"لوحة فسيفسائية غائمة، شذرات صوتية ومرئية، طبقات من الزمن المتراكم. كل ضربة فأس في هذه الأرض الشبعى بالتاريخ تظهر اكتشافا: أكياس قمامة من الأمس، وتوابيت ملكية من ثلاثة آلاف عام، وهياكل عظمية من كل الحقب والعصور. ينبوع الماضي عميق، ماؤه لم ينضب بعد، وعلى صفحته تلمح النظرة الهيابة. صورة الذات المنعكسة: ضبابية، مشوهة، ومعزية إلى حد ما معرفة قديمة".
هذا هو صوت الرحالة الغربي المعاصر ميشائيل كليبرغ في وصفه "الأولي" لمشهد من مشاهد الشرق، في كتابه "الحيوان الباكي" الصادر أخيرا عن "دار كنعان"، جاعلا من بيروت محلا لرؤاه في محاولة جديدة لبحث أفق مشترك بين الشرق والغرب، في وقت تمور عواصف تقترح أنهما قد لا يلتقيان، وفي خضم عواصف التغيير التي تهبّ من ريح العولمة.
نموذج آخر لكاتب ألماني دقيق اللغة، جميل العبارة، يمتلك ملاحظات فيلسوف كما يليق بمن ينحدر من أسلاف هيغل وكانط وهايدغر، وهذا ما نجح المترجم سمير جريس في إبرازه.
لا تتوقف دقته على حسن اختياره للكلمات إنما تنسحب أيضا على الوصف والملاحظة التي يستخدم لها عينا ميكروسكوبية مكبرة. فهو مثلا يصف الشاعر عباس بيضون وصفا يبدو معه كأنه روائي يخلق من العدم شخصية درامية يود أن يحفرها الى الأبد في ذهن القارئ. ويفعل الشيء نفسه على مستويات أخرى مع شخصيتي رشيد الضعيف ويوسف عساف.
لكن ليس لقارئ هذا الكتاب أن يتوقع أي إجابات مباشرة عن بيروت، فهو بالأحرى كتاب محض ذهني، يقدّم فيه الكاتب خبراته الحياتية والفلسفية وشذرات من قراءاته ومشاهداته وثقافته الرفيعة كما تفجرها لوحات بيروتية، أو شخصيات التقاها، أو عبقاً حميماً في سوق أو في مطعم.
هذا الطابع الذهني لليوميات يجعل الكاتب يؤكد غربته أو أوروبيته، على ما يقول عباس بيضون في تقديمه للكتاب، ويصفه أيضا بأنه مغامرة قوامها نسيان هوية الآخر، وأنه ككتب الرحلات التنويرية القديمة يتعلم أكثر مما يعلم. ويؤكد أيضاً أوروبيته بالوصف التقريري المباشر لأشخاص أو لأماكن كما هي بلا تجميل أو التفاف على المعنى، على الطريقة الألمانية.
في أثناء القراءة، كثيرا ما كنت أتساءل أين بيروت التي تبدو طيفا في الخلفية، فيما وهج الضوء مسلط على الشخصيات. الإجابة، عادة ما تكون ملاحظات استثنائية يفاجئنا بها الكاتب ضمن مقاربة فلسفية بين الثقافتين أو بين شخصين يعكس كل منهما وجها من وجوه الثقافة التي ينتمي إليها.
أما الإجابة الأكثر وضوحا عن سؤال أين بيروت، فهي تأتي مباشرة عندما يصفها بأنها مدينة تثير في نفسي صورا شبيهة بالمدينة البيضاء: "المدينة البيضاء التي كانت تراودني في أحلام الظهيرة الشبقية وأنا في السابعة عشرة"، ويعبّر عن ذلك في موضع آخر قائلا: "الضوء والظل يتلاعبان بكل شيء هنا، النور والظلمة، ولهذا السبب لا أتذكر مثل هذه الأماكن في سينما رأسي إلا كأفلام من الأبيض والأسود".
