أفق مغلق. والروح أسيرة خلف قضبان التيه. والرؤية تحدث ثقوباً في العين. والدماء أصابها الارهاق من شدة الغليان في الشرايين الصدئة. هذه هي، على الأرجح، الأجواء التي تتحكم بالمفاصل الرئيسية لنصوص الشاعر المغربي، ياسين عدنان، بعنوان "لا أكاد أرى" الصادرة عن دار النهضة العربية، بيروت 2007. ومع ذلك، فإن لهذه الأجواء التي تذهب بالصورة الشعرية الى حيث يتحوّل الاختناق ضرباً من الجحيم في الوطن العربي، دوراً في استدراج الحلم الكبير، قبل أن يضيع كحبة رمل في صحراء تستغيث من العطش الرهيب. يستخدم الشاعر، في هذه البانوراما القاحلة أسلوب المفاجأة المريعة التي تنقض كالقضاء والقدر من دون مقدمات مطرزة بالثرثرة البلهاء. لا يمهد الشاعر لهذه النقلة السريعة. يرمينا بها على نحو عشوائي. يصيبنا منذ الضربة الأولى فيقتلعنا من الجذور ثم يلقي بنا في قلب المعاناة. هناك تنفتح المسام على المجهول، والجنون، والقحط والجفاف ويباس الروح في العشب، واتساع رقعة الظلال وهي تنسحب بهدوء الى حيث الاندثار البطيء.
الانهيار
يتجوّل ياسين عدنان عميقاً في المشاهد التي تنتشر كالضباب الكثيف في أرجاء الذاكرة المتعبة. يرقب التفاصيل المثقلة بالانهيار من وراء جدران الروح. ثم لا يلبث أن يصطدم بها، ملقياً بنفسه في حيرة التيه. يخفت مسعاه قليلاً، ينكفئ الى الظلال البعيدة. ثم يهب من جديد مع قيامة الحلم المتوثب من تحت غبار السنين المترهلة. لا يسعفه في ذلك سوى بقايا من رمق في جسد اللغة المضرّج بالأحلام المجهضة. لا يجد وسيلة للخروج من هذا المأزق إلا بحفنة من نور وريح وارتعاشة هي من نبض اللغة وهي تستنفر حواسها لتنهض من تحت رداء الموت. تبلغ هذه النصوص ذروتها عندما ينتقل الشاعر بالصراع المحموم بين الحياة والموت من المستوى الذاتي الى البعد الموضوعي. يضع اللغة في الخندق الأمامي لهذه المعركة الحاسمة بين هزيمة الروح وانتصار الملح في صحراء التيه. تتحوّل المواجهة الكبرى، في هذا السياق، بين اللغة واللغة بين الروح والروح، بين الظلال والظلال، بين الذاكرة والذاكرة. وبين هذه وتلك، يتلقى الشاعر نصيبه من الاحباط والانكماش وازدياد الاحساس بالضياع في الدروب الصعبة المتقاطعة. الأرجح أن الشاعر يرتقي بمفهوم التيه الداخلي على نحو تدريجي. يتابعه بدءاً من أجزائه الصغيرة فالأكبر، ثم الأضخم حجماً. ينطلق في هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر من نص بعنوان: "من رآه": (صارماً مثل باب مغلق لا ينفرج... كان يهجو الصباح إذا لاح... كان يذرو الرياح... لا سبيل الى روحه المرهقة... صامتاً مثل جرّة ماء معتق...). الاحساس المأسوي بالصمت حيث تتردد أصداء السكينة الموحشة، هو الخطوة الأولى في صحراء التيه. شعور بالوحدة القاتلة يتهدد الشاعر وهو على قاب قوسين أو أدنى من التلاشي التام أمام جبروت الهزيمة، يبدو الصمت في هذا الاطار، ضرباً من العجز بدليل أن الحصار المفروض عليه هو كالمياه الراكدة تماماً. ينتقل الشاعر بعد ذلك في نص يلي مباشرة الى البحث عن قسمات الوجه، لا يعثر عليه إلا في تيه الغياب. يقول في مقطع بعنوان "سنفتش عن وجهه": (سنفتش في الأفق عن وجهه... سنفتش عن وجهه في القمر ربما وهو يعبرنا نحو شط صبابته... ربما وهو يقطع خاصرة الليل نحو براري يديه...). البحث لا يكون، في العادة، عن الأشياء المفقودة أو الضائعة. يفتقر الشاعر الى وجهه لأنه سقط منه على حين غرة. أصبح بلا وجه. راح يبحث عنه في كل الأماكن باستثناء الجسد الذي ينتمي إليه هذا الوجه بالضرورة. الوجه لا يمثل نفسه فقط، بل يرمز الى كيان الجسد وهيكله. أصبح جسداً بلا روح، وروحاً بلا هوية.افترقا كل منهما في طريق. يبحث أحدهما عن الآخر عبثاً. ينتقل الشاعر في المحطة الثالثة الى البحث عن الزمن. لا يعثر عليه. تبخر من دون سابق إنذار. والأغلب أنه ضاع في زمن التيه. يقول في نص بعنوان "دونما موعد": (لم يعد ممكناً أن أجرد سرب الدقائق من صخب الاستباق. ساعة الحائط انهمرت نحو بئر المواقيت دقاتها...). وفي المحطة الرابعة، يصبح الشاعر، بالنتيجة، مفتقراً لأبسط قواعد الاحساس بدفق الحياة في الذاكرة. تهجره ذاكرته إلى التيه أيضاَ. يكتب في نص بعنوان "لا تنتظري": (سأزورك لا تبتئس في الصباح الذي ستلوح تباشيره ذات يوم... سأزورك في زي وردة... ربما في ملابس نومي... سأزورك حتماً فلا تنتظري). مربك هو الشاعر ومتردد، يدور حول نفسه في بؤرة من فراغ. تنسلخ عنه من حوله كل الأشياء. يصبح في حالة من انعدام الوزن والجاذبية كالشبح الذي يخيل إليه أنه لا يزال كائناً موجوداً، فإذا به يتذكر، بعد فوات الأوان، أنه بقايا لا قيمة لها لذاكرة هربت منها أحلامها منذ زمن طويل. الشاعر، في هذا النص، يعد فتاته بالزيارة، غير أنه يطلب منها ألا تنتظره، لأنه تحول روحاً تائهة لا ترتبط بالزمان والمكان.
