عباس بيضونكان واحدا من الشوارع الخلفية المقفرة تقريبا لكنني ما ان خرجت من فندق حتى وجدت أمامي مبنى قديما متجهما لم يسع أحد الى ان يفك عبوس الزمن عنه شأنه في ذلك شأن امرأة فخور ترفض ان تصبغ شيبها. كان اسم راسل عليه، وحين سألت قيل أنها أسرة الفيلسوف برتراند راسل. على واجهته كان ثمة حاجب حجري عريض حفرت عليه بالتوازي رؤوس نبلاء العائلة، رؤوس بلحى كثيرة ووجوه مقطبة غالبا وأحيانا ذات تكشيرة شيطانية. تلك هي عطفة راسل على كل حال وفندق راسل عند تقاطع شارعين احدهما مقفر والثاني مأهول بسيارات وأرصفة عريضة ومحلات وحديقة فارغة ملأى بمعدات وقساطل فهي في فترة إعادة تأهيل. تقول مرغريت اوبانك أنها ذات عز زال عنها فترة وانتبهت لها البلدية مجددا منذ وقت، مع ذلك فإن الشوارع الخلفية تشكو عادة من شيء من اليتم، إنها تبدو وكأن الأشياء كلها، الأضواء والأصوات والحركة، تتوقف قبلها كأنها ضحية سؤ حظ غير مفهوم او خاسرة على رقم واحد كما يقول عادة المقامرون، الفندق الذي يحمل تقريبا اسما فرنسيا ?ذْمَّىلىَُّ? بدا لي كالشارع مبعدا ووحيدا ففي هذه المنطقة يبدو الداخل والخارج متماسين الى حد كبير، لم يكن هناك سوى قليلين في اللوبي الضيق الذي تمازجه عتمة لا تدري إذا كانت تصدر من نصف الدائرة التي تكون مركز الاستقبال او الكنبات المتقابلة الشبيهة بمقاعد الباصات او أشباح الشارع المرئية من خلال الزجاج. يبدو فندقا متواضعا، كما هي المنطقة كلها. الأمر الذي يجعلنا لا ننتبه إلا بعد وقت طويل الى طوابقه العشر، ويفاجئنا في الصباح حين نمر في الكوريدور المظلم الشبيه بستارة نعبر منها الى المطعم الطويل الشاسع الشبيه هو الآخر بحافلة في قطار يفاجئنا ان نجده على سعته غاصا بالناس الذين جلسوا بلا ضجة يتناولون فطورا انكليزيا من المقانق والجامبون المقلي والبيض والسمك المسلوق وغالبا من دون عرق اخضر، تساءل أين كان هؤلاء ولماذا لا تصادف كلما نزلت الى اللوبي سوى أفراد قليلين متفرقين. كيف يدخلون ويخرجون وينامون ويصحون بهذه الكثرة من دون ان يحدثوا صوت او يظهروا على الأقل لا اد لماذا تراءى ان هذه هي لندن. فن ان نعرف كيف تختفي او تعيش خفيا.
من المطار الى عطفة راسل اجتازت بي مرغريت اوبانك في سيارتها أصداء شاسعة، عبرنا لندن تقريبا. تخلصنا بسرعة من ضواح تشبه الضواحي، مكعبات إسمنتية وشوارع مستقيمة وعراء سكاني. ثم انكشفت لنا بعد ذلك وشيئا فشيئا مدينة أخرى. أفكر بالحدائق كلما فكرت بالأنحاء التي اجتزناها حدائق معمارية. مبان ذات ولادة معمارية واحدة تشكل هكذا حيزا زمنيا واحدا. متقاربة متجاورة موحية بذلك بقدر كبير من خصوصية وألفة. لكنها ايضا زاهية مزهرة بواجهاتها الأنيقة وزخارفها وزينتها. متصابية بذلك او عصية على العمر. حدائق معمارية نستعرضها حيا حيا كما نستعرض حقلا حقلا في حديقة فرنسية، كانت هذه رؤيتي الأول للندن التي لا اعرف لماذا ظللت الى عهد قريب اصدق إنها ضباب وقطارات وساعات هائلة. لم أكن انتظر ان أرى الضباب فقد وجد من أكد لي ان أسبابه زالت فزال معها لكنني بالطبع لم انتظر ان أرى مدينة منمقة باذخة الى هذا الحد. المدينة بالنسبة لي هي هذا التكوين السابق على أهلها والذي يتحداهم دائما. هذه هي باريس وهذه هي أمستردام وهذه هي صنعاء. البذخ المعماري حتى الإغراق بهرني واجتزت لندن وأنا اسمع مرغريت تسمي مناطق اعرفها من روايات وأفلام ولا اصدق فالسيارة تتيح لي ان أشاهد المدينة وكأنني أتصفح كتابا وصوت مرغريت يجعلها بمثابة راوية. هكذا بدت الساعة ونيف التي احتجناها لنصل الى الفندق عريضة كثيفة، ساعة نووية، اختراق للزمن والمكان يتساقطان كأنهما حجب تقع واحدا واحدا.

الفن الآشوري

لم تكن المنطقة التي وصلت إليها في بذخ المناطق كانت بسيطة صارمة. المباني جدران مديدة مغلقة بأبواب صغيرة في الأسفل كأنها أبواب الحكايات والأسرار. والحدائق متقشفة بأشجار قليلة منصوبة وعراء واسع نسبيا. لكن هنا المتحف البريطاني وفي باحته تلك اليد المعدنية الهائلة وقاعة المكتبة التي بقبتها الهائلة تذكر بمكتبة بورخيس الميتافيزيقية لكن المتحف مفتوح ومجاني ككل متاحف بريطانيا. ستنعم بالطبع بالقاعات الفرعونية التي هي بالتأكيد رمز المتحف وشعاره. ستسير وسط الكثيرين الذين يدورون حول التماثيل الهائلة والنحت والنافر والرسوم والتوابيت والمومياء لكنك رأيت شيئا من ذلك في مصر ورأيت كثيرا منه في الكتب لذا ستحتفظ بدهشتك للآثار الآشورية، كان كل حظي من هذه الآثار رسوم جلها غير ناجح تصفحتها في كتب تاريخ وآثار، ولأمر ما كنت اظنها قليلة وبالية. لم يبق في خلدي منها سوى الثور الآشوري المجنح والفرسان الشاكي السلاح، لا اعرف لماذا اكتفيت بأنت أصادق على تثمينات خاطفة لهذا التراث. لاحظت فحسب ما رسب منه في الفن العراقي الحديث، ولم اجتهد كثيرا لأستوعب هندسته الصارمة وزواياه الحادة وتربيعاته الكاملة، وحين وجدت نفسي أمام هذا الثور غرقت في التعاقب المتوازي لريش جناحيه، شعرت ان الأمر يتعدى السيمترية والانتظام ففيه مد ايقاع لا يجعله انتظامه وتوازيه بطيئا. كانت هنا حركة وحيوية لا نجدهما في فن آخر. حسبت ان الأمر لن يتعدى الثور المجنح لكن وجدت نفسي في أروقة موصولة بأروقة فأجمل ما في المتاحف تلك المتاهة من قاعات وأروقة متصلة، أروقة اكتست جدرانها كلها بالنحت الآشوري النافر جعلها يمتد أمام عيني وكأنني أتفحص فيها <<شريطا>> نحتيا لا متناهيا. غرقت فيما أراه حقا ولم ابذل ذلك الجهد الذي لا بد منه للاقتراب من منحوتة فرعونية هاجعة في سكونيتها ومنفردة فيها، لم ابذل جهدا فقد كان التلقي مباشرا ولم يطل الوقت حتى زال ما بين عيني وبين التصوير الحجاب. لم يعد الزمن ولا الأسلوب ولا الموضوع بيننا، كنت أشاهد اللوحات الحربية وأرى كم ان التوزيع الهندسي الصارم والقاسي للمقاتلين، كم ان الإنشاء الهندسي الصارم للأشخاص اختزال للحركة والصراع والتكوين البانورامي، الزوايا والتربيعات والخطوط المستقيمة تتحول فعلا الى أوتار مشدودة والى أشكال متوترة مفعمة بتحفزها وتربعها وتواجهها وانشباكها ببعضها بعضا. نسمع فعلا وقع الرماح المتطاحنة وصرير الأسنان وقسوة اللحظة وعنفها. كان مدهشا هذا المزج بين اسلبة صارمة وتعبيرية ثرية الى هذا الحد. بين الهندسية والحركة، بين التنميط والملحمية لكن الأمر حين نتجاوز اللوحات الحربية الى اللوحات الحياتية يغدو أكثر ألفة. تفتننا النباتات والأطيار