تتبدى ثقافته الغربية المؤسسة على أفكار الاستشراق التقليدية ومنها هذه الصورة: "المدينة البيضاء تعني بقعة بيضاء على الخريطة. كنت أحدس آنذاك أن الإيروتيكية لا بد أن تعني دوما رحلة إلى المجهول ولا تعني استقرارا في المألوف والمعتاد. موقف الغربة في حد ذاته. "التشرد في العراء" أعتبره هنا منظومة أساسية إيروتيكية: المكان الغريب، المرأة الغريبة، الأنا الغريبة، الغربة كعامل مثير ومهيج".
هذه الصورة التقليدية الإستشراقية الإيروتيكية عن الغرب، تقابلها الآن صورة نمطية أخرى عن أن أي مواطن عربي في طائرة، هو مشروع قنبلة متفجرة، على ما يصفه الكاتب في أولى صفحات الكتاب بشكل بدا فيه يحاول أن يسخر من نفسه بينما هو يقرر حقيقة تكاد تكون صورة استشراقية معاصرة. لكنه سيعطي هذا العربي - المتهم في الذهنية الغربية المصابة بمرض الإسلاموفوبيا - الفرصة للدفاع عن نفسه بادئا من خبر وفاة المخرج الفرنسي (موريس بيالا) حين قرأه في صحيفة فرنسية إبان وجوده في بيروت، ويسرد سيرته ومرارة الاستهجان التي عاناها كلما حقق جائزة أو نجاحا، لكنه كان يردد: ربما لا تحبونني، اعرفوا أنني أيضا لا أحبكم.
من جملته "أنا لا أنتمي إليهم"، يستلهم كليبرغ تأمل وضعه في بيروت ووضع صديقه عباس بيضون الذي ذهب في رحلة إلى برلين، في إطار مشروع "ديوان الشرق الغرب"، الذي أطلق التجربة كلها. ويستدعي وصفا للقاء بيضون بوالد الكاتب في برلين: "أقرأ في نظرات والدي القصيرة الصامتة التفوق الذهني للأوروبي المتحضر واستعلاءه على راعي الجبال الأمي القادم من الشرق". ثم يوجه الى والده خطابا انتقاديا يبدأ فيه بحكاية من صور وبنت جبيل هي حكاية عباس بيضون، بوصفه تربّى على التقاليد والتسامح والاقتناعات الراسخة والأخلاق والثقافة، مقارنا ذلك بطريقة تربيته وموجها اللوم لأبيه: "أنا الذي لا أتذكر أني سمعتك في طفولتي وشبابي تتحدث باحترام ورقة وتفاهم، عن الكتب والمثل العليا".
لا يدين الكاتب أحدا في الشرق أو الغرب، لكنه يضع يده على موطن أساسي لتلك النظرة الغربية الاستعلائية ويؤكدها من دون وعي منه حين يعود في كل استعراضاته الثقافية إلى المركز الأوروبي الذي ينتمي إليه. لكنه يلتفت إلى ذلك، ولا يغفله، متسائلا هل في إمكانه أن يستشهد يوما في مرجعياته الثقافية بأغاني الأصفهاني أو غيره.
تتخلل الكتاب إشارات وبعض وصف لأماكن وشوارع، مثل الحمراء وبلس والروشة، وصحيفة "السفير"، وصيدا وبعلبك، توصف جميعا بنبرة الصدق التي تميز هذا الكتاب في مجمله، وخصوصاً في رؤى الكاتب لذاته ورصده مخاوف تبدو أقرب الى الوسواس القهري خوفا على ابنته أو خوفا من الموت، يصل إلى حد الفوبيا.
الكاتب في النهاية، على ما يقول عباس بيضون، أهدى هذا البلد الذي أحبه، ذاكرة أوسع منه، صورة مجسمة أفقا بنص يفيض بفضيلتين أساسيتين من فضائل الكتابة: القوة والجمال.
النهار
الخميس 16 آذار 2006
إقرأ أيضاً: