تقول أخبار (المجنون)، أنه حين كان يهيم بحثا عن ليلى بعد أن حجبت عنه و(أخفيت) وانقطعت أخبارها ويطوف في هذا الفضاء الرملي الشاسع، لا يلمع في ذاكرته إلا (جبل التوباد)، ليسعى إليه لكنه في جنونه يضل عنه، وحين يسأل الناس عنه، يقال له: (وأين أنت من بني عامر)، فيعود ويسير مجددا، وما ينفك عن طرح السؤال عينه، بحثا عنه/عنها؟
لا أعرف لماذا يخطر على بالي، أن قيسا، في بحثه عن جبله هذا، كان يبحث عن الشعر أيضا. ربما لأن المكان، كان، ليس المرجع العاطفي فقط، وإنما أيضا، المرجع الشعري. قيس بهذا المعنى هو شاعر مكان، لأن ليلى، ليست في النهاية، سوى... الشعر. بمعنى آخر، كان الشعر هو الحبيبة الأولى والأخيرة، أليس أجمل ما قيل في الغزل العذري لكي لا نقول في الغزل العربي كان عائدا إلى هذا الجبل، وما تركه من أثر، في نفس الشاعر. كما بالنسبة إلى شعراء آخرين. أتذكرون مطلع قصيدة لشوقي من مسرحيته (مجنون ليلى):
(جبل التوباد حياك الحيا
وسقى الله صبانا ورعى
فيك ناغينا الهوى في مهده
ورضعناه فكنت المرضعا)
الشعر، بصفته (حبيبا)، هو اليوم في قلب مشروع الشاعر التونسي خالد النجار عبر السلسلة الشعرية، التي يعمل عليها، ترجمة وإصداراً، تحت عنوان (جبل التوباد). سلسلة جميلة، ترجمة وإخراجاً، تكاد تمر في فضائنا، من دون أن ننتبه لها. هل لأن الرمال تغرقنا إلى هذه الدرجة، أم فعلا لأننا فقدنا الأمكنة بأسرها، فقدنا كنه الشعر، أم لأننا تخلينا عن (الترجمة) الشعرية، التي أصبحت بعيدة عن حركتنا الثقافية؟
ربما لكل ذلك، يبدو عمل خالد النجار، على قدر كبير من الأهمية، وبخاصة في هذه المرحلة، التي (يثيرنا) فيها كل ما هو (أجنبي)، بصفته (عدوا)، ولا نعرف لماذا؟
ثلاثة كتب صدرت لغاية الآن: (أجساد ناهشة) للوران غسبار، و(نشيد الاعتدال) لسان جون بيرس و(يوم 27 تشرين الأول 2003) لإتيل عدنان. ثلاثة أسماء، حاضرة في خارطة الشعر، وتزيد ألقاً في هذه اللغة التي يعمل عليها خالد النجار. أسماء تقدم لنا ما يقدمه (التناقض) الشعري أي الحضور داخل حميمية هذا الكائن وفي خاصية لغته وثقافته. بهذا المعنى، يبدو الشعر في هذه السلسلة، وكأنه يشكل مكانا ومناسبة للتبادل والتقاسم، إنه أيضا مكان لحوار مطلق، فيما لو استعملنا عبارة رينيه شار.
ما ينجح فيه خالد جعلنا نسمع هذا الصوت الذي لا يختزل بصوت آخر، في لغة مفتوحة على كونية الكينونة، غير مقفلة عليها، أي ثمة ذهاب وإياب مستمر، مثير للدوار، بين (الأنا) والآخر. لأن هدف الشعر في النهاية، تشكيل هذه اللغة المشتركة، المثالية، التي حلمت بها جميع العصور، من دون أن تحققها، أي هذه (الاسبيرنتو) التي تتيح لنا اللغة الأولى والمشتركة: لغة الأعماق الإنسانية.
(جبل التوباد)، ليست ذاكرة ماضية فقط، إذ أتمنى أن يصبح مع هذه السلسلة، ذاكرة مستقبلية. من هنا، ما أقوله، ليس سوى تحية صغيرة، لرجل قرر، بمفرده، مشروعاً لنا كلنا.
السفير