تزداد وأنت في «مسقط» حيرتك في «عُمان»، فأنت قبل تصير فيها غير مشغول بهذا البلد الطرفي ولا يضيرك أن لا تعرف عنه شيئاً. طرفية كانت وازعاً من دون أن تعرف عنه شيئاً وكنت قانعاً بذلك واقفاً عنده. تقول ما لي وما لعمان غير أن في هذا بعض سهوك عن نفسك. في أوائل شبابنا لم نكن نذكر عمان، ولكن نذكر إقليماً فيها هو «ظفار». نذكر «ظفار» ولا نعرف أين تقع ولا يهمنا أن نعرف. فلم تكن هذه من «جغرافيا» عادية بل من جغرافيا عجائبية لا تصنعها الحدود ولا المواقع بل تتمرد عليها جميعاً. لم تكن هذه أماكن تصنع مصائر بل مصائر غامضة تتصيد أماكن. كانت إرادة ما، فوق تصورنا، تحل في بقاع لم تكن من قبل شيئاً بالنسبة لنا وها هي تغدو في لمحة مستودعاً لأشواقنا. أماكن ككوبا وأثيوبيا وعدن لم تصنع ثورات بل صنعتها ثورات. ما كان يهمنا أين نقع ولا همنا أن نعرف بحق أن نعرف أين هي فيتنام وكمبوديا ولاوس، فهذه كلها أضاءت فجأة في عالم مواز وعلى خرائط أخرى. خرائط طرفية موغلة في البعد، لذا بتنا نشعر أن الأمل يتحرك دائماً من بعيد، ويشرف علينا من حيث لا ننتظر ولا نحتسب. كانت في «ظفار» ثورة ماركسية وقليلون منا اهتموا بأن يعرف ما هي عُمان. كانت هذه «ثورتنا» نحن، لقد صادفنا قدرنا هناك، ولم نتعجب فقد كان لدينا هذا الشعور المتفائل بأن طرق التاريخ غامضة كطرق الله. كانت هذه ثورتنا. لقد أضاءت مرة أخرى، وكالمعتاد، في مكان مجهول وانضاف موقع آخر في خرائطنا البديلة. في أوائل شبابنا «ظفار»، أضاءت بقوة ثم انطفأت فزاد المكان طرفية، بل نحن منذ ذلك الحين لا نكاد نصدق أنه وجد.
غير «ظفار» لم نكن درينا بعد أن نوعاً «تاريخياً» أبداً تسلل من وراء القرون إلى هناك. لم نكن نعرف أن الخوارج أول فرقة في الإسلام، وأول مؤامرة تاريخية وأول ثورة، انتقلت نارها بعناد من مكان إلى آخر في العهدين الأموي العباسي، نجت فرقة منهم إلى هذه الجبال. كان هذه أسطورة باقية ومرة أخرى كان هنا اثر هارب من الإسلام الأول، ديناصور حي. لقد أضاءت ثانية على خرائط سحيقة ومسالك مفقودة. كنا في زمن مواز ولم يكن مهماً أن نعلم أن هؤلاء المقاتلين الدهريين نفذوا الى هذا المكان الذي اتصلوا فيه بالهند وأفريقيا وأقاموا مملكة شملت زنجبار الأفريقية وعاشوا فيما بعد تاريخاً سحرياً اجتمعت فيه التجارة الى القرصنة وتجارة الرقيق، وأن ذلك جعلهم ذوي سحن يختلط فيها الهندي بالأفريقي بالعربي وأن.. وأن. كأن «عمان» ذات أساطير لا نذهب إليها إلا لنفقدها. في «عمان» صادفت بعضاً من جيل «ظفار»، لكنهم تحدثوا عنها بوصفها إقليماً بعيداً، أما تاريخ الخوارج فقد تراكمت عليه تواريخ وإذا كان هناك ما يهم فهو الجغرافيا: الجبال الشاهقة، المناخات المتعددة طول الساحل والتاريخ البحري، الاختلاط العرقي والأثر الهندي والأفريقي في اللباس والطعام والموسيقى. المساحة الشاسعة وغير المحسوبة تقريباً بالقياس الى عدد السكان.
