اسكندر حبش
(لبنان)

Frank Perezعن منشورات (بوشيه شاستيل) في العاصمة الفرنسية، صدرت مؤخرا الترجمة الكاملة لمراسلات الكاتبين هنري ميلر ولورنس داريل، التي تتخطى مجرد أوراق بين شهيرين كان لهما ولا يزال الحضور الأدبي الكبير، رسائل بالضرورة تعكس صدى عصرهما بكل متغيراته السياسية والفكرية والاجتماعية. هي أيضا، بيان أدبي حيث كان يعبر كل من الكاتبين عن الأفكار التي تعتريه في سبيل التجديد.
رسائل ليس بين كاتبين عاديين، بل بين اثنين من كبار هذا العالم اللذين وسما أجيالا عديدة من الكتاب والقراء، وكأنهما شكلا خطين كتابيين، ما كانا يفترقان إلا ليلتقيا في هذا الهم الإنساني الذي جعلاه في مقدمة اهتماماتهما. حول الكتاب هذه المراجعة، المعدة عن الصحف الفرنسية التي تناولته.
تبدو هذه المراسلات التي اكتملت أخيرا أشبه بمركب يختال فوق سطح المياه، يبلغ طوله 800 صفحة من الحجم الكبير، محملا من قعره حتى أعلى ساريته، بالبدائع الأدبية، بالضحكات المجلجلة، بالشتائم والصراخ، بالدموع، بخيوط العبقرية، بالهذيان الجميل.
على متن هذا المركب، يقف قبطان لا يؤمن بشيء ولا حتى بالقانون، ضخم الجثة ذو شكل يوحي بأنه موظف كبير، وغاو نهم. يدعى هنري ميلر، ولد في بروكلين في أواخر العام 1891، سليل عائلة من أصل ألماني. إلى جانبه، شخص آخر، لامع، يجمع ما بين الميل إلى المزاح وما بين الانهيار العصبي المزمن، يصغر رفيقه بحوالي عشرين سنة، إذ ولد في الهند العام 1912، من أبوين إنكليزيين ايرلنديين بروتستانتيين.
كان اسمه (لورنس داريل).
هذا الأخير هو من شرع، بدءا من العام 1935، في هذه المراسلات الماراتونية التي استمرت حتى موت ميلر في العام 1980. ومن دون أن يكون على معرفة بالأمر، جاء خيار داريل ليكاتب أحد أكثر محبي التراسل في ذلك العصر، إذ كثيرا ما زعم ميلر في ما بعد أنه كتب خلال حياته ما يقارب المئتي ألف رسالة. ربما لم يكن يبالغ بالأمر، لنذكر مثلا مراسلاته مع والاس فويلي (19721943)، جوزف دلتاي (19781935)، أناييس نين (19531932)، بليز سندرارز (19791934)، جون كوبر بويز (19591950)...
حين التقى ميلر بكوبر بويز، في العام 1917، كان هذا الأخير في الخامسة والأربعين، بينما ميلر في الخامسة والعشرين. هذه المرة انقلبت الآية والأدوار مع داريل. كان ذلك الأيرلندي الذي يعيش في كورفو، قد اكتشف لتوه كتاب (مدار السرطان) الذي قلب له كيانه وحياته. ( بالنسبة إلي، إنه من دون أدنى شك، الكتاب الوحيد الجدير بإنسان هذا العصر أن يبدعه. أرغب في أن أصرخ عظيم منذ السطر الأول. ليس الكتاب صفعة أدبية وفنية فقط، إنما يثبت على الصفحة أيضا دم عصرنا ومعدته). هذا ما كتبه في العام 1935 داريل المفتون. يجيبه ميلر، المتلهف للحوار وللاعتراف به: (تهزني رسالتك أيضا. انك أول بريطاني يكتب لي رسالة ذكية حول كتابي)، ويضيف: (أثمن رسالتك كثيرا لدرجة أنها تبدو لي من نوع الرسائل التي كنت كتبتها لو لم أكن أنا مؤلف الكتاب).