والحيوانات في لوحات الآشوريين فالهندسة هي قبض على الحركة والشكل الأصلي وقوة وزخم الطائر والنبتة والثور، ترسم الثيران بقوة وجمال أين منهما الثور البيكاسوي الشهير رغم غرابة المقارنة في هذا المجال. لكن الثور الآشوري في اللوحة كما هي النبتة والطائر مرسوم بعقد حياة مع الرسام الذي يصور مصادر طاقته واقانيم عالمه. الخصب والحياة في النبتة الجلد والحرث والسند في الثور، المغامرة في الطائر. في إحدى المحفورات رأيت حمارين يمدان عنقيهما من الجهتين في حركتين متوازيتين وشكلين متوازيين ليلتقيا في سطل ماء، كان التنميط والاسلبة هنا مندمجين في الحياة الصغيرة اليومية، سألتني سائحة إذا كنت من هذه البلاد التي أعطت الفن الآشوري، لم أجد جوابا، لكنني كنت مسحورا. ومرتويا لدرجة لم استطع ان أزيد قطرة واحدة، مررت بالفنون الآسيوية شبه ذاهل، وشعرت أنني لا أستطيع ان أتحرر من الرواق الآشوري فغادرت المتحف.

لندن المبهرجة

لم يكن المتحف وحده في المنطقة التي لا تزال في قلب لندن، كان هنا بيت فرجينيا وولف. وأمام مدخل معهد الدراسات الآسيوية الأفريقية حيث أقيم المهرجان الشعري كانت لافتة نحاسية تحمل اسم ت. س. إليوت على باب المبنى الذي كان مكتبه عقودا طويلة من السنين، وهذه هي الكنيسة، على ما روى صموئيل شمعون، التي تزوج فيها تيد هيوز وسيلفيا بلاث. وهذا هو البار الذي كان يرتاده تيد هيوز وحياة الإنكليزي ترتبط كثيرا بالبار. بالفعل ارتدنا بار هيوز وجلسنا صموئيل ومارغريت اوبانك وأنا وصديق ألمانيا في زاوية صغيرة حول مائدة مستديرة ضيقة، كنا تقريبا لصق ثلاثة آخرين تحلقوا ايضا حول مائدة ولصق آخرين جلسوا فرادى يشربون بصمت، أي كنا جميعا مضغوطين متماسين في هذا المكان الضيق المغلق تماما والذي يمتلئ ضؤوه الشاحب بغيوم المدخنين وسبحات كؤوسهم وأحاديثهم. كان الرجلان في جوارنا يضاحكان سيدة طالما غطت عليهم بضحكتها. لا اعرف ماذا كانوا يفعلون هنا تماما، يقول صموئيل ان هذه الأمكنة المظلمة المغلقة هي صنو الطبع الإنكليزي المحبط غالبا بسبب الطقس. حازم صاغية قال لي ان الجو الغائم يطبق على عقل المرء وروحه هنا ويدفعه كثيرا الى انفراد وانفصال غامرين لا نفاذ بالهيّن اليهما، حين ترتفع الشمس يترك كل ما بيده ويهرع الى المنتزه، إنها ساعة الشمس لكنها ايضا ساعة التخفف من الوحشة الداخلية والانتشار شبه النباتي في الضوء. عندئذ يقول حازم يخرج الجميع من أقفاصهم وانفرادهم الصارم ويغدو التواصل سهلا والنفوس طلقة ومفتوحة وجاهزة لاستقبال الآخر والشمس والحياة. لم يوحشني كثيرا بار هيوز. بل لم توحشني البارات الإنكليزية المغلقة إجمالا. إذا نسينا محنة غيوم دخان التبغ فان في هذه الأمكنة داخلية