أصالة مستحدثة
مسقط مدينة بيضاء، يتراءى أن كل المدن، التي تريد أن تظهر أصالتها، تبدأ بهذا اللون. إنها مدينة بيضاء، يكفي أن تلتفت من السيارة وأنت على الطريق العالية لترى تحتك على الجانب الأيسر سطوحاً بيضاء وحياً من بيوت لا تعلو عن الطابقين أو الثلاثة. بياض مشوب وليس ناصعاً، لكنه في الشمس الساطعة يهرب من النظر. إنه يجعل العمران أقل حجماً وأقل نفورا، وكأنه هكذا لا يعترض النظر ويترك المساحة تجري بحرية، ويتركك من فوق السقوف ترى الفضاء سابحاً ممتداً. لا يراودك هنا ذلك الشعور الذي يتواتر في مدن خليجية كأبو ظبي أو دبي بأنك وسط غابة من الأبراج، وأن هذه في علوها وأحجامها هي التي تختلق المكان وتجعل المقياس عموديا فالناظر لا يفتأ بدون وعي يقارن بين مقاسه والمقاسات العملاقة التي تعترضه وتحاصره. المثقفون الذين صادفتهم لا يفوتهم هذا الفارق بل يرشدونك بإصرار إليه. يريدونك أن تفهم أنك لست في مدينة خليجية عادية، لست في أبو ظبي ولا دبي ولا المحرق ولا الدوحة. ربما هكذا يقولون ما يعبر عنه بياض مدينتهم. يريدونك أن تفهم أن كل شيء هنا صنع بالتقادم الزمني وعلى مهل ولم يتخلق في فورة. إن هنا جغرافيا حقيقية ورحبة ولا سبب لردم البحر واحتلال السماء. مقابل الاعتداد والتظاهر الباديين في الأبراج العالية الخليجية، في «مسقط» ذلك الحس المنزلي بالألفة والخصوصية. إنهم يرتاحون، لأنهم يملكون هذا المكان ولا يريدون أن يتحدوه. الثراء الخليجي ينظرون إليه بقدر من الأنفة، وقد يضمر هذا شيئاً من الحسد، إلا أنهم هنا يقولون إنهم فقراء بدون كثير من الخجل. يقولون إنهم ينتجون أقل من مليون برميل بترول وكأن هذا امتياز. بل أن هناك من يعتذر، لأن الفندق الذي أنزلت فيه (غراند حياة) ليس فيه عمالة عمانية. يقول كل صديق إن هذا استثناء، هنا العماني لا يستحي من أن يعمل في فندق ومن قبل كان العمانيون هم الذين يشغلون مطاعم وفنادق الخليج قبل أن يطردهم الآسيويون منها. يقول لك لا تغتر بما تشاهد في فندقك. صحيح أن في عمان بضع مئات آلاف من الآسيويين، لكن فيها شعب يعد بالملايين. لا يشبه الأمر هنا ما هو عليه في بلدان الخليج الأخرى، حيث شريحة ضئيلة من السكان تستخدم أضعاف أضعافها من الأجانب.
مسقط مدينة بيضاء ورحبة ومتناثرة. هذا ما تبدو عليه من بعيد. ترى أحياءها، سطوحها ومبانيها تكاد تذوب في الشمس. إنها غالبا في منخفض وهكذا تستطيع أن تلامس ببصرك السقوف. بل وتستطيع أن تصعد به منها إلى الطرقات والأعالي المرتفعة. ثمة هكذا من بعيد صور شبحية. المباني تنجم فجأة وكأنها غير حقيقية، لكنك على القرب تشعر بأن البياض يتكسر بألوان أقل سرابية. تشعر أن المعمار أليف وعادي. وأن المعمار «الأصيل» ضائع الهوية تقريباً. عربيته أو حتى إسلاميته ليست صرفة ولا خالصة. ثمة هنا آثار من كل صوب، أفريقية وهندية وبرتغالية وحتى إنكليزية. بل أن هذا الخليط يبدو كما في فندق «غراند حياة» بهرجة مشقوعة بلا حساب ولا مصدر مسمى، ليس الأثر الخليجي هنا غائباً.
لكن «الأصالة» إذا جاز هذا المصطلح هي بمعنى ما مستحدثة. إنها في السعي ليكون للمدينة طابع ليغدو بين أجزائها قدر من التسلسل والتواصل، وفي السعي لتكون لها فضاءات مدنية. هناك أمكنة ومرافق مدنية. هذا الحس «سلطاني» بقدر ما تشترك فيه النخبة، لعل المثير هو ميل الأثرياء لتحويل فيلاتهم وداراتهم الى متاحف. متاحف غير متخصصة عاماً إلا أن ما يجمعها هو تقريباً نزوعها الى تقديم موشور عرضي للتاريخ العماني. واحد من هذه المتاحف يبدأ بالتاريخ الجيولوجي «الصخور» ويمر على ما قبل الإسلام لينتهي بالفولكلور، واحد آخر يعرض الحياة اليومية للأثرياء والسلاطين ورجال السلطة لينتهي أمام مجموعات خاصة. لكن المتاحف لا تفيض فقط بطلاقة حياة تكتشف نفسها وتبتدئ في رواية سعيدة وثرثارة أحياناً كحالها، بل تبدو وكأنها بالدرجة الأولى تلمس عشوائي لإنشاء تاريخي. إنه جمع المواد الأولى لهذا التاريخ. ما يريد ان يقوله بالتأكيد هو أن هذا البلد ليس ابن الأمس وأن له تاريخاً، وأنه هكذا ليس محشوراً في زمانه ومكانه بل يتحرك فيها بطلاقة وعلى مهل.
نحن بلد لنا تاريخ ودولة، يقولون ذلك وكأنهم يفرقون أنفسهم عن بلدان أخرى. وحدها عمان كانت لها مستعمرات في أفريقيا، اليمن وحده هو الشقيق الموازي والقرب بين عمان واليمن فلهما معا دولة وتاريخ، لكن لهما جغرافيا جبلية متشابهة ناهيك عن الجنبيات (الخناجر) التي تلازم اللباس الفولوكلوري.
الجبال والصحراء
مع المثقف العماني يقول لي عبد الله حبيب (شاعر وسينمائي)، ونحن في طريقنا من المطار الى الفندق، ان مسقط مدينة بلا مركز، فالجبال تحجز بين احيائها وتجعلها متناثرة على مساحة واسعة. لم يكن في وسعي ان اتخيل جبالاً وسط المدن ولم افهم بسرعة كيف يسد جبل بين حي وحي او منطقة ومنطقة، لم اميز اذا كان عبد الله يرى في ذلك عيباً او ميزة، في الصباح صحبني عبد الله وسماء عيسى بكرم في جولة بالسيارة في المدينة. اجتزنا من مسقط الى مطرح - كان الطقس رائعاً. ووجدتني مشتاقاً الى الشمس بعد أيام مطر وبرد وغيم تركت بيروت في ابانها، كان بوسعي الآن أن أتحقق من كلام عبد الله. كنا نجوز منطقة خلاء وكأننا خرجنا من المدينة إلا أنها كذلك، لأنها محجوزة بجبل قصير ينتأ في الارض والمباني في الجهة الثانية. نمر في منطقة مزدحمة ثم تنقطع الطريق تقريباً ثم نعرج على منطقة مأهولة. هكذا تنقلب المدينة في مناطق خلاء وعمران. نظن اننا خرجنا لكننا لا نزال في داخل المدينة. كانت هناك فعلا جبال، جبال قزمة تعترض الطرق وتنتأ في الارض، لم يقدر لي ان أرى ذلك من قبل. كنت فقط شاهدت في كردستان جبالاً صغيرة وسط الحقول وتعجبت من ذلك أما الآن فازداد تعجبي. لا اعرف لماذا اعتدت ان تكون القرى والمدن في لحف الجبال وأن تكون هذه حدوداً لها طبيعية ومشارف عليها. اما الذي باغتني الى حد الصدمة فهو ان هذه الجبال لم تكن الجبال التي ألفناها. كانت سوداء بلون الوحل ولون الفار احيانا. كان بعضها محتوتا متآكلا والبعض الآخر مفتلذا على نحو عجيب» واكاد اقول «بشع»، وكأنه كسر وقطع بآلات حادة تركت فيه نتوءات وعرة وسطوحاً غير مستوية. كنا امام جبال ليست من حجر وتراب ولا ينبت فيها شيء فهي تكاد تكون معدنا صدئا متآكلا، وهي مكومة على الأرض وكأنه خردة او نفايات معدنية القيت هناك. لم يبد ان هذه الاكوام تمت حقا الى ما حولها، وتناسب محيطها. لم يبد انها منه بل ظهر تنافرها واضحا معه، لم تكن لها ألوان وبيئتها ومعالمها، لذا ظهرت اصطناعية مفروضة، مهملة ومرمية هنا.
لما جزنا إلى مطرح اختلف الامر. غدت هذه الجبال سلاسل مترامية من الأمام والى الخلف، لم تتغير من حيث اللون والهيئة إلا انها هذه المرة استوت عالية متراصة. كان هناك مثلها لا في وسط المدينة بل في وسط البحر، اما السلسلة فكانت هذه المرة تحجز البحر وتسد دونه الريح فيغدو رائقاً ساكناً ذا زرقة اخاذة ويتحول معها الى خليج رائع.
افهم الآن ان الجبال ميزة اكثر منها عيباً وان العماني المثقف لا تفوته ميزات بلده الجغرافية. يهتم زاهر الغافري (شاعر) بأن يقودني الى حافة صخرية عالية كثيراً عن البحر ويخبرني انه مع سكان البناية الأجانب يقفون عليها ليصطادوا. يخبرنا زاهر بعد ذلك كيف تسلق مع سماء عيسى إلى مناطق ساحرة تقطنها جماعات غريبة. يتكلمون هنا عن غجر الجبال، عن اتنيات تسكن في دخائل البلد. يتكلون عن مسافات واسعة، عن مناطق يصعب الوصول إليها إلا في باخرة او طائرة، وحين تسأل عن مقدار مساحة البلد لا تسمع جواباً، الجواب الادق هو ان عُمان هي الثانية بعد السعودية بين دول الخليج. من الواضح ان جزءاً من البلد لا يزال مجهولا، بل تسمع حديثاً عن مناطق لم تكشف بعد، الثلاثة عبد الله حبيب وزاهر الغافري وسماء عيسى عاشوا، بتفاوت، اوقاتا طويلة خارج عمان. بعضهم سلخ وجزءاً من حياته في لندن، بعضهم طاف اوروبا كلها وامضى اكثر من نصف عمره في الخارج. لا تعرف اذا عادوا الى عمان ليروها بعين عرفت غيرها وغدت مع الوقت غريبة عنها. لكنني انا الباحث عن اسطورة في عمان اجدها ولا اجدها، ظفار تصلها بالطائرة انها في الاطراف النائية وليست شيئاً آخر. حين اذكر ما كتبه فواز طرابلسي عن نسائها لا اسمع جواباً، ربما كان كذلك في وقت الثورة. الاباضيون الخوارج تسأل عنهم زملاءك على كأس، لن تجدهم متحمسين للجواب. يحسنون اكثر الحديث عن غجر الجبال وسرعان ما تجد القصص التي يروونها عن سكان الجبال ساحرة، رغم انها غير اكيدة على الاقل. فزت بقصة ما من صحراء. هنا ساحل طويل في جنوب البلاد، مع ذلك يقال ان القواسم هاجروا من ذلك الموضع وثمة رواية عن فضيحة او لعنة حملتهم بعيداً. لن تسمع رغم ذلك كثيراً من القصص عن هجرات العشائر او اخبارا بدوية. صحبتك تجولوا طويلا في العالم ولم يعد في جعبتهم الكثير من قصص الأجداد - رغم ذلك نشعر ان الصحراء غير معدومة وانها موجودة خفية، لا تعرف كيف تؤشر الجبال السوداء إليها، لم تخرج بالتأكيد منها، لكن طبيعة واحدة صبغت الجميع، حين يدور الحديث عن القرم، تسأل عن هذا الشجر فتفهم انه محصور في عمان، انه لذلك اسم آخر لها - لن تتعب حتى تراه، انه شجرة حدباء قزمة تموشل بسرعة وتتحول الى كتل خضراء يصعب الفرز فيها. انها عشب وجذور اكثر منها شجراً.
لا تعرف لماذا تنسب الى عمان او تنسب هذه لها، لكنك تشعر، لا تدري كيف، انها ذكرى من الصحراء او انها وافدة منها. الجميع في الثوب الخليجي وعلى الرؤوس جميعها تلك القبعة المخروطية الخفيفة او تلك العمامة المبرقشة، زاهر وحده بالبنطلون والقميص ويعلل ذلك بأنه قضى اكثر من نصف عمره في الغرب، انه يدخل ويخرج بدون ان يلاحظ احد انه يرتدي خلاف المألوف. سيف الرحبي الشاعر كما علمت لا يرتدي ثوبا الا حين تدعو المناسبة. البحر لا يطرد الصحراء كما نظن، فهؤلاء البداة الذين نزلوا الى السفن وتجولوا بتجارتهم على السواحل او الذين صاروا قراصنة او تجاراً للرقيق، لا بد انهم ظلوا على تخومها بداة. لا بد ان من مخروا الرمال لا يقتربون بسهولة من البحر، لكنهم ايضا لن يعتموا ان يألفوه وينقلوا غزواتهم وتجوالهم إليه. لا بد ان البداوة تعيش طويلاً، واكثر مما نحسب، بدون صحراء وبدون رعي وبدون ابل وبدون مضارب وهجرات.
بل هي قادرة على ان تكيف العالم الذي حولها. على هذا لا نعرف فعلاً ما هي الشروط الفعلية للخروج منها خاصة بعد ان تواصل حياتها الثانية بعيداً عن كل مقوماتها وظروفها. لقد روضت البحر ولن يصعب عليها ان تكيف المدن. انها تعيش اكثر كروح، ومن الممتع ان نسمع اللهجة العمانية ونصغي الى مجاملة وتهذيب جمّين، بدون أن يغادرنا الإحساس بأن ثمة رملاً ورملاً ناعماً في الاغلب في هذه اللهجة، واننا لا نحتاج الى ان نسمع قسوة او غضبا ليكون الرمل والرمل الناعم في الكلام. امام شجر القرم نتذكر الصحراء بل نتذكرها امام هذا الماء الذي كان يتدفق من قسطل ضخم في البركة لينهال شلالاً صناعياً من أعلى الجبل. كان الشلال يصنع امام اعيننا ونشعر انه ليس حقيقياً. اما في استديو التلفزيون فلا تزال تشعر انك في مضافة وان المذيع الذي يجلس بالعمامة المبرقشة يقول كلاماً كثيراً ليس سوى رمل ناعم. لربما ينبهك هذا الى الرمل الذي في كلامنا كله. اذ ينشأ هذا الكلام احياناً من كلمة او جملة واحدة، ويتردد بعيداً عن مقاصده بل عن كل المقاصد كما لو كان حداء موزوناً. على الشاشة كان الكلام المبرقش يتوجه أيضاً الى الجمهور، بدون ان يقول، تقريبا شيئا، سوى هذه الإلفة الجامعة، سوى الحداء اللطيف، ما يتعدى أي معنى ويشير فوراً الى ما وراء كل معنى. شيء كالرقية، كالتجويد، كالترويض في هذا الكلام الذي لا يختلف عن التماس بالايدي او النظرات في عمق العينين الشاخصتين. شيء كالذكرى يتبادله الحاضرون، او هو تفضل دائم وضيافة لا تقال.
مع ذلك، هذه العمائم المبرقشة التي تصنع من أي ثوب والتي تجعل من كل من يحملها سلطاناً فريداً بتاجه الخاص. هذه العمائم لا تناسب الثوب الأبيض الواحد الذي يشبه لون المنازل والذي يخفف من الحضور ويجعله عاما او طيارا العمائم بخلافه تصيح بكل الألوان معقودة برشاقة حول الرأس ومزخرفة بدون ابهة وبدون غلظة وبدون سلطة وحتى بدون ذكورية مفرطة. انها نوع من عرف متواضع او هي اشبه بذيل، طاووس وان بتنميق اقل. يقال ان اسعارها تتفاوت وان بعضها مكلف للغاية، لكني لا اظن ان الرجل هكذا يحمل علامة ماله، او طبقته على رأسه، انها اقرب الى حلية، لكن حين ننظر الى ثياب النساء السوداء وعمائم الرجال المبرقشة نفكر ببعض الطيور التي يتزين فيها الذكر بذيل او عرف، والأنثى عاطلة منهما.
الاعتذار
حدثني الناقد الذي سيقدمني في التلفون وتواعدنا على ان نلتقي في المساء، لكن في السابعة والنصف وقبل أن تبدأ الامسية علمت انه تغيّب لطارئ وان آخر سواه سيقدمني. لا اعرف ماذا حدث بالضبط، لكن الكلمة التي قرأها المقدم الجديد كانت ملأى باستشهادات صحيحة وتستعيد طرفاً من أحاديث لي، وتبنى على مقالات سبقت كتابتها عن كتبي. لا نفهم كيف حدث ذلك الا انه حدث. قرأت لكني كالعادة فقدت صوتي في وسط القراءة، حين استعدته فقدت خاتمة القصيدة الأخيرة. كانت هذه بداية تداعيات طويلة حرضتني عليها أسئلة شتى طرحها اشخاص اعتنوا بمعرفة ارشيفي واستحضروا مواد عني. صعد شيخ قوي مسترسل اللحية وقرأ قصيدتين قيلتا على سبيل الحفاوة، وكان عليّ ان افهم ايضا ان الاسئلة، بما فيها تلك المدروسة، تدخل في هذا الباب، إنها نوع من التفضل والضيافة وإن دعوة الضيف للكلام مرة بعد مرة فعل كرم قبل أي شيء آخر. كانت رفيقتي في الإلقاء شاعرة عمانية هي فاطمة الشيدي وستشترك في الأمسية القصصية قصاصة عمانية وسيصاحب أدونيس، كما علمت في أمسيته، شاعر عماني. كان ثمة ذوق وكرم أيضاً في الجمع بين كتاب وكاتبات وفي مصاحبة كاتب عماني لضيف عربي.
لطالما اعتذر مضيفيّ العمانيون عن كل شيء، عن فوات غير مقصود وعن زلة لم تقع وعن سلوك صحيح. كانوا دائماً في موضع الاعتذار، وكأن هذا في أساس تهذيبهم وضيافتهم، ان تعتذر فهذا ما يجعل الضيف في الموقع نفسه، انه يجعل الفوات اسماً آخر للعطاء ويجعل الكرم متواضعاً لدرجة لا يتعرف فيها على ذاته. كانوا يعتذرون عن امر غير مفهوم هو انهم لم يزيدوا، يعتذرون عن امر لم يحصل ولا بد من ان العطاء يتنكر هكذا فلا يحدث تحت اسمه الحقيقي.
صباح الاربعاء وصل السائق، لكن كان علينا أن ننتظر مندوبا من لجنة المهرجان لمصاحبتي الى المطار، لم يكن هذا ضروريا الا من باب الحفاوة. وصل متأخراً دقائق وللحال بدأ يعتذر، في الطريق كان يتبع كل جملة وكل كلام من أي نوع بعبارة «سبحان الله» يقولها بموضع وبغير موضع، كانت هذه أغنيته وحداؤه ناب عني في كل شيء، وجعلني انتظر مرتاحاً حتى انتهى، ولما فرغ ولم يعد عليّ سوى أن أدخل، ودّعني وهو لا يزال يعتذر.
السفير
12 -2- 2009