أكرم قطريب
(سوريا/ أمريكا)

أكرم قطريبقالت : أحب كارل ماركس
وأنا أحب نيتشه والبيرة الألمانية تحديداً بصحبتك والجلوس هنا بقربك.في هذا البار العجائبي ومعك سأكتشف" رأس المال " وغوته وكتب الغزاة وأسباب التفوق الآلي للحضارة التي تسمى أميركية .العنف في العالم الثالث وأشكاله في العوالم المتحضرة. الفتوحات والهزائم والعسف وصكوك إمتلاك الوديان والجبال والجزر العائمة في المحيطات
أعجبتك فكرة نهاية العالم القريبة في روزنامة قبائل المايا وإنغمار القارات بالماء. تحدثنا عن المكان الذي يتحلل على شكل غيوم مجردة , وعن الذهب المخبأ في خزائن البنوك الضخمة . طلاء يتقشر على مهل. هنا على الجدران في باترسون مدينة آلن غينسبرغ بقايا لكوفية باللون الأسود مغسولة بمطر هذا الصيف

هؤلاء الفتيان ولدوا هنا , تقول, وأظن أنهم لم يزوروا بلدان آبائهم كما يجب , لكنهم يحنون إليها كما أحن إلى بون التي لم أزرها سوى مرتين فقط . يشتاقون إلى مكان في اليونيفيرس , إلى جنة معسولة لا يدفعون فيها ضرائب الحنين المتوحش. ضرائب غامضة هي نوع من الموت السري , طعنة ساكنة في اللحم لاتشفى. وهنا لا بد من الشر قليلاً , أو بالأصح عليك إقترافه حتى تنجو من المصيدة. المكان الذي في الرأس مكان مقدس مليء بالصور والروائح والخفة. أما هنا فهو رطب وغير مفهوم وفيه ستحتاج إلى وسطاء ومحللين نفسيين وبائعي سيارات مستعملة كي يسهلوا هذا النوع من الإقامات ويجعلوا أنفاسك قدر الإستطاعة قريبة منك ومن الأرض التي تقف عليها وتثقل الوطء
ليس من تأويل لكل المدونات التي قرأناها عن الشرق والغرب أو إمكانية لإكتشاف قارة أخرى كي تنمو الطبيعة على مهل ويتم إطلاق الأسماء على الأنهار ونشر الأناجيل على الرمل وتمجيد الشمس والثروات المكنونة تحت حوافر الخيول

كان يكفي أن تكون على متن سفينة محطمة ولم تتجاوز العاشرة من عمرك, والبر أكثر ضراوة من اليم . السفن التي نقلت الماشية والمؤونة والنباتات والعقائد والنساء والرقيق ومحاكم التفتيش ,على نحو ما, حتى يتسنى تأثيث المستعمرات بسرعة لاتضاهى . قارة غير قابلة للجدل ولايمكن تفسيرها بقصة البحث عن الذهب والثروة والسلطة فحسب . على المرء أن يرخي وراءه امتداد مسافات طويلة وأمكنة بحد ذاتها تم دفنها تحت الجلد . في المكان الآخر ينزل الجسد ميتاً حيث الجلد القديم ينسلخ مع الظلال وكل ماستحتاجه مجرد بلطة كي تقطع حبل المشيمة بينك وبين وجه القرى التي غادرتها أول مرة. في أميركا هنالك فارق التلاشي بين جحيمين مع كل الصور المرسومة في كتب الجغرافيا والتاريخ ومحال البقالة وأكشاك المدن والعواصم

أوبرا السوداء العزيزة الأفريقية التي تفكر كأميرة ولا تخاف أن تسقط . الميديا وبقايا أنغام البيتلز وفوبيا العرب وأيقونة بوب ديلان المعلقة في البارات . جهاز الإمبراطورية الذي يحول الصرخات المدوية للبشر المقيمين في الأساسات إلى أسهم للمضاربة. صورة مقدم أخبار هرم كتشارلز روس الذي فجأة سيحدق فيك وهو يحدثك عن الزراعة والفلسفة والأدب ومسح الأراضي ولاينفك يمطر ضيوفه بالأسئلة . النبل جزء من التنوير لكن الولع بالكتب لم يعد له هذا البريق وكل الحساسيات المصقولة التي أنتجتها فترة عصر الأنوار حولته أميركا إلى عالم خام من التوحش المقنع والمكشوف . وما تخلصت منه أوربا تحمله الآن أميركا في أحشائها لأن أساس وجودها انبنى على الدين والمال والدعوات الصالحة , وحاجتها الدائمة إلى فكرة البطل والمخلص وفقدان السيطرة على النفس. المهاجرون هم الحقل الإفتراضي لنوع من الجهد العضلي والفكري والذي سيتحول إلى عملة نقدية لا يملكها صاحبها, وكل الجمال الذي ستقع عليه عيناك من شجر وحدائق وصحاري وأنهار وشوارع بلا وحل وكازينوهات وفنادق وجبال تخالها قطعة من الجنة تم تشييدها بدقة لا متناهية لتسهيل مرور رأس المال من جيب المهاجر إلى جيب آخر مخفي وغير معلوم

كل هذه البراعة وكل هذه الأرتال المتراصة في متاهة وسط السكون لم ينسجم معها قلبي. قلبي الذي في مكان آخر غير منشغل بتحقيق النصر على أحد حتى لو كان نملة من العالم الآخر. هنا قبضة الملاكم تهوي بلا هوادة , والمارشات العسكرية تركب الغيم , حوافر الأحصنة المجنحة , السفلس والنجوم وكوكب أورانوس , خبز الذرة والبسطرمة , سيارات البوليس والغرامات المفاجئة, ونساء مانهاتن أجمل من ضباب لندن يغسلنك بدموعهن . مسرح الألم الطوباوي, الجامعات ومراكز علم الفلك والرياضيات . هنا سيرقص مارلون براندو بينما شارلي شابلن يأكل جزمة " فضل القيمة" بشهية لا تضاهى , وماركو بولو سيشده التيه إلى أرخبيلات آسيا

في نيويورك وفي مناطق الجاز الحارة ستقف فجأة وأنت تصرخ وجسدك ممتلئ بالكحول مثل فرس النهر: أنا المتأخر مئة عام أو أكثر سأنحني للذي اخترع المنحدرات وللذي يتفتت عند لمسه. مغلولاً لشكل الحطام السرمدي وللروماتيزم وسر الوجوه المشدوهة التي لم يستطع تفسيره كل جمال شعر والت ويتمان ولا الأكواخ المتداعية في روايات فولكنر .أكثر من مسقط رأس, روائح وأبخرة وأمكنة لم يعد لها إسم. حتى أصدقائي وأخوتي أريدهم معافين على ما أود أن يكونوا. أصغي لصوت أبي عبر الهاتف وأصدق صوته فقط حين يرتجف أو يتردد طويلاً وفارغ الصبر , حينها تترسخ ملامحه لديَ ويبقى عليَ أن أشرح أكثر جماليات إقامتي في نيوجرسي وحياتي العائلية السعيدة . سيضحك ويمتنَ ويصدق. ألوَح له وكأنه على مبعدة ميل مني , وأهذي : في أميركا يتغير القلب مثل ريح أيار