كبيرة. ما ان تتجاوز الشارع الى باب البار حتى تصير في داخل، في قلب، في خصوصية كاملة، انك تخرج من عموم الحياة والطقس وتبقى هنا حيث الطقس من حلقات الدخان والشراب والتماس الإنساني. حازم يقودني في جولة، الأرجح انه رتبها لكل أصدقائه الزائرين. إنها جولة بوست مودرنيه (ما بعد حداثية) إذا جاز التعبير. إنها جولة أمام قصور قديمة تحولت الى بيوت حصينة لأثرياء مهاجرين بينهم لبنانيون وعرب. بعد ذلك وقفة أمام قبر الأمير ألبرت زوج الملكة اليزابيت الذي غدا حزنها الشديد على غيابه أسطورة في الغرام الملكي. وبموازاته تقريبا المسرح الاليزابتي الشهير، اثر من عهد الملكة التي طبع اسمها التاريخ الإنكليزي. قبر ألبرت الذي يعلوه تمثاله مبهرج بصور ورموز شتى من التاريخ البشري. او التاريخ الغربي خاص، إشارة من الإغريق والرومان حتى العصر المسيحي والمملكة البريطانية. هذه البهرجة نفسها هي آية في التنميق والتذهيب والفخامة والإطناب التزيني. ليست هذه سمة قبر ألبرت وحدها بل هي طابع جزء من المعمار اللندني الأمر الذي هو بحد ذاته مفاجأة. إذا لم يعد هناك في لندن ضباب فليس هذا هو الأمر الوحيد الذي لا نتوقعه في لندن، القباب المذهبة والتيجان والإشكال الزخرفة السيالة تجعل من لندن بخلاف ما كنا نظن، مدينة مبهرجة لاعبة مرحة مطنبة، مدينة خيالية. إذا جاز القول، إذا تذكرنا موسكو وأمستردام ولندن هذه المرة بدا لنا ان هذه هي حقا مدن الخيال، ولندن تجمع في الغالب بين بذخ أمستردام الزخرفي ونمنمة باريس.

اذكر أستاذ علم النفس الذي كان يتكلم عن الهواس البريطاني مقابل الهستيريا الفرنسية، لا بد ان هذا الهواس يتمتع بطاقة خيالية وتمثيلية بلا حدود، يصح ان نقول عن لندن إنها مدينة عظيمة لكنها ايضا مدينة حرة حتى بالقياس الى باريس المصنوعة بنظام ودقة ساعة سويسرية. والتي ينبع جمالها من التناسب واللطف والسيمترية والانزياح اللطيف والمحسوب عن التناسب. الميلودي عنصر جمال باريس الأساسي إما لندن فإنها لا تختصر في ايقاع ومتوالية نغمية، ثمة ما يضرب المخيلة. هذا البذخ البصري الذي يجعل من المرئي باهرا من العين آلة مخيلة ضخمة، إنها اكزوتيكا المدن في أفضل أحوالها، صندوق سحري مكتظ بكل مفاجئ ولكن ايضا ساحة فراغات شاسعة ورائعة. المنتزه الإنكليزي <<هايد بارك>> مثلا. مرج بلا حدود. رقعة هائلة متغيرة من الأخضر المجزوز والسماء الزرقاء. كان دولوز الضيق الصدر بالجمال الباريسي يبحث عن الجمال في أمستردام التي لا تشبه حدائقها البرية الحديقة الفرنسية المرتبة المتوازية، واجهات أمستردام المتلاصقة المصطفة على الشعرة دون تقديم او تأخير مقبضة من ناحية ما. كذلك الماء الراكد في قنواتها المهجورة أما لندن فأكثر حرية.

المحطة الثالثة في جولة حازم. إذا لم ننسَ، كانت سوبرماركت هارودس، ربما هي أكبر سوبرماركت أوروبي كما يقدر حازم من دون جزم. انه والد خطيب الأميرة ديانا الذي قضى معها في حادث سير. إما المخزن العظيم فهو أولا مبنى عريق هائل. تحول بفعل ديكور فضفاض وبراق وفخم الى زينة بصرية، تحولت الأقسام الى مشاهد بحد ذاتها فقد تدخل الخشب والزجاج والحصى والألوان لتحويلها الى منتزهات داخلية إذا جاز التعبير، الأغراء، الأغراء اللوني والتشكيلي حاضران. إغراء رخيص في أحيان فخم لكن شعبي ايضا، براق وكثير وساطع من دون رهافة بالضرورة ولا ذوق رفيع. ففي المخزن ثمة حضور مقصود للضخم والفخم والكيتش والمصطنع. كما ان هناك ذلك الخلط بين أساليب وأزمنة في نوع من سيولة باروكية ومناخ سيركي استعراضي. إذا دخلنا القاعة المصرية التي أسسها الفايد هنا في نوع من تحية لوطنه الأول نجد نوعا من الكيتش المصري، تمثال ضخم لفرعون مصري هائل ونكاد يفوق حجمه الأصلي لكن مطلي بالذهبي مع كمية هائلة وبراقة من تقليدات فرعونية. انه العصر الجديد. ما بعد الحداثة التي لا تتناقض مع لندن التاريخية المبهرجة لكن تصل بها الى مدى التهريج البصري.
لا معنى للكلام عن برج لندن. قصر هنري الثامن الذي ننظر إليه كما ننظر الى مغارة مدينية أو تحفة للشر. لا معنى للكلام عن البرلمان وساعة بيغبن أو قصر بكنغهام، فهذه جميعها مشهودة في برامج تلفزيونية وأفلام حتى بتراءى للواحد عن حق انه رآها يما يكفي، أريد فقط ان أتكلم عن ذلك الجسر الجديد الذي امتد أمام تأت متحف الفن الحديث افتتح الجسر مرتين وفي كل مرة يظهر فيه محذور تمنع من استكمال افتتاحه وعرضه للناس، ثم لما أصلح وجهز للاستعمال استحيوا من ان يعيدوا افتتاحه في احتفال، وفتح للمارة بلا إشعار. الجسر معلق فوق نهر التيمس معلق أكثر منه منصوبا فهو لا يشبه الجسور المشيدة الحصينة، انه معلق كما لو كان حبلا بين الضفتين او شريطا، مجرد شريط ناعم ورقيق وشبه شفاف سال بين الضفتين، أقول شبه شفاف لأن لونه الرمادي أشبه السماء والماء ولأنه في انسيابه وتموجه أشبه الماء، بل بدا وكأنه بلابس الماء والسماء ملابسة يختفي معها فيهما أو يبدو طيفا من اطيافهما. وقفت على الجسر فوجدتني مكشوفا لكل هواء لندن وأثيرها وبردها الذي حضر كاملا وقويا معطيا خفقة جليدية لكل المشهد.

متاحف
تحفة حديثة هو الجسر ولندن منذ تاتشر مهمومة بأن تكون معاصرة وطالما كلفها ذلك مغامرات معمارية باهظة لكن لندن قدرت هي المشتبهة بهواس تاريخي بما يعني الهواس من احتباس وفي ترتيب معين. قدرت لندن على ان تكون ايضا عاصمة المغامرة الفنية التي قد تصل أحيانا الى حد التهريج البحت. متحفا تأت <<القديم والحديث هما قطبا هذه المعادلة، القديم هو متحف تيرنر قطب التصوير الإنكليزي بل هو حتى الآن مفاجأة التصوير الدائمة. يتاح لزائر تأت ان يرى قسما واسعا من أعمال تيرنر. ان يتابعه في جولاته وان يتمكن من هذا الفن الذي صنع من الضوء والأثير والذبذبة والإيقاع. أي ما هو في النهاية طيف الوجود ووتره الداخلي وانحلاله الأثيري الضوئي وغيابه في آن معا. ليس تأت القديم كلاسيكيا بل هو حديث أكثر منه معاصرا بل يمكنك هنا لان تشاهد تجارب لا زالت حية فاعلة فبالإضافة الى بيكون وفرويد هناك هاملتون ونيكولسون ودين وهوكني وايتاج. لا يزال هوكني مثلا في عزه. ثمة متحف كلاسيكي هائل ترى فيه تاريخ الفن من غيوتو الى فيلاسكيز وموني. هناك متحف البورترية الذي تنفرد به لندن، وزائره يتعب من تصفح الوجوه لكن هنا كل التاريخ الانكليزي حي. ربما يهمنا بين هذه الوجوه الجدية والمهمومة للأمراء والارستقراطيين والبورجوازيين والفنانين والمبدعين ان نخطف نظرة الى لوحة تمثل اليزابيت وألبرت حيث نرى الثنائي الملكي في لحظة لا يستطيع العرش ولا الوضعة الرسمية أمام الرسام ان يخفيا عن العيون فرح الشابين بلقائهما وخصوصية هذا اللقاء، سنصل طبعا الى بورتريهات فنانين وعازفين ورياضيين لكن معرضا في المتحف للبورترية الحديثة يتحدى كل هذه المهابة والثقل اللذين يبدو فيهما المجتمع الانكليزي بتراتبه، ففي البورترية الحديثة نجد عبقرية اللعب بالوجوه، التشويه البليغ. التعبير الفظيع والهازئ من كل بورترية وكل وجه، هكذا ننتهي من صحبة كل هؤلاء الكبار الى صدمة، ففي المكان الذي يبدو فيه الهواس الانكليزي التاريخي في تجليه الكامل ثمة صفقة مع الشارع. مع العصر.