الخروج من التيه
يقترب الشاعر من المحطة الخامسة من نصوص الكتاب، وقد بدا مستنزفاً خائر القوى لا يقوى على شيء. ومع ذلك، فإن ثمة مشروعاً لديه للخروج من التيه في محاولة لاستعادة هوية من نوع أرقى لا تمت بصلة الى مثيلتها السابقة. يكتب في نص بعنوان "تعب الموج": (قد يضيق الفضاء بنا وتضيق القلوب بأحلامنا فنعود الى أول الدهشة القهقرى وتنيخ الرؤى عند سفح الأفول... من رأى منكم وردة تستحم بعطر صبابتها... من رأى نخلة تستجير بنبع الذهول...). يعلن ياسين عدنان في هذا النص انصرافه التام عن البحث عن هويته المفقودة بين دفاتره القديمة. يزيل من ذهنه كل الأشياء التي ألقت به في عتمة التيه. حتى الفضاء الشاسع والقلوب منبع الأحلام تصبح من مقتنيات الماضي. يرى الخلاص في العودة الى الدهشة بشكلها الأول، أسوة بالنخلة العطشى ليس الى الماء بل الى نبع الذهول. الى الحلم الذي ظن الشاعر، للوهلة الأولى، أنه هجرة الى الأبد. ملفت في هذا النص ان العودة الى الحلم، وهو يتشكل على ايقاع الدهشة والانبهار والرؤية المتلألئة كالأضواء إنما تتم بالقهقرى، أي بالسير الى الخلف، الى البدايات التي يبدو أنها سقطت سهواً من الشاعر وهو يتكبد المشاق للخروج من دائرة المتاهة. القهقرى، على الأرجح، هي العودة الى الذاكرة قبل ان تستفيق على الدروب المشرعة نحو التيه. لم يقل الشاعر انه يمكن العثور على هذه الدهشة بالسير قدماً الى الامام. فالأماكن المتكاثرة في هذا الاتجاه، يقود بعضها الى بعضها الآخر على نحو من دوامة جهنمية، كلما تقدم فيها المرء غرق في رمالها المتحركة. دوامة كهذه تنعدم فيها المسافات لكثرتها، وتغيب عنها الاتجاهات لاختلاط الأفق بالأرض بالقاع. لا افق فيها ولا اتجاهات. وحش يتقمص المسافات. يأكل نفسه. ثم تأكله نفسه. ثم ينقض الاثنان على كل شيء. مشهد مخيف لا يبقى فيه شيء الا من البقايا الباقية التي تغرق تباعاً في أكوام الملح الأسود.
