اسكندر حبش
(لبنان)

أزرا باوندعن منشورات صدرت مؤخرا الترجمة الفرنسية لكتاب الشاعر الأميركي عزرا باوند، (على خطى التروبادور في بلاد الأوك)، هنا مقالة معدة عن الصحف التي تناولت الكتاب.

ولد الشاعر الأميركي عزرا باوند العام 1885 في هايلي (الإيداهو) وتوفي في مدينة (فينيسيا) الإيطالية العام 1972. وبين هذين التاريخين كان يحلم بحياته، انهمك، وبشكل قاس، في مصالحة الماضي مع الحاضر، الفكر القروسطي مع الفكر المعاصر، أي بمعنى آخر، حاول خلال هذا العمر الذي استغرقته حياته بأن يجمع في اللحظة عينها الليل والنهار معا. لقد أمضى طيلة وجوده الشارد، الجوال، مواظبا في قلب هذا العالم الغاضب، غير المرتب الذي لم يكن يفهمه، على قوله في مناسبات عدة.
كان واحدا من هؤلاء الأميركيين الذين، مثل هنري ميللر والعديد غيره، يكرهون أميركا، يكرهون ابتذالها وديناميتها وميلها إلى الأعمال والثروة. كراهية (شهوانية) مكونة من أوهام وقرف مطلقين. كراهية والتي يمكن أن نقول عنها بأنها كانت (استيتيقية) دفعته إلى ارتكاب العديد من الحماقات، قد تكون أولاها، رمي نفسه بين ذراعي موسوليني الذي اعتبره قائد مرتزقة تائه، وابنا مريدا لمالاتيستا.

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أوقف الجيش الأميركي عزرا باوند في إيطاليا. إلا أن (جنونه) الذي كان أدبيا أكثر منه سياسيا سبّب له (الإقامة) 12 سنة في إحدى المصحات النفسية في الولايات المتحدة ما سمح له في الواقع بأن يتجنب المحاكمة بتهمة الخيانة العظمى كما سمح له بمتابعة كتابة (الأناشيد) (الكانتوس) وهي قصائد متفردة، ذات بريق مدهش، (عرّافية) مكتوبة بلغة غامضة، نجد فيها كل ثقافات العالم من الصينية إلى الإغريقية وهي ثقافات كان باوند يبحث عبرها عن نفسه، أو لنقل كان يجد فيها هذه الذات...

أناشيد عزرا باوند، عمل أدبي أشبه بأعمال البحاثة، التي تأتي بدون نهاية والنابعة من الحميمية والموسوعية في الوقت عينه. كذلك تأتي أناشيده من (تفسير) نصوص أخرى، من السيرة الذاتية، وأحيانا من الأحاديث العادية التي استمر بها وتابعها خلال أربعين عاما. بمعنى آخر، كانت أناشيد بمثابة (مخلوطة) سحرية لرجل أحب أن يضع فيها كل معرفته وكل فكره وأحلامه. في النهاية، قد يكون باوند مدينا لأناشيده هذه، التي جاءت أيضا كأنها دفتر يوميات، لأنها أدهشت وسحرت ووسمت أحيانا الكثير من الكتاب، من إليوت وصولا إلى بورخيس، مثلما وسمت العديد من أرواح قرائها. كانت السبب في شهرته (الغامضة)، هذه الشهرة التي طالما تم نقاشها في (المجتمعات الشعرية والأدبية)، ما أفضى إلى خصومات ونزاعات، لكنها بالتأكيد الدليل الحي على أن هذه (الاحتفاءات) هي السبب في عدم (موت) باوند وبقائه حاضرا فوق خارطة الأدب العالمي.
ومع ذلك، لربما وجدنا أن ثمة سؤالا لا يزال يطرح نفسه: هل ما زلنا نقرأ (روح الآداب الرومانية) أو (الحرف الصيني المكتوب) و(المادة الشعرية) و (أ. ب. ث. القراءة)؟ من الصعب تأكيد ذلك، وإن كنا نميل إلى النفي. على كل، كانت وجوه باوند المختلفة المعالم والمجادل والمترجم والناقد والفقيه اللغوي والمنظر تقترح علينا في هذه النصوص المتناثرة، ما يشبه (الأنطولوجيا) الشخصية لما كان يدهشه ويدفعه على التحرك، في الأدب الكوني الذي كان يقرأه. كان عزرا باوند قروسطيا خياليا، نصف دون كيخوته، يحب دوما أن يتذكر هذه الأوروبا البعيدة والساحرة التي، وبدون شك، لم تنوجد مطلقا لكنها التبرير الوحيد والأساس الوحيد لوجوده الأرضي. كان العصر الوسيط وجنته المفقودة وشعراء التروبادور الوحيدون الجديرون بأن يتردد عليهم وإليهم كما كونفوشيوس ودانتي وهوميروس وفيّون وجون دون هي الصور المألوفة لقلبه إذ كان يتحول إلى صنو لها.
لمرات عدة، وعلى الرغم من أنه كان مباشرا وعينيا في غالب الأحيان، كان قناع باوند المربي الاجتماعي والدوغمائي أو لنقل المنظر، يطغى على وجهه الإنساني، يبعده ويحيله إلى صورة تجريدية تبرزه كمبدع أشكال ولغة. من هنا نجد أن كتابه (على خطى شعراء التروبادور في بلاد الأوك) وهي مجموعة من مقاطع يوميات كتبها ونسيها في قعر درجه يحيل الشاعر أكثر حقيقية وأكثر إنسانية وأكثر قربا من هؤلاء الفانين على الأرض، والذي لم يتوقف يوما عن الهرب داخل أعماله الكتابية. لقد اتبع خطى كل من أرنو دانيال وبرنار فانتادور وبرتران دو بورن و بيار فيدال، لقد (مخر) على قدميه تلك الأراضي (المسكونة بالأرواح) التي لم يسبق له أن وطأها إلا عبر أحلامه. جاء الأمر بمثابة إعادة اكتشاف، لكنها إعادة اكتشاف واقعية وساخرة وحميمية. تماما مثل كتب الرحلات التي كتبها مونتاني وستاندال وغيرهما التي أخبرتنا عن الرحالة نفسه أكثر مما أخبرتنا عما شوهد أثناء هذه الرحلة. هذا ما يبدو عليه عزرا باوند في كتابه هذا.