<<تأت>> الحديث يذكر ببوبور الفرنسي، انه على نسق مصنع. بل هو مصنع تحول الى متحف، لكن تأت من الخارج لا يعرض احشاد المبنى المعدنية وسلالمه وداخلياته كما يفعل بوبور، ربما لأن <<تأت>> مصنع حقيقي فيما بابور مصنع خيالي بل مكان لتجلي المثال المعدني والآلي، مدخل تأت عبارة عن نزلة واسعة وطويلة للغاية وعارية تقريبا شبيهة بمدخل مستودع. من الصعب بالطبع رؤية محتويات تات إلا خطفا، عليك بإرشاد مي غصوب التي تحفظ المتحف غيبا ان تختار سلفا. ترى ما تحب ان تراه وتنسى الباقي، ترتيب تات لا يقوم بالأسماء بل بالأعمال. هكذا لا يسعك ان تفرز أو تستثني، عليك ان تفتش عما تريده وسط الكل ولا بد من ان تمر ولو سهوا بالكل، ترتيب لهذا يخالف كل ترتيب وفي أي متحف. ربما هذه ايضا من انفرادات المتحف أو صرعاته ربما يعني ذلك ان الفن الحديث لا يقوم بالأسماء ما دام ينزع الى طي التواقيع وزوي الأشخاص والامتياز الفردي.. ربما.. ربما.. لكن الأكيد ان البحث بين أعمال لا يجمعها سوى الموضوع فحسب يجعل من المتحف فوضى هائلة مشعة وغريبة. أليس هذا هو الفن المعاصر.

لن نهتم هذه المرة ببيكاسو والسيرياليين والتجريديين. سنمر بهم بسرعة. سنرى كثيرا من المراحيض الموقعة لكن بغير توقيع دو شامب، مراحيض بلاستيكية وفخارية. لكننا سنرى أيضا صيدلية كاملة كما هي الصيدليات، رفوف تملأ الجدران بمختلف القناني والأدوية وكونتورات وصندوق للدفع. لا شيء يختلف هنا سوى يضع أوان غير ملحوظة تركت في أرض الصيدلية ولا تشكل في الحقيقة فارقا يذكر. إنها صيدلية فحسب لكن <<هيرست>> أخرجها من الاستعمال الصرف وجعل منها عملا فنيا وقعه إنها العاديات، أي عاديات لا يحتاج الى أكثر من توقيع، من لمسة، من متحف لتغدو فنا. تلك جماليات الواقع. هيرست نفسه كان قد حمل الى المعرض في عام مضى نصف بقرة مسلوخة دامية، حملها بالتأكيد من عند القصاب واكتفى، فلنصف بقرة مسلوخة <<جمال>> وفن لا يحتاج الى أي زيادة، لا يحتاج إلا ان نراها في معرض ونتناولها كعمل فني.

