هنا لا أريد أن أتكلم عن الرطوبة والحكمة والعناصر الهندسية الخادعة لعائلة من ثلاثة أفراد: رجل وامرأة وطفل. وليس هنالك ما يكفي لخمسين نيوناً لإضاءة الأشياء الخاطئة والمزمنة لصفحات الأماكن التي أراها في الكوابيس كل يوم. ليست أحلاماً، إنها كوابيس بدائية من النوع الذي تكتنفه لوحات سلفادور دالي. أراضٍ غريبة ومنعزلة. عصافير وطيور مفترسة، ومسابح مهجورة. أرض كأنها على سطح المريخ. ست سنين في أميركا وإلى الآن لم أر حلماً واحداً عن المكان الأميركي، كانت أصوات حثيثة في رأسي تدوي: أصدقاء قديمون، شوارع دمشق ووجوه لا حصر لها لن أستطيع التعرف عليها على مهل. رجل وامرأة وطفل كل واحد منهم ينحدر من سلالة، سنضحك يوماً تحت درب التبانة، سنضحك نحن أبناء العالم الجديد على آلامنا المبهمة وليس هنالك ما يروي ظمأي وتلك الضراوة التي تمتلكها روحي وجسدي معاً: كأن أقفز من دور عال تحت قناطر نهر الهدسون. أو أن أشرب بسرعة مئة كلم في الساعة ويلتمع كوكب الزهرة قوياً أبيض كأنه مرسوم بطباشير رطبة. حتى عادات أكلي وشربي تغيرت كثيراً، في هذه الأعوام الستة كل السيول المفاجئة والعنيفة تحرك حواسي مع كل إغراءات فنون العمارة الحديثة، الخرافية بشكل كبير. لم يستطع قلبي الرعوي معها أن يحتمل كل هذه التحصينات والألغاز اللانهائية التي توقف شعر الرأس. لا أدري ما الذي حرّك فيّ فكرة السفر. بالنسبة لي كانت أميركا بلداً بعيداً، بعيداً جداً، يتعذر علي شرح حماستي وأنا أركب الطائرة هكذا ومرة واحدة سأحلق فوق الأبنية العالية التي رأيتها في الأفلام. أبنية عالية عالية عالية خارج الزمن الأرضي، صورة نظيفة جداً في الليل الذي تتحول فيه المدينة إلى كواكب ونجوم.
كل البنوك والمصارف والشوارع المعتمة والمشردون والسيارات والمطاعم والبارات والفنادق والآلام والضحك والخواتم في أصابع فتيات الغجر والمسارح وفناني الأرصفة وأطباق الأكل الصيني جميعها ستتحول إلى مجرة كهربائية، كهرباء ساحرة لا تقدر بثمن. تحفة أرضية قادرة على أن تلفق كل الأهوال والفظائع التي تجري تحتها هناك حيث جيوش الشغيلة خارجها وداخلها بلحمهم المتشظي إلى ما لا نهاية، آلهة منسية وأعضاء بشرية تنهرس في الحديد كل يوم. الزنوج هم الوحيدون الذين يجدون منافذ شجاعة للإطاحة بكل ما هو ثمين، هنا حيث التبطل والحشيش والموسيقى وقوة الخيال البري وعدم الولاء لأي شيء.
رجل وامرأة وطفل: هكذا في المنفى، سأقول منفى يا صديقي الشاعر الذي أحبه وأحب شعره. لم أستطع إلى الآن أن أمتدح المكان، أن أمتدح حتى قلة غباره ووحله، لست لأنني ساذج تحت مثلثات هذه الأبنية الضخمة. لست مريضاً، ولا فائدة من مناشدة الله على المرتفعات. لم تعش أنت هنا. أوروبا رغم تناقضاتها هي غير الكون الأميركي، كل الفلسفات هنا والشعر والموسيقى التي تسير عكس جهة السيستم محجور عليها، وإن خرجت إلى النور سيستنزفها النسيج القاسي للصحافة والإعلام ونظام الدعاية، حتى لتبدو صورهم خلفية لحقب ما قبل التاريخ في متحف ما أو ملجأ إن أحببت. هنا المكان يتجاوز كل توقع، يتجاوز التاريخ والإنفعالات البسيطة التي تحدث في محطة مترو بين عاشقين.
لا أدري عندما تاه كولومبوس في المحيط هو و"بنتا ونينا وسانتا ماريا" أسماء السفن الثلاث اللواتي حملنه بالخطأ إلى جهة لم يكن يقصدها، عليها دلائل حضارة قديمة وعقائد لها علاقة بالشجر والريح ولغة القلب، هنا حيث لا توابل أو فلفلاً حاراً بإمكانه أن ينقذ أوروبا تلك الفترة. هذه الجهة ستصبح مهددة بالانقراض وسيتآخى الدم والنبات المحروق. هل كان يدري أن كل هذه المبارزات مع الهنود وكل مساحات الأرض التي لم يكن ينبت فيها القطن ستطلق العنان للثروة وأفّاقي المال وسفن النساء المحملة من آسيا وأفريقيا. وول ستريت طويلة، نصب نحتية، وواعظون جدد يخدمون الله ويصادقون حاشية من التجار والحكماء. الصناديق الملكية المغلقة، كتاب العدل، والعيون الشاردة لفلاحي المزارع في المستعمرات.
رجل وامرأة وطفل في الرحم العظيمة ليس لنا أسلاف أو سر أو حتى طمأنينة كالتي لدى الجنين الذي في سلام. هنا في العوالم العصية على الفهم حيث لا بطولة أو مخلّصين على كثرة الكتب المقدسة التي تباع في كل مكان من مشرق أميركا إلى مغربها وأينما توجهت، على الأرصفة ومواقف الباصات. هنا حيث العقائد أكثر من عدد السكان. التيجان والمدافن الزجاجية وشرب الحليب كل صباح. أجساد شاسعة لا تحصى تزرع الذرة والبطاطا وتربي الماضي في أصص نحاسية كي لا تموت اللغة ويموت النبات في الندوب المفتوحة تحت العين.
هل ستطول حياتي هنا؟ لطالما سألت نفسي هذا السؤال. وإن عدت إلى أين أعود؟ سأبتسم ابتسامة عريضة، مرة بعد مرة الرائحة الزنخة التي تملأ خياشيمي، رطوبة نيوجرسي القاتلة، الديدان والسناجب التي على شجر التفاح أمام بيتي تعطي للمشهد بعداً قيامياً، أتلفظ أنفاسي كأنني أغرق، يا إله الغازات السامة تحت القناطر المقوسة، في المنامات التي أرى ليس أكثر من صحاري خالية، جرذان وأجساد منسوفة على ضفاف أنهار مجهولة الجهة. كل الحروب التي حدثت والتي تحدث الآن لم تغير مناخ البشر الحاد وميلهم الفطري للقتل قبل التحية، أو حتى ابتسامة بيضاء تغطي الملمح البربري وبقع الدم التي على الركب.
قلت لأبي أهبني قطعة من أراضيك واجعلني أعود بخفي حنين إلى رشدي. بقربك، ولو على حدود البادية، سأشتل الحبق والقصب وأبكي أكثر من أي وقت مضى. سأركض حافياً من أول البلدة إلى أطرافها الشرقية والجنوبية والشمالية والغربية، وعلى الجبل الذي كانت تنزل منه ماء زرقاء سأندم ندامة الكُسعي. ولست راغباً، على طريقة الرحالة الإنكليز، بالذهاب إلى حدود الصين . سأعود إليك، دون أن أصعد إلى قمم الآنديز، ودون نوبل، ودون حتى حقائب. سأعود إليك كما خلقتني أمي.
نيوجرسي، أميركا
المستقبل
الاحد 4 تشرين الثاني 2007