ثلاثة كتب صدرت مؤخرا للشاعر والكاتب الفرنسي ميشال بوتور، هي (ألفباء المتدرج) (منشورات (سيغرس) ضمن سلسلة (شعراء اليوم)) و(مقابلة نصوص) (عن الدار ذاتها) و (أنطولوجيا مترحلة) عن غاليمار ضمن سلسلتها الشهيرة (شعر). هنا كلمة:
يجد ميشال بوتور، مثلما يقول هو عن نفسه بطريقة لا تخلو من السخرية، أنه (كاتب لم يقرأه الناس كثيرا، إلا أنهم تحاوروا معه بشكل هائل)، ويعني بذلك أنه أمضى قسما من حياته الأدبية وهو يجيب عن الأسئلة التي يطرحها عليه النقاد والصحافيون (على سبيل المثال كتاب الحوارات الضخم التي أجراها معه أندريه كلافيل والذي صدر العام 1996 عن منشورات (بلون) بعنوان (سيرة ذاتية)). إذ يعترف بكونه شخصا ثرثارا وبأن عمله ككاتب يساعد على ذلك أضف إلى أنه عاش بعيدا عن الوسط الأدبي الباريسي. اليوم، بمعنى من المعاني، نجده يجيب عن نفسه في (ألفباء المتدرج)، الذي ألفه من أجل سلسلة (شعراء اليوم) الصادرة عن منشورات (سيغرس)، التي سبق أن خصصت دراسة عنه في السلسلة ذاتها العام 1973.
غالبا ما يتناسى القراء أن ميشال بوتور هو شاعر قبل أي شيء آخر. بدأ كتابة الشعر في بداية الخمسينيات، تحت تأثير السورياليين، قبل ان ينشر عند (مينوي) ثلاث روايات من بينها (التحول) التي حاز عنها جائزة (رونودو) العام 1957 وكانت السبب في شهرته. بعد ثلاث سنوات من ذلك العام، تخلى عن الشكل الروائي لصالح البحث الأدبي، كما لصالح نصوص من الصعب تحديد نوعها مثل (متحرك) و (6810000 ليتر ماء في الثانية)، وهما نصان/كتابان استوحاهما خلال اجتيازه الولايات المتحدة ورؤيته لشلالات نياغارا. كتب هذين النصين قبل أن يعود للشعر، ليكتبه غالبا من أجل مصاحبة كتب الصور الفوتوغرافية أو كتب لوحات تشكيلية، إذ يحب بوتور أن يتعاون كثيرا مع الفنانين، فهو نفسه مارس التصوير الفوتوغرافي لفترة من الزمن، وزوجته مصورة بدورها.
وليمة
بما أن هذه النصوص كانت دوما في طبعات محدودة، وحتى في طبعات خاصة، غالبا ما عاد الكاتب إليها من أجل إعادة كتابتها وتبديل أجزاء منها، أي أن ورشته هذه لم تتوقف، وكأن النص عنده، يكتب باستمرار. هذا ما نجده في كتاب (مقابلة نصوص)، الذي يعتبر بحق حصادا شعريا عائدا للأعوام الثلاثين الماضية، وينظمه بطريقة رياضية منطقية حول ما يسميه (وثائق فاتحة للشهية)، إذ كما يقول في (ألفباء المتدرج): (حين يستهلك كل شيء، تبقى الحروف). هذه الوثائق الفاتحة للشهية، تأتي بمثابة (أطباق) متنوعة. نحن أمام (13 طبقا) متنوعا، إذ يرغب (في مأدبة عامرة) تشبع الغيلان.
تشكل نصوص ميشال بوتور نسقا معقدا من (الموتيفات) المتشابكة حول (سلاسل متطورة بشكل من الأشكال)، لنجد أن أكثرها اكتمالا سلسلة نصوص (ذكريات) التي تولدت عنده بعد أن أعاد قراءة رواية (غانجي)، وهي إحدى الروايات اليابانية الكلاسيكية في القرن الحادي عشر.
تقترب نصوص ميشال بوتور التي غالبا ما تكون ذات طبيعة سيرية ذاتية من النثر، وذات نسق (مردي) ( كلام من الفرض الكنسي)، كما مليئة باللازمات التي تلعب على التبادلات، وعلى كولاجات من الاستشهادات، كما على مقاطع موسيقية. كذلك نجد أيضا مقطوعات تعتمد الوزن لكن بلا قافية، وهي ذات إيقاعات متنوعة وإن كان يفضل الوزن ذا المقاطع الصوتية الثمانية.
أمكنة ونكهات
قد يبدو شكل نصوص بوتور كثير التعقيد والتركيب، إلا أنها سهلة على القراءة. من هنا يأتي الكتاب الصادر في سلسلة (شعراء اليوم) ليشكل أفضل مدخل لأعمال الكاتب وحياته والذي يتضمن أيضا مختارات صغيرة من نصوصه.
يقع كتاب (ألفباء المتدرج) في 135 نصا تحاول أن (تعلّق) باختصار، لكن دائما بشكل إيحائي، على موضوعات وأمكنة ومذاقات وأشياء عزيزة على قلب الكاتب احضرها معه من البلدان الكثيرة التي زارها (يذكر انه عاش فترة طويلة في مصر حيث كان يُدرس اللغة الفرنسية)، بالإضافة إلى تعليقاته حول الرقص والعصافير التي تدهشه بصوتها وأناشيدها. في الرقص (رقصة التحرير الهادئة). من هنا قد نفهم لماذا تلعب الموسيقى الدور الكبير عند بوتور، ولماذا لا يزال يعمل ويكتب بيده ولماذا أصدر حتى اليوم ما يزيد على 660 عنوانا (بما فيها المقدمات التي كتبها للكاتالوغات). إنها حياة كاملة أمامنا.
هذه الحياة نجدها أيضا في (أنطولوجيا مترحلة) الصادرة مؤخرا عن منشورات غاليمار ضمن سلسلتها الشهيرة (شعر). يأتي شعره هنا (بالمعنى المتعارف عليه)، إذ غالبا ما نجد أنفسنا نفكر بأبولينير ونحن نقرأ هذا الكتاب، على الرغم من أن معد الكتاب والمشرف عليه فريديريك إيف جانيه، لا يذكر اسم هذا الشاعر في مقدمته. ما يحيلنا على رائد الحداثة الشعرية الفرنسية، هو هذه العلاقة الطبيعية باللغة وبانحناءاتها، هذه اللغة الغنية دوما، الأنيقة، والمليئة بهموم تركيب شيء أدبي على قياس قوة الإحساس الذي يوقظ تنوع العالم.
يبدو ميشال بوتور، خارج كل المدارس الأدبية، لم يركن إلى شيء، وكأنه يجد في هذه الكليشيهات التي تفرض على الكتاب، مقتلا للإبداع نفسه. ما نكتشفه في هذه المختارات هذا المسافر الساحر الذي غالبا ما يعود من رحلاته بنصوص لوحات أشبه ما تكون بنصوص الكتاب اليابانيين والصينيين الذين يتغنى بوتور دوما بثقافتهم. هذه النصوص تكتب هذا الشغف المستمر في إيجاد معادل شعري للواقع الذي نحياه.
السفير - بيروت