تحمل صورة جانبا من معرض ماض لسارة لوكاس، إنها عارية تحيط خصرها بفروج منتوف يغطي تماما ما بين ساقيها. فعلت ذلك في معرض سابق واستحقت عليه ردودا كثيرة وضجة. أما اليوم فهي تعرض على أرض الغرفة أشياء كثيرة. سوتيان ومرحاض وأغراض كثيرة منثورة على الأرض. ثمة فنانة غيرها نقلت غرفة نومها كاملة الى المعرض. غرفة نومها مع بعض الواقيات الذكرية، منفضة مليئة بأعقاب السجائر، أما ريبيكا هورن الشهيرة اليوم فصنعت لعبة هائلة ومثيرة. بيانو معلق في السقف. دقات طبل وتراه يسقط من فوق وتخرج سلالمه. يسقط الى حد طبعا وعليك ان تنتظر ضربات طبل أخرى قبل ان تراه ارتفع وعاد الى موقعه، نسيت اسم الفنانة التي عرضت عشرات الصواني المطرّقة تماما مع كل ما حملته من صحون وفناجين معدنية. مطرّقة وما عليها تحول الى صفائح مسطحة. معلقة ولا نراها إلا عبر ستارة مصنوعة من خيوط نازلة من السقف. هذا بعض ما أسعفتنا العجلة برؤيته، يتراءى لي ان العجلة والنظر السريع نسبيا جزء من ان الفرجة نفسها، فهنا ليس الافتتان والغوص في العمل والشراكة الوجدانية هي العلاقة المطلوبة. الأرجح ان التلقي يغدو هو الآخر يوميا ومحايدا وسريعا ايضا. جماليات الواقع تنتظر، إذا جاز التعبير، تلقيا من النوع نفسه. هناك التهريج، الكيتش، اللعب. كل ذلك يخرجنا من تأملية الفن وتراجيدية ويقطعه عن <<البحث عن الذات>> الشهيرة و<<اعرف نفسك>> السقراطية.

يوم أحد
كان يوم أحد ذلك الذي اختارته بانيبال لمهرجانها الشعري العالمي نهار أحد في معهد الدراسات الآسيوية الأفريقية في جامعة لندن حيث نمر بمحاذاة مكتب ن. س إليوت قبل ان ننعطف الى الجامعة. لم يتوقف امجد ناصر عن تحذيرنا من ان لا نتوقع كثيرين في القاعة، هذا يوم أحد والناس في عطلة والجامعة مغلقة بالطبع وهو يوم مشمس ولا شيء يتقدم على الشمس عند إنكليزي، كانت ملاحظات وجيهة الى الحد الذي اقلق مرغريت او بانك وصموئيل شمعون الذي اعتذر بأنه لم يستطع ان يحجز قاعة سلطان بروناي إلا لهذا اليوم. حين وصلنا قبيل الوقت لم نجد سوى قليلين، صحت توقعات امجد لأول وهلة وعلا سيماء صموئيل همٌ <<جدي، كانت القاعة فوق ذلك كبيرة وضعنا فيها، شعرنا كما لو ان ضحية هذه القاعة واليوم المشمس وبدت فكرة المهرجان الشعري فجأة بائسة وبلا جدوى. زاد في رثاثة الحال ان شمعون بحث عن الميكروفون فلم يجده. انه نهار أحد ولن يجد أحدا يهديه إليه. كان فقدان الميكرفون إنذارا ساخرا بالطبع وإشارة لا ترد لركاكة الوضع الذي وصلنا إليه، بدا الأمر بالنسبة لي كوميديا والمفارقة واضحة بين عالمية المهرجان وفقدان الميكرفون، قال امجد ان المهرجان نجح العام الماضي فقد أحسن اختيار اليوم والمكان. تفرقنا شللا صغيرة وبدأت أحادث الأصدقاء الكثيرين الذين غابوا عني منذ وقت طويل من دون ان انتبه الى ان الكراسي تمتلئ بأشخاص يصلون من دون ضجة ويجلسون دون ان يعجلوا مثلنا الى ملاقاة أصدقاء قدامى. كانوا جمهورا بحق وجاءوا للإصغاء. لم نعرف متى سنبدأ لكن جوا من الجد بدا يهيمن ولم نلاحظ إلا بعد وقت ان الكراسي تمتلئ وان عشرات جاؤوا من كل مكان. أكثرهم لا نعرفه. أكثرهم ليسوا عربا. لم تعد القاعة فارغة ولا شاسعة، لم يعد الوضع مفارقا وساخرا، لم يعد الشعر مطرودا وبائسا في يوم أحد مشمس في لندن، لم يعد الوضع ركيكا وباعنا على الرثاء. لم نحتج الى ميكروفون لنعرف ان للشعر موضع ومنبر وان أكثر من مائتين ينتظرونه في صمت وترقب، كان قد مضى وقت على الموعد وآن ان تصعد مرغريت وتفتتح المهرجان.
بدأ المهرجان مديدا، صعد امجد ناصر وقرأ قصيدة فريدة يتحدث فيها عن خاتم لسعدي يوسف أهداه له وجرّ عليه شرورا كثيرة، قصيدة لا مثيل لها في شعرنا كما اظن، قرأها بصوت هادئ وواضح يحاذر ان يطغى على الكلام، كان ذلك أكثر من مداعبة بالطبع وأكثر من حكاية ايضا فقد كان هناك سر بل ولعنة ومعني خفي ومقلق. ميتافيزيقا ساخرة في خاتم سعدي يوسف الغريب والمؤذي، كان الشعر على نحو ما حاضرا في هذه الهدية او هو معناها الضمني، صعد الشاعر الصيني فتكلم عن لندن، القاؤه كان أشبه برحلة في المدينة عامرة بالمفارقات والصور، صعد الشاعر الجامايكي بقدمين محطمتين ولم يستطع ان يصل الى المسرح إلا لمشقة كبيرة كان شعره خارجا من معاناة وعميقة، من بئر. من سجون وسلاسل واعتداء فظيع، رِثى عبد الكريم كاصد زوجته صعد سعدي الذي استقبل بتحية مجلجلة من العرب والإنكليز وقرأ قصيدة عن الشعراء وللشعراء، قصيدة صداقة ولكن ايضا عتب وملامة، حيث ينجو الشعر يسقط الشعراء، حين تربح القصيدة تخسر الصداقة. صعد كاظم جهاد وقرأ قصائده القصيرة التي تحبكت بلغة بورخيسية أسرارا عظيمة من إشارات وامضة وملاحظات أشبه بنقوش بل ووسم على الجلد أحيانا، صعد حسين النجمي وقرأ مرثية صحراوية مشت كقبر مفقود في سماء لندن قرأت الشاعرة الباكستانية وقرأ الدانمركي والإنكليزية، فاصل ونصعد معا وجميعا الى مقصف سريع. كان ثمة وقت آخر الآن وبالنشوة نفسها أكلنا وشربنا لنعود الى القاعة التي سال فيها الوقت وسال الجو وتقاطعت اللغات والصور والأسماء. صعد شعراء وشعراء وامتد المهرجان ثلاث ساعات كاملة. بقي الجميع تقريبا طوال هذا الوقت يصغون. لم يتحركوا من أماكنهم. تحقق الشعر بالتأكيد أو وجدت من قلب هذا العناء والانتظار والمشاركة لحظة فعلية للشعر. وجد الشعر بموازاة الاحد والنهار المشمس، حين خرجنا من القاعة فوجئنا بالعالم، كنا عميقا وعميقا في الداخل ولم ننتبه كم جدارا تجاوزنا وكم قطعنا من مسافات في أنفسنا وأحلامنا وأفكارنا قبل ان نخرج

الأمسية العراقية كانت شيئا آخر ففي القاعة الصغيرة التقيت بجزء كبير من عالمي وذاكرتي، معظمهم اعرفه من بيروت. اقترح سعدي الأمسية وقدمني فيها امجد بكلمة كانت بالنسبة لي هدية اللقاء كله، فهذه واحدة من المرات القليلة التي ينتج فيها الشعر والصداقة بالخيط نفسه وتبدو علاقات النصوص بشفافية وزخم العلاقات الشخصية، أرشدني أمجد في كلمته الى القصائد الذي قرأتها. كانت مناسبة أيضا لأتكلم عن ديني الشعري الشخصي لسعدي. وفي الصالة الضيقة وبعدها في البار التقى الغرباء وعمرو بكلماتهم ولغتهم المهجورة تذكارات ومضوا.
السفير اللبنانية

السفير - الجمعة 12 يوليو 2002 04:15


إقرأ أيضاً: