هشة ومبتذلة هي اللغة الشعرية. وقد تغدو ساقطة إذا ما انقلبت على نفسها بفعل ما تنطوي عليه من هامش واسع من المنارة والانتهازية والاحتيال كذلك. العلة في الشاعر، على الأرجح، نتيجة لما يخيّل إليه بأنه يستدرج اللغة إلى حيث يريد. الى حيث يحقق فوزاً استثنائياً في تفجيرها من الداخل لاعادة اللحمة بين أشلائها أو ما يتبقى من بقاياها. ومع ذلك، يبدو أن المرض الخبيث يكمن في اللغة أكثر منه في الشاعر. غالباً ما يدفع هذا الأخير ضريبة إلزامية، وثمناً باهظاً لهذا الخبث القاتل الذي تمارسه عليه بوقاحة. توحي اللغة إليه بأنه على قاب قوسين أو أدنى من بلوغ التعبير الأقصى وهو يتألق في دائرة الحلم. هذه هي الخديعة الأولى التي تتعاقب بعدها سلسلة من الأكاذيب الجميلة. توهمه بأن تلقي في مخيلته نتفاً من صور شعرية مغايرة. تغريه بذلك. ينبهر الشاعر. يصدق بأن اللغة اختارته وحده لتمنحه بركتها الأبدية. اللغة تضحك عليه في سرها. تسخر منه. تشمت منه لأنها تمكنت من خداعه. في حقيقة الأمر، لا تستسيغ اللغة هذا النوع من البراءة الساذجة. تنفر منها. والأغلب انها تحتقرها، لأنها تتطلع إلى موقف آخر للشاعر ينصرف فيه إلى عدم الانزلاق بما تفيض عليه من صور أولية. تريده أن يصطحب معه إزميله على الدوام. يحفر فيها عميقاً من دون رحمة ليزيل عنها القشور والصدأ والغبار الكثيف لا أن يسجل اعجاباً منقطع النظير بالفتات القليلة التي تجود بها عليه. معادلة معقدة، على الأرجح، بين الشاعر واللغة. وغير متكافئة تحقق فيها اللغة امتناعاً قاسياً عن تسليم نفسها بأبسط السبل وأهونها.
*معادلة الرؤية واللغة
قد تبدو هذه المعادلة ضرورية، على الأغلب، لقراءة متأنية لنصوص الشاعرة اللبنانية، آمال نوار، بعنوان "نبيذها أزرق ويؤنس الزجاج" الصادرة عن "دار النهضة العربية"، بيروت 2007. ثمة في هذا الكتاب ما يستوقفنا، مطولاً، عند عتبات العلاقة الصعبة التي تقيمها الشاعرة بين الرؤية واللغة، بين الصورة ومفرداتها، بين اللغة واللغة نفسها، بين الحلم ومكوناته.
نلحظ هذه الأجواء الملبدة بشروط متبادلة مرهقة بين الطرفين. لا اللغة تقدم فروض الطاعة بسهولة. ولا الشاعرة تبدي استسلاماً سهلاً للغة. على النقيض من ذلك، تظهر ممانعة مثيرة للاعجاب تنطوي، على الأغلب، على نزاع حقيقي مع المفردة الواحدة، أو العبارة، قبل أن تضعها في موقعها الملائم في النص. على هذا الاساس، تبدو معادلة الخديعة والانزلاق على طريق الايحاء الكاذب للشعر واضحة في سائر نصوص الكتاب. وهذا ذليل، على أن آمال نوار قد حسمت أمرها في التصدي لمغريات اللغة قبل أن تتمكن منها هذه الأخيرة فتحيل نصوصها ضرباً من البهرجة الشكلية.
مهمتان تتكبدهما الشاعرة، في هذا السياق. أولاهما وأكثرهما ارهاقاً وقلقاً، هي الاصطدام العنيف بجدار اللغة وهي تشق طريقها صعوداً لملاقاة الصور الشعرية وهي تتكون في الذاكرة المنفتحة على اشراقات الحلم.