منذ تلك اللحظة، تكشفت الأوراق كلها. التقى الكاتبان ولم يفترقا أبدا. من هنا تبدو قراءة هذه المراسلات وكأنها رواية متسلسلة على حلقات بطلها شخصان مدهشان. كأننا أيضا أمام لاعبي كرة مضرب يتبادلان الكرة من دون كلل أو تعب. شخصان يختبران أفكارهما بالقرب من بعضهما، يدغدغ كل واحد منهما الآخر، يضايقان بعضهما البعض، يجدان العزاء والسلوى في هذه الصداقة، يشعران بالشجاعة الواحد قرب الآخر، يضحكان معا. شخصان هما نفسهما ومختلفان في الوقت عينه. ثمة جانب صبياني عند كل من ميلر وداريل، جانب مستعد لارتكاب كل الحماقات والتسليات، جانب نجده أمامنا حين نقرأ عن بعض هذه (الكليشيهات) كلما التقيا، على الرغم من أن لقاءاتهما كانت قليلة في واقع الأمر، بالأحرى تبدو قليلة إذا عرفنا أنها امتدت على مدى نصف قرن، إلا أنها كانت لقاءات لا تنسى.
أول لقاء جمعهما كان في باريس في منتصف شهر آب من العام 1937، حين استضاف ميلر داريل في فيلا سورا الواقعة في الدائرة الرابعة عشرة. اتفق الرجلان اللذان كانا برفقة صديقتهما بشكل رائع، تكلما كثيرا، وشربا حتى الثمالة، وتراسلا من طابق إلى آخر! ذات يوم، طرح داريل على صديقه ثلاثة أسئلة: (ماذا تفعل بالقاذورات؟(...) حين تقول (أنك مع ألله) هل أنت تتماثل معه؟ أم أنك تعتبر أن الواقع الإلهي بمثابة شيء غريب عنا نحاول أن نمد أيدينا إليه؟). يجيب ميلر ببرودة: (من الأسهل الإجابة على السؤال الأول أكثر من الثاني(...) أفضل الحديث عن ذلك حول الطاولة. متى ستدعوانني إلى تناول الطعام معكما في الطابق السفلي؟ إنني غير مرتبط على العشاء هذا المساء، إن حاولتما...).
طيلة حياتهما، كان الصديقان يستعيدان هذه الفترة (المقدسة). إذ لم يكونا يعرفان المجد بعد ولا الغنى ولا الخبثاء الذين حاولوا التفرقة بينهما. التقيا للمرة الثانية في اليونان، ومن ثم في كاليفورنيا وسوميير... لكن لوقت قليل. ربما كان الخطأ خطأ ميلر، إذ كان داريل يقضي وقته في دعوة صديقه مفندا له محاسن اليونان. كان الأميركي مترددا في القبول. لم يكن يريد تغيير عاداته. لم يكن يملك المال. انه متعب. وفجأة، نكتشف في ميلر ذلك الشخص الذي يشعر بالكآبة من تحولات التاريخ. في شهر أيلول من العام 1938 يكتب إلى داريل قائلا: (خمس دقائق فقط، وحدي مع هتلر، وأستطيع تسوية كل هذا الأمر (...) انه غير ثابت لكنه لا يمزح أبدا. على أحدهم أن يجعله يضحك وإلا أهلكنا جميعا!).

الدفتر الأسود

إزاء هذه التطورات، (تحصن) ميلر في (بيغ سور) في كاليفورنيا التي لم يغادرها ليعود إلى باريس: نتائج الحرب الفرنسية في الجزائر، أحداث أيار 68، أسباب كثيرة دفعته إلى عدم الحراك من مكانه. من هنا، لم يلتق الصديقان كثيرا، كانا يقرآن بعضهما. من دون شك، تعتبر رسائل تلك الفترة من أجمل رسائلهما، أكثرها كثافة وحميمية، تحدثا كما لم يفعلا من قبل.
بعد أن تبادلا الآراء بشأن (مدار السرطان) رغب ميلر في قراءة أعمال داريل، إلا أن الكاتب الشاب الذي أصدر روايتين وهو في الرابعة والعشرين، تردد في إرسال شيء، إذ لم يكن يشعر بنفسه على مستوى صديقه. إلا أن الأمر انتهى به إلى إرسال (حكاية ميلاد)، فجاءت تهاني (المعلم) في 3 كانون الثاني من العام 1936 قائلا له: (أدهشتني حكاية الميلاد. إنها متكاملة لدرجة أنني أصبحت أخضر اللون من الغيرة (...) ما هذه العبقرية التي قمت بها!)، فيجيبه داريل: (كرمك الذي لا يصدق سبب لي الهذيان (...) أصبحت أتمايل وأنا أسير في الشارع وأشعر بأنني كبير مثل مبنى بثلاثة طوابق).
بعد شهر من تلك الرسالة، يكتب ميلر بعد استلامه كتاب (دفتر أسود): قرأته وعيناي جاحظتان برعب وإعجاب ودهشة... انه كتاب فج، قاس، مخرب، مرعب (...) لقد تجاوزت خط الاستواء. انتهت مهمتك التجارية. بدءا من اليوم أصبحت شخصا خارجا عن القانون وأهنئك بكل قواي). بعد عدة أيام يعود ويقول له: (أنت كاتب رؤيوي). رد عليه داريل، الذي فهم أن ميلر يعتبره بمثابة صنو له، بالقول: (لا تفقد نظر هذا المريد الذي أحمله تجاهك ولا تمزج المولود الجديد الذي أنا عليه بأبي الهول الكبير الذي هو في كامل نضوجه).
بعد أن سلحه بالمعنويات، أصبح بإمكان ميلر أن يوبخه، وهذا ما لم يحرم نفسه منه. صحيح أنه أحب (الدفتر الأسود) إلا أنه أخذ عليه الحشو اللغوي. استمع داريل إلى النصيحة، شاكرا مراسله عبر هذه الأمنية: (ان علاقتنا تعني لي الكثير). وبعد أن تعرض داريل لبعض الضياع، وحين لم يعد يشعر بالطموح، قال لصديقه أنه يرغب في أن يكتب قليلا أو أن يتخذ له اسما مستعارا فرد عليه ميلر بكلام راعد:
(إن كان كما تقول، لا تستطيع أن تكتب كتبا حقيقية الوقت بأسره:
فلا تكتب أبدا. لتبقَ في استراحة. لتبقي كل شيء لك). ويختم رسالته بشكل هادئ: (أعتقد أنك شخص فرح على الرغم من هذيانك، على الرغم من (الدفتر الأسود) (...) حسنا، يكفي التطرق إلى هذا الموضوع. فكر بالأمر. وتذكر أنني إلى جانبك حتى النهاية).
اللحظة الوحيدة، من دون شك، التي كان فيها لهذا المركب أن يغرق، تعود إلى العام 1949. قرأ داريل لتوه كتاب (سكسوس)، الجزء الأول من (الصلب الوردي) فاستشاط غضبا. تبدو رسالته المؤرخة في الخامس من أيلول بمثابة (إعدام). فبعد أن شعر بخيبة الأمل، قام داريل بذم فُحش عمل ميلر كما طريقة بنائه. أبدى أسفه على غياب هذه (القوة البرية) التي عرفها في (مدار السرطان) و(ربيع أسود). في نهاية (بيانه الاتهامي) هذا، يلفظ داريل حكمه (النهائي): (كل ميولك الروحانية الجديدة موجودة هنا: لكنها ضائعة، ضائعة، ضائعة، تحت سيل من البراز الذي لا يبدو أبدا ذا نبرة أو متشددا، وإنما فقط برازا باعثا على الإحباط. لا بد أن تصدر عن المرء تكشيرة قرف ليشيح نظره).
يرد ميلر متأثرا: (ربما الحق معك، ربما أصبحت رجلا منتهيا) إلا أنه رفض أن يغير طريقته، أن يتراجع إلى الوراء. (أحمل في داخلي مادة هذا الكتاب منذ العام 1927. هل تظن أنني سأجهض بعد حمل طويل كهذا؟)، ويختم كلامه كالعادة بكرم: (عليك أن تشعر بحرية في أن تسحقني أمام من تشاء، سأفهم جيدا أنك تقوم بذلك بدافع الحب). في اليوم التالي يستلم ميلر برقية من داريل يقدم فيها اعتذاره الشديد ورسالة تحل السلام بينهما: (أعتقد أنك تعرف أنني أحبك أكثر من أي رجل آخر عرفته).

متى تبدأ الحب

منذ تلك الحادثة، ما من شيء بعد أثر على هذه الصداقة. كان ميلر وداريل يصعدان جنبا إلى جنب سلالم النجاح. أما من جهة الحياة الشخصية، فكان الأمر أكثر تعقيدا. زواج، طلاق، علاقات عابرة كثيرة. بيد أن موضوع الجنس يحتل مكانة صغيرة في هذه المراسلات. يقول داريل عن النساء: (كلما اهتممت بهن بشكل أقل كلما قدمن لك المتعة زيادة). والمستغرب أن ميلر كان متحفظا في الحديث عن موضوعات مماثلة، على العكس من جميع التوقعات، وقام بذلك بعد فترة طويلة، في العام 1979، إذ كتب (الدون جوان) العجوز إلى صديقه: (أما بالنسبة إلى (الفُروج)، أشعر بالدهشة من كونك لا تزال تحاول أن تظهر لها بعدُ قوتك وفحولتك (متى ستبدأ بالبحث عن الحب؟) إنه الشيء الوحيد المهم. قد يبدو الأمر عاديا، ولكنها الحقيقة).
 
جاءت سنوات السبعينيات لتشهد على مرض هنري ميلر وضعفه وموت أصدقائه سيفيريس وكاستامبليس (عملاق ماروسي) وجوزف دلتاي. ومع ذلك وجد ميلر وهو في الثمانين من العمر امرأة جديدة: بريندا فينوس حبه الأخير والكبير فأحس بالدهشة والانخطاف على الرغم من انه لم يعد يرى بوضوح، وكان يسير على كرسي متحرك (إلا ان الحب هو الأساس) مثلما كان يردد دائما.
عشية سنواته الأربع والثمانين يختم ميلر إحدى رسائله بعبارة الكاتب الفرنسي سيلين: (أبول على الجميع من مكان شاهق). لم يعد بإمكان المعلم العجوز أي شيء. ويتمسك داريل بأواصر الصداقة.
في رسالته الأخيرة المؤرخة في 8 أيار من العام 1980، من منزله في (الباسيفيك باليسداس) يقوم ميلر بتوديع (عزيزه لاري) ويتمنى له أن (يبقى بعد عشرين عاما). للمرة الأولى، خلال هذه السنين الطويلة، لم يطع مؤلف (رباعية الإسكندرية)، المنعزل في (فيلته) في (سوميير)، كلام (أستاذه) ومعلمه. فبعد عشر سنوات من رحيل هنري، يرمي لورنس، بدوره، مرساة الحياة، في الجانب الآخر من المرآة.
إلى جانب هذه الحياة التي تنسل أمامنا، تأتي مراسلات هنري ميلر لورنس داريل، في أجزاء عديدة منها، بمثابة (أبحاث) فكرية أدبية، مبنية وفق مفاهيم الكاتبين اللذين يحاولان، كل واحد من جانبه، التفكير بعمله ومناخه بدءا من نقطة ما وصولا إلى تبلورها (النهائي). نجد ميلر مثلا يحاول (فرض) مقترب جديد للفن الفن بدون فن بعيدا عن المشارطات والتعاقدات، بعيدا عن القواعد، بينما كان ميلر الذي كانت تنضج في داخله عوالم (رباعية الإسكندرية) يقترح إبداع (عالم شعاراتي) يدور وحده، فالعلم الشعاراتي: (يظهر الجودة السحرية وشكل الوجود الفضائي) الذي يريد أن يلتحق بالفن. على الرغم من هذا التباين بين الرؤيتين، إلا أنهما كانا على خلاف مع زمنهما، من هنا حاولا التعبير عن رؤيتهما للعالم والإبداع. من هنا كانت هذه الجرأة في طرح المواقف وأولها أن يقبل المرء نفسه، ان لا يحاول أن يثير إعجاب الآخرين به، والأهم أن لا يحاول أن يسير ضمن هذا القطيع.