نحن في العام 1912، حيث كان لا يزال بإمكاننا ونحن نمشي في جنوب فرنسا، أن نلتقي بهذا (اللامتوقع) والمدهش وغير المنتظر على الأرض، على مفترق طريق، على كعب شجرة أو في زاوية غابة ما. تعلق باوند في البداية بالقصور الساحرة، بالآثار الخالدة وبأمكنة الحب المقدسة، يتحدث عن غجري ما، عن دبه وقروده، عن الزنابق الحمراء والجنائن السرية، عن المطر الذي يبلل كل شيء، عن رغبته في أن يلقي أرضا حقيبته التي يحملها على ظهره. يبدو قريبا منا، أكثر ألفة، أكثر حميمية. من أنغوليم إلى هوتفور، ومن كاركاسون إلى آرل، كان يسير وحده متسكعا، (أنفه في الريح)، حتى لم يكن برفقة حمار مثلما فعل ستيفنسون ذات يوم.

رحلاته هذه علمته كيف يرى وكيف يروي بمتعة كبيرة، إنها متعة الحرية قبل أي شيء آخر. من هنا تبدو جمله عارية، ليذهب بها مباشرة إلى الأساسي، والأساسي عنده مصنوع من لا شيء. هل هو التعب الذي كان يقوده؟ لقد وصل إلى منطقة (بيريغيو) منهكا، لم يلتق هناك سوى بفتاة (صغيرة تعقد شعرها بشكل فراشة، وبكلب، كبير، يبدو ذكيا). في قرية (شالوس) يقول له شخص هزيل كان يحرس بقرة وعنزة إن القصر الذي يراه هو قصره، فيصدقه ويمضي إلى سبيله. لكن باوند كان يشعر بالخيبة أحيانا لأنه لم ير بعض القرى، إذ لم يحب اسمها.
لا يبدو باوند في كتابه هذا وكأنه عزرا باوند الذي ننتظره، فجمله التي تأتي مفككة (بشكل طوعي) تخبرنا عن رغبته الحقيقية، في أنه لا يحب أن يكتب النثر، قال ذلك مرارا وتكرارا. ومع ذلك، فهذه الطريقة في (اللاكتابة) إذا جاز التعبير، هي من تعطي للكتاب سحره. إنها مجموعة ملاحظات رماها شخص حيوي وصاف. لذلك علينا أن نقبل بها كما هي. على الرغم من أن باوند، حتى حين يهبط إلى أعماق الجحيم، كان يحاول أن يجلب منه تلك الثقافات الميتة، ليجعل منها ثقافته الخاصة، الحاضرة والحية.
(على خطى شعراء التروبادور...) كتابة بسيطة، لكنها من دون شك، تملك هذه القوة الخرافية التي تدفعنا إلى إعادة قراءة (أناشيده) المليئة بالتعقيدات.

السفير
2005/06/03