قلما نلحظ، في هذا المجال، تدفقاً تلقائياً للمعنى وهو يتحول من صورة إلى أخرى، أو من شكل إلى آخر. لا نعثر على توجه من هذا القبيل. اذ لا تنصاع الكاتبة لأول اشارة تردها من اللغة. قد تستخدم هذه الايماءة حافزاً قوياً يشبه شرارة الاشتعال للحفر في اللغة أكثر منها الانقياد السلس وراء اغراءاتها التي تبدو عصية على المقاومة، في معظم الأحيان. كلما أوغلت الشاعرة في تعقب الصور المبتكرة، غاصت في جوف اللغة، في متاهاتها المتعددة، في منافيها القريبة والبعيدة. يتحول الحلم، في هذه المعادلة هبوطاً متروياً في قعر اللغة بحثاً عن اساسات الرؤيا في تربة اللغة وليس في أجواء الحلم المتناثرة في كل الأمكنة والأزمنة. الرؤية البعيدة في هذه النصوص هي أكثر اقتراباً مما نعتقد من المفردة قبل أن تفتح خزائنها ليغرف الحلم منها ما يناسبه. ومع ذلك لا تنطلق آمال نوار، في لعبتها المفضلة هذه، من رغبة عارمة في تحدي اللغة للكشف عن اسرارها الصامتة. ثمة ما يجعل من هذه اللعبة المدروسة أمراً مفعماً بلهيب البحث عن أسرار اللغة وهي تتشكل في اطار المجهول قبل أن تتقمّص الصور المتضاربة في فضاء الذاكرة. الاصطدام العنيف بجدار اللغة هو اصطدام، في الوقت عينه، بجدار الصورة الشعرية. يبقى احدهما معلقاً بانتظار ان يتمكن هذا أو ذاك من فتح كوة في الجدار. كلما تسللت الشاعرة الى الطبقات السفلى للمعنى اللغوي حققت صورها الشعرية ارتقاء نحو الأعلى. وكلما انشدت نحو الاسفل بفعل الجاذبية، عادت لتتحرر منها. إذ يتلقى المعنى، في هذه الحال، دفقاً قوياً وحيوية بالغة ليتحول من صورة إلى أخرى، من فضاء إلى آخر، من بريق إلى آخر.
*الجاذبية ونقيضها
الجاذبية ونقيضها، هما على الأرجح أبرز ما يمنح هذه النصوص هويتها الجميلة والمتميزة. يساعدها، في ذلك، أن الشاعرة ترقب الصورة، في مناخاتها المتشكلة، واللغة وهي تتكسر على نحو لا ينقطع، من موقع بعيد. والأغلب من مناطق نائية قاصية. فهي تنظر الى اللغة من وراء الكواليس. تراها بوضوح. تتشبع بها. تستمتع بمشاهدتها، وهي تتعرى من حجارتها الخرساء. كذلك ترقب صورها الشعرية من الموقع عينه. عين على هذه، وأخرى على تلك. بينما لا تحس بوجودها، لا اللغة ولا الصور المنبثقة منها. رؤية من طرف واحد، بدليل أن أغلب النصوص، ان لم يكن كلها، قد كتبت من حيث يبدو الغياب هو المحرك الخفي الذي يمسك بقواعد اللعبة. الشاعرة هي الغائبة الكبرى في النصوص جميعاً. ومع ذلك. فهي الأكثر حضوراَ. كلما غابت، في هذا النص أو ذاك، وكلما انسحبت من دائرة الضوء ، بدت الصورة الشعرية أكثر حباً للحياة، وأقدر على الصمود والبقاء. في هذا السياق الذي تتجاذبه هذه الجدلية الصامتة، تنتفي اللعبة، بما هي شكل يتحكم بمزاج الشاعرة، لتصبح تلقائياً شرطاً اساسياً وحقيقياً لاستدعاء الشعر إلى النص المتحول بايقاع سريع.
الغياب، على هذه الخلفية، لا يعود انكفاء عن دائرة الضوء، او استمتاعاً بمراقبة الأشياء عن بعد، أو احساساً عميقاً بالتوحد. يصبح بالأحرى إدراكاً لصورة الأشياء وهي تتكون في الظل على طبيعتها الأولى. أو على الأقل كما تتراءى للشاعرة وهي تختلس النظر إليها في السر.
لا يسفر الغياب، كما تعبّر عنه آمال نوار، عن الوجه الداكن للأشياء وهو ذاهب الى حتفه في العتمة. على النقيض من ذلك، إنه امتداد للنور وهو يخترق الظلال. في العادة نرى الضوء ولا نرى الظلال. النور يصعب احتجابه. من طبيعته ان يخاطب العين قبل أي شيء آخر. ومن طبيعة الظلال ان تحتجب عن النظر، لانها الصورة غير المرئية للأشياء الجامدة في أمكنتها إلى الأبد. الشاعرة، في كتابها، تعيد خلط الأوراق. تجعل من الغياب مصدراً حقيقياً للإضاءة. تسلط الضوء على ما لا ينبغي ان نراه ليصبح مصدراً للرؤية الأخرى في ما وراء الأشياء والأمكنة والأزمنة. هناك. في الصمت المطبق، تلتمع الرؤية شريطة أن يفك أسر اللغة من اغلالها لتنتفض من تحت أثقال الرتابة. تقول في نص بعنوان "عربة وهم": (كنت على الدرب التفت نحو الخيل، لن يضّل الوهم طريقه، في آخر الممر بيتي وحيداً بلا أقفال، ونافذتي بيضاء من حنان عيني. كنت عربة صيف كفيفة أمشي من النبع إلى البحر، وما حاجتي الى الضوء حين يجري في النهر وعيني الغريقة في بطن عيني العميقة). نص نموذجي، على الأرجح، دلالة على الرؤية من موقع الغياب. فالنهر لا يجري في الخارج بل في داخل الذات. والعين هي تلك التي ترى الأشياء من بطن العين وليس من ظاهرها. لا غرابة في ذلك، ففي الغياب تنتقل الأشياء من أماكنها لتصب دفعة واحدة في الذاكرة. تختفي جميعاً لتبقى ظلالها.
*الغياب حالة لا وسيلة
في أي حال، ليس في الغياب ما يشغل بال الشاعرة حيال النجاح أو التعثر في بلوغ الصور التعبيرية التي خصصت هذه النصوص من أجل ملامستها، أو الاقتراب منها، او استخدامها للوصول الى محطات أبعد على طريق الحلم الطويل. لا نلحظ شيئاً من هذا القبيل، على الأرجح. قد يُعزى السبب، في ذلك، بشكل أو بآخر، إلى ان الابتعاد المتعمد عن اللغة واشكالها التعبيرية هو جزء لا يتجزأ من "فلسفة" الصورة الشعرية لدى آمال نوار.
قد يلجأ شعراء آخرون، على نحو من الحرية المطلقة في اعادة صوغ العالم، الى تقنية الغياب كوسيلة مرحلية أو انتقالية في أحسن الأحوال لمراقبة تحولات الصورة عن بعد. ثم سرعان ما يقلعون عن ذلك بعد تحقيق مأربهم. في النصوص المتضمنة في كتاب نوار، غالباً ما يسفر الغياب عن حالة عميقة من الكينونة الشعرية التي تتلبس صاحبها بالكامل. لذلك، من المستبعد، على الأغلب، اتخاذها اداة ظرفية لخدمة الهاجس الشعري ومنحه مضموناً صورياً جميلاً. اينما أمعنا النظر في النصوص، ندرك على الفور ان الغياب هو المرتفع الذي تطل منه الشاعرة ليس لرؤية الأشياء من بعد فحسب، وانما تحمله في داخلها. والأرجح انها تقيم فيه، ويقيم فيها على نحو من التشابك الدائم الذي يتعذر فك عراه. تقول في نص بعنوان: "غابة الرخام": (وحدي على ارصفتك ياروما ثمرة نسيان... عظامك تعصف بالذاكرة، وأنا حبر يمحي عن ذهن الشطآن. جئتك حاضنتي كي اغيب في نبيذك واتعشق جسدك، كدعسة فرس في الريح، جئتك اقايضك وهم السنابل بدخان غجري صاعد من قبلة ظمآن...). نص نموذجي آخر عن تشظي حالة الغياب لدى الشاعرة. من غياب الى ثان إلى ثالث، على نحو لا متناه. من ثمرة النسيان الى الحبر الزائل، الى دعسة فرس في الريح إلى دخان غجري. دلالات حقيقية على أن الغياب مقيم في الروح وليس اداة تعبيرية ساذجة أو انتهازية.
من طبيعة الغياب ان تنفجر الأشياء من داخلها، ان تحدث دوياً صاخباً وهي تولد من جديد، ثم تستولد نفسها مراراً وتكراراً. ومن طبيعة الاشياء، كذلك، ان تشهد مخاضاً عنيفاً وهي تنقسم على نفسها كالولادة تماماً التي تخرج الحياة من الحياة. نلحظ، في هذا السياق، مدى اعتناء الشاعرة بهذه المسألة الحيوية. الغياب كما تراه، ليس حالة معزولة منزوية بعيداً عن تحولات الروح وتفتح الحياة على صورها المضمرة في الذاكرة الشعرية. انه في صلب الأشياء جميعاً، في نسيجها الداخلي البعيد، وفي قلب الاحتمالات التي تجعل من مكونات العالم، مادة غزيرة قابلة للتحول واعادة التشكل كلما احست الاشياء بحاجتها الى التبدل والتغير.
*المفردة هي الرؤية
قد تفتح هذه النصوص الباب واسعاً أمام قضايا هامة ومعقدة حول مساهمة اللغة، بأشكالها المبتكرة، في اعادة الاعتبار الى المفردة الواحدة كمصدر حقيقي في عملية الايحاء الشعري. مسلك لا يخلو من صعوبة التجربة، يتمثل في ضبط الصورة الشعرية ولملمة شتاتها المتناثر في فضاء الذاكرة والعالم، على قاعدة مرتكزاتها اللغوية. لا تعود الرؤية الشعرية، في هذا الاطار، ضرباً من الفوضى في التخيل والتأمل واعادة صوغ الأشياء، وتشكيلها. تصبح المفردة، في هذا المنحى، ذات وزن فاعل في العبارة الشعرية. تتحول، في حقيقة الأمر، قوة جاذبة للمعنى الشعري، بدل أن تكون تفصيلاً هشاً مجيراً بالكامل لخدمة الصورة. المفردة الواحدة، كما نلحظ في معظم نصوص آمال نوار، هي رؤية شعرية، في حد ذاتها، أو جزء لا يتجزأ من هذه الرؤية. تقول في نص بعنوان "في غربة الظل": (بأي حبر ادفىء شعور الليل وبأي كلمة أصيب وتر البئر. ثمة محيطات تفصل زجاجي عن الحلم وما من جسر بين الهواء وظلي. أراني في مرآة الغياب تطفو نظرتي ويغرق بحري ولا يبان من لمستي غير الزبد، ولا من روحي غير الزيت...). نص منحوت من حجر اللغة، على الأرجح، تتعمد فيه الشاعرة ان تشتبك مع معوقات اللغة وعثراتها قبل أن تنقيها مما لا حاجة لها بها. الزيت يخرج من مسام الروح، والمحيطات تفصل الزجاج عن الحلم، والجسر يسقط بين الهواء والظل. كل من هذه المفردات ذو موقع بنيوي في النص يصعب استبداله بآخر فتتهشم الرؤية بكاملها.
ليس الغياب، في هذه النصوص، نظرية هبطت بها الكاتبة على ميدان الشعر. إنه رؤية داخلية، على الأرجح، يتوازن بها الشعر والعالم فيعيد احدهما تشكيل الآخر. لا شيء محرماً على الغياب. لا نعثر على استثناءات في هذا السياق. يد الغياب ذات دلالة سحرية بكل معنى الكلمة. لا يقوى شيء على الوقوف أمامها. قادرة على العبث بأنواع الجغرافيا قاطبة الذاتية منها والموضوعية. الغياب، في النصوص، يتجرأ على كل الأشياء، يختصر الجغرافيا. يقلصها. فينكمش العالم وتتوسع الذات. تُجبر الأمكنة والأزمنة على التقلص او التمدد أو تزول من تلقاء نفسها، لتكبر جغرافيا اللغة وتصبح بديلاً حقيقياً للعالم. يتحول العالم جزءاً من اللغة. وبالمثل، تخترع اللغة العالم، تشكله، تقتله وتحييه، تنتقل به من العدم إلى الوجود. تثبته في فضاء الذاكرة. نقرأ في نص بعنوان "العصفور الناسك": (سأذهب الى الجبال لتتسع روحي لرعشة الأزل... أنا الأقل من خفقة عصفور والأضل من خيال ريشة والأرق من بصمة ضوء على هذه الحياة. سأمشي في وعر الظلال، وأُطعم النسيان بقايا عمر تفتت...) ليست الشاعرة من يذهب الى الجبال، بل ظلها، على الأغلب، فقد حررها الغياب من وطأة الجاذبية لتصبح بصمة ضوء على صفحة الماء.
الغياب، في هذا النص، يصنع غيابه، يذهب الى أبعد من الظلال إلى رعشة الأزل. اللغة نفسها تصبح ضرباً من الغياب. اللغة هي الغياب.
المستقبل
الاثنين 16 تموز 2007