح الاوروبي، ان شيئا من السذاجة او التصديق او الحرفية يحصل عندما يستغرق في التفصيل. انه يبنى جشتالتات عظيمة، رسوما كاملة، أحجاما كبيرة. هذه جمالياته أما التفاصيل فتتآكله. لا اعرف اذا كان هذه الكلام ينطبق على السياسة. لكني لست في وارده الآن. حينما وصلت الى سنترال بارك الحديقة الهائلة التي اعرف عددا من الرسوم التي تستلهمها نظرت ورائي فرأيت البنايات العملاقة تشرف على المكان. رأيتها بهيجة فاتنة كما لو كنت أرى اشجارا. كانت ترتفع في الفضاء كأعناق مشرئبة وكانت هكذا تحاكي الفضاء وترسمه رغم ضخامتها رشيقة وخفيفة متناظرة حرة، فهي ليست غيلانا اسمنتية بقدر ما هي منحوتات ومسلات هائلة لتحية السماء والشمس.
الحديقة
سنترال بارك حديقة تليق بنيويورك. امتدادها مقابل ارتفاع عماراتها، انها «حديقة» شاسعة لكنها ايضا تحت الشواهق المطلة عليها. سنترال بارك هي ايضا في اجمالها ولن تجد فيها تفاصيل مثيرة لا المدخل لافت ولا المخرج، اما رواق الشعراء الذي يضم تماثيل تجمع بين كولمبوس وشكسبير وشعراء أميركيين منسيين فهو الآخر بدون ميزة كبيرة، التماثيل عادية لدرجة انك لا تتعب في البحث عن اسماء صانعيها. لكن هذه «العادية» سرعان ما تغدو ميزة بحد ذاتها. اذا قارنت سنترال بارك بالحديقة الفرنسية على سبيل المثال فان الاولى ستكون مجرد برية. والحقيقة ان سنترال بارك فيها الكثير من البرية. لا تزال الصخور عالقة في ارضها المسترسلة، في انحدارها وصعودها نازلة مرتفعة لم تعمد يد الى تسويتها. اشجار حيث تطلع اشجار ومروج حيث تنبسط المروج وفضاءات واسعة وفراغات وامداء. بل الشعور بالخلاء اقوى من الشعور بالامتلاء والكثافة فلدينا الاحساس بأن ما جعل من سنترال حديقة اشبه بتفريغها، كأنما عملت يد على تفسيح غابة عظيمة وتعريتها واخلاء بعضها.
كنت خارجا من متحف يوما (متحف نيويورك للفن الحديث) بصحبة عماد خشان وقد قضينا معا ساعات في طوابق المتحف الخمسة التمست اثناءها من عماد ان تستريح غير مرة احتراسا من ان يفاقم التعب معاناتي لديسك مزمن. لا احتاج للقول بأنني رغم ذلك خرجت اجر قدمي جرا الا ان عماد مشّاء لا يرحم. اغراني بأن سنترال بارك قريبة و«طمعني» في رؤيتها ولم اتعب. سرت طائعاً ودخلنا وقطعنا شطرا من الحديقة ولم تظهر على عماد نية للتوقف فقد استسلم لقدميه وسها عن تعبي. عندئذ جمعت نفسي وطلبت الخروج. ولما صرنا في الجهة الثانية من الحديقة شممت رائحة وخم قوية فأسّر لي عماد بأن في هذا الجانب حظيرة فيها ماعز واغنام وحيوانات اليفة لتسلية الصغار. لا اتوقع شيئا من هذا في حديقة اوروبية. انها أميركا. لا نبالغ في الرهافة والتفنن. لا بأس بقليل من الحياة الخام. لا بأس بقليل من الارتجال.
ما ان خرجنا حتى اقترح عليّ عماد ان نذهب الى سنترال روكفلر القريب الذي رسم ريفيرا الفنان المكسيكي المكلف بتزيينه لينين على واجهته وازيلت الصورة في حادث عاصف تكفلت السينما بنقله. لم اصمد للاغراء فجررت قدمي المنهكتين الى سنتر روكفلر. هناك شلال من خيوط ماء سخيفة توسطها فتى ذهبي إغريقي الهيئة بلا زمن ولا مناسبة، ودخلنا فوجدت على الجدران والسقف ملحمة سود اميركا وعمالها مرسومة بأسلوب شبه ميكال انجي. كان الاسود يجر على ظهره جذعا هائلا والعامة في الاسفل تبني وتشيد. كانت هذه الملحمة العمالية على جدران معبد الثراء ومجزرة عمال شيكاغو ونضال النقابات وبؤس الثلاثينيات والعسف الماكارثي. لم احب الاسلوب الميكال انجي. لم يكن هذا ريفيرا الذي اعرفه.
متاحف
متحف موما احد اكبر متاحف الفن الحديث في العالم ان لم يكن اكبرها. هنا سنجد كل فن القرن العشرين مع مقدماته ما بعد الانطباعية والرمزية، يصعب الحديث عن متحف وخاصة في هذا السياق. درنا في طوابق المتحف الخمسة وتصفحنا بسرعة لوحات بلا عدد فالوقت لا يتيح التأني او المهل، ولا اعرف كيف يدخل متحف كامل في رأسي. لم تشغلني اعمال وفنانون كنت الممت بهم على نحو ما لكنني مع ذلك وقفت متفاجئا امام «آنسات افينيون» لبيكاسو، متفاجئا من رؤية لوحة تاريخية بهذا القدر في متحف اميركي، كان ذلك شبيها بوجود القاعة الأشورية او الطابق الفرعوني في متحف لندن. همني ان أرى ما لم يمكن اتيحت لي رؤيته من قبل. فاتني معرض شيريكو في باريس وتأتى لي ان اشاهد بضع لوحات لشيريكو في موما. لم يقل افتتاني بمساحاته الملفزة ومانيكاناته الاسطورية. كان هذا العام «للمستقبليين» الذين جرى نبشهم كأنما حظوا بعفو تاريخي هم الذين نظروا للسرعة والحركة والجمال الآلي كما نظروا للوطنية والحروب والقوة الذكورية والتحقوا بالفاشية وعادوا المرأة. سجّل، كما نرى، أسود واستحقوا عليه اغفالاً مستديما. الآن العام عامهم وها يتاح لي ان اجول في قاعة مستقبلية وأرى اعمال بوكسيوني وكارا واخرين. اعمال لا يمكن وصفها بالخفة او الارتجال. انها محكمة للغاية وذات ارث تشيكلي متين وقوة تحليلية فذة. انها هكذا قد تكون الوحيدة التي تقف مقابل التكعيبية وفي مناظرتها.
متحف «ويتني» للفن الاميركي آثرته على متحف غوغونهايم الذي هو بحد ذاته، كما علمت، تحفة معمارية. كان اول ما شاهدته مرتبة من النيون مرصوفة من أنابيب مضيئة تتجول فيها ذهاباً واياباً، صعوداً ونزول احرف. كان يمكن مشاهدة انستالاسيون للأرت فيديو على 7 شاشات تقدم أطرافاً من حياة الرجل الأسود نفسه في النوم والتجوال والرقص والشرب وأخيراً في سيرة نحو نقطة مضيئة في آخر الشارع.
في الامم المتحدة وقد انتهيت الى بارها اسمع نداء باسمي لا أتوقع ان يطرق سمعي هنا. انه الزميل علي بردى الذي لم اكن علمت بأنه انتقل الى نيويورك، ألقيت نظرة على مقر مجلس الأمن، كان اصغر مما يظهر في التلفزيون شاهدنا هدايا الدول، ذهباً من الامارات وتمثالا رائعا لامرأة سوداء من نيجيريا وقاعة من عمان وسجاداً من ايران الشاهانيه وايران الاسلامية ايضا. كل من السجادتين تحمل روح النظام الذي قدمها.
المساء الاخير كان ايضا قراءة مشتركة لميرال الطحاوي ولي في منتدى «ألوان» عربي ينظمه مصري اميركي هو أحمد عيساوي. كان الجمهور متواضعا بكثافة عربية بادية. قرأت ميرال معطفا قصيرا من روايتها «نقرات الظباء» قرأت ثلاث قصائد. ممثلة من اصل ارمني سوري ولتواني روسي الترجمة. لم نطل القراءة فأفسح ذلك لنقاش تناول في احد موضوعاته الأدب والمدينة والسفر واسئلة اخرى على تجربة ميرال وتجربتي. كان النقاش منعشا ولدى الخروج استمر بعضه مع علي بردى وآخرين في مقهى قريب.
بوسطن وهدسون
كان عليّ ان ابرز جوازي لشباك التذاكر وان تحمل البطاقة اسمي. ذلك تدبير مما بعد 11 ايلول. لم اضق بسفر 5 ساعات الى بوسطن فأنا احب القطارات رغم انني خارج من جولة ماراتونية بالقطارات في فرنسا. قال صموئيل ان القطارات هنا غيرها في اوروبا. فهي هناك احدث واسرع. استغربت قوله فأنا افترض ان الولايات المتحدة هي السباقة في كل ما يتصل بالتكنولوجيا. القطارات هنا بطيئة لم تتجدد بما يكفي وليست في لياقة وسرعة تلك التي في فرنسا. أما الاغرب فهو ان الناس هنا يجلسون ببطاقاتهم حيث اتفق، فليس هناك ارقام للمقاعد. يصعدون ما ان يجدوا حافلة فارغة ويستقرون في المقعد الذي يريدونه. ليست اميركا اذن هي الاسبق في كل شيء.
القطار بالنسبة لي سحري. تتبدل الاشياء من نافذته بسرعة خاطفة، تتراجع الاشجار ويختفي النهر وينتأ محلهما شيء آخر، مرج او صف بيوت. بل ان الاشياء نفسها شبه مسحورة فليست الاشجار كالاشجار ولا البيوت كالبيوت. انها في حركتها وسرعتها تبدو غريبة متحولة. هنا وأنا اتأمل من النافذة كنت أرى الاشياء تتضخم وتتسع قبل ان تبدأ في التقهقر والاختفاء. في الطريق الى هدسون رافقت النهر العظيم. كانت الجسور تنتصب وتتراجع لكن المشهد بقي واحداً، النهر العارم الجاري بتؤدة وثقل متسعا او متضيقا قادراً احيانا على ان يملأ كل شيء، السهل والفضاء والأفق.
في بوسطن لاحظنا جمال المباني. هذه مدينة اوروبية كما قيل لي، المباني والجسور على تفنن كبير. هناك الاشغال الاوروبي بالجزيئات والتفاصيل وكل ذلك باناقة تقارب التخريم، فكرت ان البيوت هنا شبه مطرزة. لم يخرج الفندق الذي اختاروه لنا في هارفارد عن ذلك، كانت واجهته اقرب الى ان تكون محوكة باليد. رائحته من الداخل كانت غنية بعطر ناعم ومعمّر. غرفه كانت في كل ما فيها عريقة وأنيقة. لمسة ارستقراطية على كل شيء. درنا على مباني هارفارد حيث كان السياح يملأون الباحات. مررنا قرب مؤسس الجامعة ولدهشتي لم يكن سوى فتى بالغ الوسامة ذي مسحة هوليودية يجلس في عباءة وثيابه أنيقة مسترخيا على اريكة ماداً قدميه. كان اليابانيون يجتمعون امام التمثال وفي كل لحظة يقفز احدهم الى جنبه تاركا كاميرته في يد زميل له ليلتقط صورته، يسري الامر بالدور. ليس صموئيل اقل شغفا بالتصوير هكذا وقفنا له فرادى وازواجا ومثالث الى ان انتهى من التصوير. المكتبة او ما يظهر من المكتبة مكان بناه أهل فتى هلك في الحرب لذكرى ابنهم. أي سقوف رائعة واي قاعة قراءة تمتد رفافة ساكنة.
كنا ميرال الطحاوي وأنا مدعوي القسم العربي في هارفارد، استقبلنا خالد المصري الاستاذ الاردني الاصل بكل حفاوة الضيافة الاردنية. كانت الندوة التي أدارها خالد لطلاب القسم العربي. الذين جلسوا محيطين بنا حول مائدة كبيرة. تناولت اسئلة خالد تجاربنا الخاصة وموضوعات عامة كتلك التي تتعلق بالترجمة الى لغات اجنبية فضلاً عن صلة الأدب بالسياسة وصلة الأدب العربي بالغرب فضلاً عن اسباب الكتابة ودوافعها. كان الكلام بالعربية للطلاب. كانوا تقريبا من غير العرب. اصغوا وفهموا وطرحوا اسئلة بجمل عربية تتفاوت في السلاسة. كان الجو بهيجاً متحمساً وهكذا رحنا جميعا الى مطعم للمأكولات البحرية. لم يكن وليم غرانارا رئيس القسم العربي الايطالي الاصل مضيفا اقل حفاوة، ابتسام وتبسط والفة ايطاليان. جلس يقدم لنا المطعم واطباقه ويختار لمن يتردد. في يوم آخر حدثنا عن تربيته الكاثوليكية ووالدته التي تفرض يوم الجمعة الحزينة صمتا مديداً تجتهد بصعوبة لكي لا تخترقه. وليم مترجم متميز للأدب العربي ومعه ومع خالد ومع طلاب القسم عشنا في جو شبه عائلي. سيماراتي الشابة الهندية كانت مكلفة بأن تقرأ ترجمتي الانكليزية. جلست للتحضير وتكلمنا عن سلمان رشدي وطاغور، لكن الوقت كان يوافق عيد الفصح والطلاب الذين اجتهدوا ليحضروا الندوة ذهبوا الى عطلهم في اليوم التالي، وبقي القليل ليحضروا القراءة.
بيت الكتاب في وادي هدسون ثلاثة مبان انيقة بسيطة احدها مطعم يغشاه مدعوو البيت ساعة يشاؤون ويجدون ما يريدونه في براد مكتظ، ويجلسون جميعا للعشاء في تقليد متبع، يسهر عليهم طاه ومدبرات منازل. وجدنا دانمركيين والمانا وسويسريين وصوماليين وأفارقة وانضفت أنا الى برنامجهم للقراءة في مكتبة في المدينة. كان البرنامج يضم قراءات بكل اللغات لكن الكتّاب الذين يحسنون جميعا الانكليزية اكتفوا بمقاطع بلغاتهم الاصلية واكملوا بالانكليزية اما أنا فكان الشاعر الفرد كورن المدرج في البرنامج وافق على ان يصاحبني بالترجمة الانكليزية. الفرد شاعر معروف واستاذ جامعي يحسن الى جانب الانكليزية 5 لغات منها الفرنسية والاسبانية والايطالية واليونانية مع المام بالالمانية، تحدثنا عن الأدب الفرنسي. كان ميشو مفضلنا نحن الاثنين في الشعر الحديث بالفرنسية. تكلمنا عن الشعر العربي القديم والحديث وتوقفنا طويلاً عند أبي نواس الذي لم يستطع الفرد ان يغالب دهشته وتعجبه كلما استطردنا في الحديث عنه. لقد استشف بسرعة عظمته ولم يتوقف عن السؤال عنه. وقبل ان نرحل طلب مني ومن صموئيل ان نلفظ له بدقة اسم الشاعر ليبحث عنه في المكتبات.
تفهم أن أدغال هارلم لم تعد موجودة، طرد التطور السود من مستعمرتهم الى الضواحي. جرى تبييض هارلم بالتدريج ماذا سيبقى لأعمال أدبية وسينمائية حملت اسم هارلم. تجد من يحدثك مع ذلك عن ان المستقبل للاتينيين لا لأن رئيسا لاتينيا على الطريق بعد ان وصل أوباما، ولكن لان اميركا لم تعد ما كانته بحسب هنتغتون بيضاء بروتستانتية ناطقة بالانكليزية. هذه هي النواة وهي لم تعد وحدها مركز الثقل، الأطراف والضواحي تزداد قوة والميزان الاميركي يكاد يختل. اوباما هو الأمل لكن التدهور الاقتصادي لا يزال على الأبواب. عماد يتحدث عن جيران اغلقوا، محل بائع السندويشات العامر الذي كان يفتح 24 ساعة صرف عماله منذ مدة ولا يفتح الا بعض النهار. لا ضمانة.
على طريق العودة من هدسون ادفع حقيبتي امامي لكن درجتين تفصلانني عن باب الحافلة وعليّ أن أرفعها على كتفي. كنت أتحسب من ديسك وغير ديسك ومن نصيحة طبيبي ان لا أرفع أثقالا. لا أعرف ماذا لاح على وجهي لكن موظف القطار الشاب الذي كان جنبي أبعدني عن الحقيبة وشالها بيديه. لا أنتظر عونا كهذا في بلد أوروبي. لا عن فظاظة او جفاء ولكن في الغالب عن فردية مغرقة تحترم حق الآخر في ان يحمل عبء نفسه او يفعل بها ما يشاء. لم ينتظر الموظف ان أسأله، نظر الى وجهي وقدَّر ما احتاج اليه وفرض مساعدته. هنا لا ينتظر الناس اذنا ليكلموا بعضهم. أحمد مرسي الشاعر والرسام المصري المعروف الذي قابلته في الأمم المتحدة، سألني اذا كنت لاحظت شيئا ولم يعين فحسبت انه يقصد الضخامة والعمران لكنه اوضح انه يقصد الناس قال ان الناس هنا لا يتحسبون من ان يتواصلوا، حين يسقط أحد على الأرض في بلد اوروبي يتركونه لحاله وينتظرون ان يصل الاسعاف. هنا يعجل عشرون شخصا لمساعدته. ليس أحمد وحده هو الذي يقول هنا ان أحدا لا يحس انه غريب. لكن نبوءة هنتنغتون صارمة فهل حان الوقت الذي يتفرق فيه المجتمع ويغدو الناس غرباء تجاه بعضهم بعضا ام ان أوباما «الظاهرة لا كشخص» أمل حقيقي. هذه هي أميركا.
السفير
24 ابريل 2009