أكرم قطريب
(سوريا/ أمريكا)

ـ الكراسي...

أكرم قطريبثمة بشر نائمون في مفاصلها لا يغادرونها. منظرها المبعثر حول الطاولات يوحي إليك بحروب صغيرة حدثت وغادر أصحابها. ضوضاء وبضعة تواريخ مكتوبة في دفتر ملاحظات صغير.
ليس أي كلام يمكن ان يقال عن المقهى، اذ يصدف أحيانا ان تضحك أو تصمت وراء الواجهة الزجاجية، حيث علي مقربة خطوات يتحرك العابرون بضرب من السخاء في اتجاهات يقودها أحيانا القدر والتردد والفضول والعدم، يقبع وراءها وجود المقهى المحفوظ: جرعة اليوم التي لا بد منها، جاذبية لكمين الصمت والثرثرة وميلان الرأس علي الجريدة أو الكتاب أو رقعة الشطرنج أو لا شيء.
وجوه مشدودة ساهمة بين دخان التنباك الوطني، حيث لا مفر من استنشاق كل الحمولة من السحب العالقة بالسقف. لا مفر من صعود العتبة والدخول في شبه جزيرة تتحول آخر الليل إلى منفضة سخية.
أكثر ما كان يشدني في مقهى الروضة الدمشقي ملامح الناس الخاطفة علي الرصيف وهي تتأمل بفضول الكائنات الغرائبية التي تتحلق مهمومة علي نحو يدفع المتفرج الذي في الخارج ان يظنها مخلوقات مريخية موفدة من السماء.
وسـنلمح الاقتراب والتداخل الحذرين بين الشارع ومقهاه كما كتب مرة احد الأصدقاء.
ناهيك ان الفسحة السماوية التي لها علاقة أصلا بالشارع معدومة وهي محشورة داخل المقهى قرب منقل الفحم المتوهج. أصوات وروائح. حواشي المكان من الضجيج والخيالات التي تحوم فوق الرؤوس المنحنية.
استطيع ان أتذكر ما الذي كان يدفع قدميّ باتجاه هذه القطعة من دمشق. كان المقهى ينام معي تحت الوسادة، لا ادري لماذا؟ ما زال احدي العلامات الغائرة في روحي، قد أطبق جفني وأتخيل شجرتي الكينا وأرداف لا نهائية تدون علاماتها الموسيقية في عبور مقدس أمام جوقة من المتيمين تجلس كتماثيل بوذية تحت شجر الكرز المتخيل.
شارع العابد يميل خفيفا، دهليز الخطوات المكسورة وحائط مبكانا النهاري. بوصلة متاهتنا ودار عبورنا إلى الحانة اومعمى المكان.
شيء مني بقي هناك، ندف وحقيبة مركونة قرب فرجة الشباك فيها كل أسراري بقيت هناك، في هذا الحقل المغناطيسي، ثقب عمري الأسود، هدرت أيامي ودقائقي، والآن أتعلم الحنين علي طريقتي مكتشفا الأسس الغامضة للتيه والطمأنينة وكأن يكون لظلي الشقي ولو خيمة في صحراء.

***

إذا أردت ان أجول بين مقاهي دمشق والقاهرة وعمان وبيروت وطنجة ونيويورك سألمح تلك التباينات التي قد توجد في لوحة تجريدية لجاكسون بللوك، من المناخات المتفاوتة إلى الحركة والغواية التي يختلف فيها كل ركن عن الآخر. منها ما يتداخل مع البحر مشغولة تلتصق بسقف السماء، ومنها ما يصبح جزءا من التلامس السرمدي لهدير الشارع، ومنها ما هو محض مساحة واسم مفرد للفراغ.
أتساءل ما الذي يدفع أصحاب هذه الأمكنة لتأبينها والي الأبد كما حصل مع لاتيرنا دمشق ومودكا بيروت . أي إغراء يكتنفه رأس المال هذا، أو رأس البصلة إذا صح التعبير.
كان بإمكانك ان تمنح اللاتيرنا لقب سفارة بامتياز. لأنك كنت ستجد أي تائه هناك مهما كانت جنسيته، وقد عثر علي ضالته بمساعدة السفير الفخري لورنس العرب .
بعد البيع والتحسينات وأعمال الديكور الباهرة تحول المكان إلى شبه مكان لا حياة فيه، الداخل إليه كالداخل إلى مركبة فضائية من نوع تشالينجر ـ صنع محلي الآن نجلس القرفصاء ولا نمس الأرض، تحديدا، حين تلبس الظهيرة سترة غامقة لنستعيد كل أحلام اليقظة تحت مظلتها بدون قبعات، وبخفة هوميرية سندفع ثمنا باهظا عن كل المسرات التي قطفناها غصبا عن مرقص الأفاعي.