العودة الى الدهشة
ومع ذلك، فان العودة الى الدهشة تنطوي بدورها على مخاطرها الكبيرة. لن تكون أبداً عودة كالمرات السابقات. عودة غير مألوفة لأن فيها رائحة البداية التي لم يعهدها الشاعر من قبل. يكتب الشاعر في مقطع آخر من النص عينه: (قد يضيق الفضاء بأنفاسنا.. قد يضيق لنعود الى حلمنا غرباء... فالسماء رمادية والقلوب عدائية والحنايا تذبح اشجانها في العراء... ربما شاءت الريح ان ننتهي في المهب وأن نتبدد في الصمت في مهرجان الظلال الكبير لتسكب ارواحنا في دنان الشقاء..). للدهشة في هذا السياق، ضريبتها كذلك. ثمن باهظ يتجرأ الشاعر على تسديده بالكامل. الخروج من صحراء التيه الى الحلم هو أشبه بالقطيعة مع العالم بأشكاله القديمة. يدرك الشاعر بأنه سيصبح غريباً بين غرباء. غير ان غربة كهذه هي الطريق الوحيدة التي تنكشف على الحلم وتصنع الذاكرة من جديد. يعترف الشاعر كذلك، ان الانتقال من التيه الى الدهشة والذهول، هو انتقال أيضاً من الظلال الى الظلال. غير ان ثمة فرقاً شاسعاً بين هذه وتلك. الظلال المنبعثة من التيه تؤدي الى التيه في اكثر صوره اختناقاً واحباطاً وانهياراً. الظلال المنبعثة من الدهشة تؤدي الى دهشة ثانية وثالثة ورابعة. دهشة تتوالد من نفسها ولا تقف عند حدود معينة. لا نهاية للدهشة. كما لا نهاية للتيه. الشقاء هو العنوان الأكبر للاندماج في التيه. والشقاء كذلك هو العنوان الأبرز للدهشة. ولكن شتان ما بين هذا وذاك. الشقاء النابع من الدهشة هو دهشة في حد ذاتها. والشقاء الناتج عن التيه هو التيه بعينه. للمتاهة صمتها، وللدهشة كذلك، كما يقول الشاعر. صمت الدهشة هو لحظة الصفاء الأرقى التي يستسلم فيها الشاعر لموجة من الاستمتاع المثير بالعالم وهو يتغير من شكل الى آخر.
الدهشة، في هذا السياق، هي اعادة اكتشاف للحلم في منبعه اللغوي. ان يعود الشاعر القهقرى الى حيث الدهشة في بريقها الاول، هو اختصار لمراحل التيه والانقلاب عليها في آن، من خلال التشبث بخشبة الخلاص الوحيدة المتمثلة في اللغة الأخرى. الخلاص، بهذا المعنى، هو اقرب الى الشاعر من حبل الوريد. أقرب اليه من المتاهة التي تحاصره بصحرائها الشاسعة من كل الجهات. والأرجح ان تفجير اللغة من الداخل تمهيداً لتفجير العالم، في الشكل والمضمون، لا ينطوي على الخلاص فحسب، انه الحد الفاصل بين الحياة والموت. الحياة لا تكون الا باعادة الاعتبار الى اسباب البقاء في اللغة. والموت هو اطلاق رصاصة الرحمة على مكونات الحياة في اللغة. يتعذر تغيير وجه العالم والحياة بعيداً عن الشرط الأول الكامن في تشكيل كل منهما. لا سبيل الى ذلك الا باطلاق شرارة اللغة لكونها المصنع الأول الذي يتكون فيه الحلم، وينمو في مواجهة التيه المنتشر على ضفاف اللغة المنهارة. يقول الشاعر في نص بعنوان "لا اكاد أرى": (لا أكاد أرى فرساً واحداً في براري الكلام.. ولكنني أتشمّم رائحة الوثب في طفرة الكلمات العنيدة.. أتوزع في الجرح في ما بين حكمته ولظاه وأجر الحروف التي ترهب الضوء من ساقها ثم اشوي دلالاتها تحت لفح الغموض..)
السباق بين الحلم والانهيار
واضح في هذا النص ان الشاعر يستعجل السباق بين الانهيار في صحراء التيه والانطلاق نحو الحلم المتكون في رحم الذاكرة باشارته الى خلو اللغة المستخدمة من فرس واحد هو من نسيج الريح المتوثبة الى الحركة الدائمة. وهو يقصد بذلك تلك اللغة التي اما ان تتحول فرساً يتجاوز ذاته ويخترع مسافاته، واما ان لا تكون على الاطلاق. الصورة الشعرية في هذا المعنى تستمد اشراقها من القدرة الدائمة للفرس على اختراع مكانه وزمانه من خلال الحركة التي لا تهمد ابداً. الحركة، في هذا الاطار، تؤدي الى الحركة، الى التحرر من ثقل الثبات ووطأته وديمومته. اللغة لتبقى وتعيش وتستمر ينبغي ان تتقمص شخصية الفرس. والأغلب ان تصبح هي الفرس الذي وحده يعرف الدرب الى الحلم. وحده يختار طريق المجهول المعبدة بالمخاطر. كما يقول الشاعر، فالحلم يقيم في المجهول. انه هو المجهول عينه. يقول الشاعر في مقطع آخر من النص نفسه: (فأنا لا ارى فرساً واحداً في النوايا التي قايضتني الخراب انما اتوقع ان يتسلل من الحوافر نحو سهوب التداعي قبل أن تطبق ريح الحروب على قصبات الهواء... فمن سيعيد دمي الى انشغالاته الكرزية.. من يعيد هواء خفيفاً لثرثرة الغد يا آخر الأصدقاء...) يستشرف ياسين عدنان في هذا النص تلك اللحظات التي تتسلل فيها حوافر الفرس الى المناطق المحاصرة بالانهيار ليستنهضها وسط مشاهد الخراب قبل ان تنقض عليها ريح الحروب. والمقصود بذلك على الأرجح اكتمال مشاهد الانهيار في اللغة والعالم والانسان العربي. إنها إحدى المعارك الحاسمة التي تخوضها اللغة ضد نفسها لتقتل في نفسها الوحش قبل ان يقتلها.
المستقبل
18/آب/2007