لم استطع ان التقط اسمه من المرة الاولى ولا هو استطاع ان يلتقط اسمي. بقي اسمه على كل حال ملتبساً على الألمان أنفسهم حتى حسمه هو. إنه هودياك وليس هودجاك، كما يمكن ايضا لفظه، فالرجل ليس ألمانيا إلا باللغة ومسقطه الاول رومانيا وليس ادل اكثر من وجهه على اصله، فهو استدعى فوراً الى ذاكرتي سولجنتسين وبدا لي انه طالع من عالم روسي. لم افاجأ بأنه ليس المانياً وإن لم تكن عندي صورة واضحة للروماني والشاعر الروماني الذي التقيته في كولومبيا والشاعرة الرومانية التي التقيتها في لوديف لم يستحضرا في رأسي سولجنتسين ولا سواه. الأرجح ان هودياك ليس المانياً في الهيئة ولا رومانياً ولا روسياً بالطبع انه ينتمي من هذه الناحية الى عالم ليس سهلاً تسميته، عالم دخل منذ وقت في الخيال ولم يعد ممكنا تمييزه من الواقع. كان هودياك شريكي في مختبر الترجمة الالماني، لم يكن يعرف لغة عالمية اخرى، ولم نتبادل أنا وإياه كلمة واحدة. كان بيننا فقط نصوصه مترجمة لعربية سيئة، ونصوصي في الغالب بألمانية مماثلة. كنا نتعرف على بعضنا عبر نسخ محرفة، كان ميكاييل كروس شريك بسام حجار طلقاً وبشوشاً وملماً بالعربية والانكليزية وحتى الفرنسية. أما بريجيت اولشينسكي شريكه صباح زوين فكانت بالتأكيد تفهم الفرنسية وتعرف الانكليزية عدا عن ان صباح تعرف الالمانية. بين كل شريكين كان هناك بالطبع النص الألماني والنص العربي محرفين أكثر منهما حرفيين قال بسام وقالت صباح ان النص العربي رديء للغاية، مستحيل الفهم. كان بيني وبين فرانتس هودياك هذا النص المستحيل وعلينا ان نتكلم عبره وعبر غونتر اورف المستعرب الالماني، غونتر من اكثر المستعربين الذين اعرفهم علما بالعربية وهو مشهور بذلك هنا، الدولة توكل إليه الترجمة الفورية لزوارها العرب الكبار وآخرهم خادم الحرمين السعودي، لكن غونتر مثله مثل غالبية الناس، ليس مهتماً بالشعر، انه لغة لا يؤثرها بالطبع ولا يسهل عليه فك غوامضها.
من الجلسة الاولى قال لي هودياك، عبر المترجم بالطبع، انه يجدني سيرياليا، ليست هذه هي المرة الاولى التي اجد فيها من يصفني بالسيريالية، فكل غرابة تنسب عادة الى السيريالية. هذا بالطبع مقبول من مثقف عام لا يتردد في وصف الوضع اللبناني اليوم بأنه سيريالي، اما ان يقوله شاعر فهذا امر آخر. لا تروقني هذه الصفة على كل حال ولذا دافعت عن نفسي قائلا ان السيريالية حاضرة بالتأكيد في فضائنا الشعري وتراثنا الخاص، على هذا كلنا سيراليون، اما ان نرد الى السيريالية كل غرابة فهذا ما لا افهمه، فأنا لا اطيق الدفق اللاواعي ولا الكتابة الاوتوماتية، والتنظير السيريالي يبدو لي سفسطة او تلاعباً نظرياً، وأظن ان واحداً مما يميز جيلي الشعري عن سابقه هو بالضبط هذا التحرر من السيريالية. سعى فرانتس هودياك الى ان يشرح لي ما يعنيه بالسيريالية الا ان جزءا من الشرح ضاع غالبا في الترجمة. كل ما فهمته ان وصفه لي بالسيرالية ليس سلبيا، وانه رغم مرافعتي لا يزال يراني سيرياليا او متأثرا بالسيريالية، لم افهم ماذا يريد الا حين باشرنا الاستفسار والاستيضاح حول النص المترجم، اذ ذاك انتبهت الى ان النص الذي بين يدي من شعر هودياك هو ايضا، في ترجمته، سيريالي. انه ايضا صور مبعثرة بلا سياق. بدأ هو الاستفسار جملة جملة وصورة صورة، كان يطيل الاستفسار ويتوقف احيانا عند كلمة مفردة طويلاً حتى يجد الخيط والمعنى، كان يبحث عن سياق للكلام ويتعب حتى يجده. يجده احيانا في موازين الكلام ومقابلاته يجده في التركيب اكثر مما يجده في التتابع. يجده بطريقة ما وحين يفهم ذلك يرتاح فقد تراءى له النص كفكرة صلبة وصار في إمكانه ان يستوعب علاقات النص ويعثر على بنيته. حينذاك كان يدلني على مواضع ذلك في النص، يدلني على المقابلات التي لم اكن انتبهت لها، ويستخلص اكثر مني فكرته الداخلية. لا اعرف ماذا يسمى ذلك هل نسميه ترجمة ام ان له اسما آخر. ليس ترجمة بحتة، فالترجمة بمفهومها الحرفي قد سبقت في النص الذي بين يدي وبين يديه. انها ترجمة رديئة لكنها الترجمة، وهي مادتنا الاولى وعملنا عليها. ما كان هودياك يفعله هو بحث في داخلية النص، بحث عن سياقه وفكرته الضمنية، عن اوله وآخره، عن تركيبته وبنائه، اذا جاز القول.
حين انتهينا بصعوبة بالغة من النص الاول، صعوبة خلت اننا لن نستطيع معها ان نخرج منه، كان علينا ان نتعذب بالقدر نفسه في النص الثاني. لكن هودياك اهتدى هذه المرة بقوة اكبر الى بنية النص. لا اعرف اذا كان من الممكن ان نعتاد شاعراً او ان لكل شاعر او كاتب طريقته الضمنية، وفي وسع كاتب آخر بخبرته وحدسه ان تتفتح له هذه المغالق، وأن يملك شيئا فشيئا حيلة الكاتب واستراتيجيته كما يحب صديقي صبحي الحديدي ان يقول. هل يمكن ان يدخل كاتب في لعبة الكاتب الآخر وأن يصل في النهاية الى توقعها. ما حدث هو ان فرانتس هودياك صار يجد طريقه الى النصوص الاخيرة وقلّت اسئلته واستفساراته، او صار اسرع الى فهم اجوبتي. لقد كوّن فكرة عن كتابتي، صارت بالنسبة له مرئية اكثر، غدا قادراً على توقعها وتخيل داخليتها، وعلى السير في مسالكها.
لم يكن حالي معه مختلفاً، ما لبثت ان فهمت ان النص الاول حكاية على نحو ما، انها حكاية لا واقع لها كما هي حكايات هودياك. حكاية من اللاشيء تقريبا. حشرة على ورقة، انها مفتتح سؤال كبير لا يلبث ان يختفي تقريباً. السؤال نفسه يكاد يكون مختلقاً، انه يخفي حقيقته بالسخرية لكن هذه الحقيقة لا تختبئ كثيرا اذ تلسعنا احيانا «هنيئا لنا الخونة، من غيرهم يستطيع ان يفهمنا». السياسة في صلب كلام هودياك لكنها ليست سطحه. السياسة هنا ليست الجملة الاولى، انها تأتي تالياً، يبدأ النص من شبه طرفة لكنه يطرق السياسة وكأنه يجدها في نطاق حفرِهِ، انها طبقة من وجود الاشياء ومن ماهيتها. ليس الظاهر سياسياً بقدر ما انه الباطن، السياسة ليست بالطبع دعوة هنا ولا جواباً، بل انها ليست قضية بحد ذاتها، انها سؤال مسدود، وبالسخرية غالبا، وكأنها ميتافيزيقا اخرى. اذ ذاك يمكن ان توازن قليلا بين وجه الراهب الذي لهودياك وصرامته وثيابه السوداء وقصائده.
لا اعرف اذا كانت قصيدة هودياك المانية، لكنها ليست كذلك بمقياس قصائد روس وأولشينسكي، اذ يمكن القول ان قصائده هي في اكبر قدر ممكن من الاختصار، اختصار السرد واختصار الفكر واختصار الشعر واختصار اللغة بالطبع. يمكننا ان نتكلم هنا عن ميل الى البساطة واللاشخصية والكبت العاطفي واللغوي المغلفين بالسخرية. ليست هذه حال زميليه اللذين كانا اميَل الى تفكير عال احيانا أو الى تعنيف للغة احيانا اخرى. لكننا مع ذلك لا نستطيع ان نخرج شعره من الديوان الالماني اليوم، قد يكون بعيدا عن اولشينسكي الحارة او روس المفكر العلني، لكنه ليس بالبعد نفسه عن انستسبرغر وشعراء آخرين في المانيا اليوم.
لا اعرف كيف غدا رأي هودياك في «سيرياليتي» بعد ان انجلت له القصائد، أحسب انه بقي يراها عنصراً لكن مضافا الى عناصر اخرى، وحين أراد ان يتكلم عني في الامسية التي قرأنا فيها نحن والشعراء الالمان قصائدنا وترجماتنا لم يأت على ذكر السيريالية لكنه تكلم عن انطلاق الشعر من موضوعات ليست في البال، قدمني مقطوعتين، دواليب... عجبا كان بوسعي الكلام عنه بالطريقة نفسها. لم يكن هذا وحده يشير الى قرابة ما بيننا، كان بوسعنا ان نجدها في نواح اخرى. كان بيني وبين الرجل الذي لا سبيل الى الكلام معه، إذ بتنا نحن الاثنين المحبوسين كلاً خلف لغته، كان هناك قرابة لا ندري كيف تولدت. هل كانت قائمة خفية عنا، أم هل صنعناها نحن بطريقة خافية علينا، أم ان النصوص تتعارف وتتلاقى وتتقاطع من حيث لا نحتسب. طالما فكرت بأن للنصوص تلك القوة، ان «المؤلَف» بفتح اللام، انما هو بالدرجة الاولى صنيعة هذه القدرة. تلقي بنصوص متفرقة في ديوان او كتاب فتجد انها تعالقت واشتبكت وأسست فيما بينها فضاء. هل يمكن ان يحصل ذلك بين نصوص اشخاص مختلفين. من بين المفاهيم السيريالية كنت افكر دائما بالصدفة الموضوعية، انها من لا معقولات بروتون ولكن هي، لهذا السبب او سواه، الاكثر فعالية انها سر نريد ان لا نتدخل فيه وان نتركه وحده يعمل.
ميكاييل وبسام اتفقا على كتاب اقنعا به ناشريهما. بريجيت وصباح تبادلا بالألمانية كلاماً وتحايا. الأغلب ان كلاً منهما اخذ عنوان الآخر وتلفونه. لم نفعل أنا وهودياك هذا. لم نجد سبيلاً الى قوله. في الامسية الاخيرة في لبنان، فقد عاد الشعراء الالمان معنا وأحيينا في جدل بيزنطي ومعهد الآداب الشرقية الالماني ومعهد غوته في طرابلس، قلت في شعر هودياك ما اردته ان يسمعه عبر المترجم. كان بيننا هذا الشعر وحده ولم يكن قليلا. في الترجمة استدخل كل منا شيئا للآخر. لكن الشعر ليس اقل صمتاً، ولسنا ندري الى اين تؤدي الطرق بالصامتين.
السفير - الأسبوعي