***

احسد الذي يشغل كرسيه لساعات أو دقائق وهو يكتب في المقهى بكل هذه الهالة الرومانسية.
احسد الذين يجيدون كل هذا التماسك أمام الكاميرا بينما المسجلة تنوي ان تدون ضبطا، لاوفيدما، في شريطها البني.
كان الصمت مرارا قريبا مني، صديقي اللامرئي والفكرة المحبوسة علي طرف اللسان، حين آخذ المرآة إلى البيت واضعها قبالتي اشرع بالكتابة عن الذي يسكن فيها، حيث لن أجد متعة تضاهي شكل تدفق خطوط الحبر في آلاسكا البياض. هنا كل شيء ملك موجة اليد، من هنا ستخرج عائلات المخيلة وسواتر ذهب وأرصفة يحدق فيها الدم ورائحة نعناع لا تثير انتباه احد.
النادل حكم في الروضة لا يحب الشعر الحديث لكنه يصبر علي جلوس طويل لنا، وقد لا يتواني بالسؤال احد مخرجي وكتاب السيناريو عن دور له في مسلسل من المسلسلات.
حكم الرقيق، العصبي، الطويل، بقية الضحك وصورة النافورة الحجرية المنحدرة من التعب يرصف أسماءنا بنعوت رنانة، لا يكف عن الدوران طيلة النهار ولا يتنفس الصعداء.
ستترك ظهرك للمدينة وأنت تدخل، علي قيد الحياة، عبر البهو الذي يكشف لك عن وجوه صنعتها ورشات الكآبة بعناية لا مثيل لها. بروفيلات جانبية. مائلة، حذرة ترشح منها قسوة رعوية مطروقة بعناية علي السحنات.
كما المقهي بيت آخر، أثيري، متقشف وداكن كالشخوص الخارجة من روايات رشيد الضعيف وعلي عبد الله سعيد وإبراهيم أصلان ومحمد شكري ومؤنس الرزاز ووجدي الاهدل وبول اوستر.
كما المقهي الذي هدم علي رؤوس أصحابه بينما نحن ننتظر الباص الذي سيقلنا الى الضواحي والأقاليم، سننتبه فجأة في الصباح أننا كنا مجرد حساب ناقص في فاتورة، سنتأثر وسترتفع حرارتنا مع حرارة آب، وستحوض في الليل، علي غير هدي. بحثا عن مأوي آخر.

***

أصحو متكئا علي طاولة في المكتبة العامة التابعة للمقاطعة، مكتبة ضخمة تحوي رفوفها مجلات وكتب فن وتواريخ وأديان وموسيقي بوب وجاز وأوبرا.. ستري شكسبير علي الرف مائلا علي كتف والت ويتمان، أو روبرت فروست يبتسم لجبران خليل جبران. سيلفيا بلاث وتيد هيوز يقعان علي الأرضية بينما يحاول احدهما ان يمد يده الى كتاب شعراء سود أمريكيون . في هذه اللحظة سألمح الأعمال الكاملة للأوسكار وايلد قصائد ـ مسرحيات ـ قصص.. .
سيختلط هؤلاء برائحة البن النفاذة. اذ لنومهم الغنوصي هذا قرب المقهي وداخل فنائه وتحت هواء الكونديشن ما يغريهم بالاستيقاظ بعد ان يغل الذي سيفل، حينها ستعثر خلسة علي بورخيس وقد تحلق حوله الجميع وهو يعيد كتابة الأطلال الدائرية .
شاعر من سورية يقيم في أمريكا

القدس العربي
2004/05/12


إقرأ أيضاً: