في الشعر يولد الموت وتموت الحياة. وقد يتبادل هذا وذاك الأدوار فيستسلم كل منهما للآخر أو يتمرد عليه. فتبدأ الحياة حيث ينتهي الموت.
وقد يبدأ الموت حيث لا تنتهي الحياة. وقد يسقط الاثنان معاً. أو قد يعيش أحدهما في الآخر. هذا يعقب ذاك، أو قد يتخلف عنه. أو قد يعيل الموت الحياة قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة. فيموت الاثنان أو يعيشان جنباً الى جنب. دوامة سريعة الايقاع لا تخضع وتيرتها إلا لمقاييس هي من نسيجها فقط. غالباً ما تسفر عن بعثرة مذهلة لكل الأشياء. والأرجح أن نتائجها نادراً ما تقتصر على العبث بالقشور. تنفذ عميقاً الى طبيعة كل ما يعترض طريقها. تهشمه من الداخل. تقبض على حركته الذاتية. تصادره بالقوة. تضمه الى متاعها المتغيّر، فلا يعود هو إياه. يصبح شيئاً آخر مختلفاً ذا هوية لا سابق لها.
هذه، على الأرجح، هي دوامة الشعر وهو يزيل من طريقه ألغام الموت والحياة. يتنصّل من كليهما وهو يمارس لعبته المفضلة: إعادة تكوين العالم من حيث لم يبدأ. ولأن الأمر كذلك، سرعان ما يرى الشاعر نفسه وقد سقط في المتاهة. قد يعزى السبب في ذلك الى قدر غريب، هو الارتحال الدائم الى حيث البدايات الأولى التي لم تتكون بعد، الى حيث لم يطأها الموت أو الحياة. يخيّل إليه أنه بلغ أهدافه، أو على وشك أن يفعل ذلك. ثم يكتشف أن وراء ذلك بداية أخرى، فيجهز أشرعته من جديد. غير أنه لا يصل. قدره ألا يقترب من حلمه. ومع ذلك، يحمل متاهته على كتفيه قاصداً منفاه ليجد بأن الخروج من هذه الدوامة المرهقة مشروط بالدخول الى دوامة أخرى. وأن قرار النفي يتعذر إلغاؤه إلا بنفي آخر. عند هذا الحد من الإقدام والتراجع، تغيب معالم الموت والحياة أو يصبح الاثنان وجهاً لشبح واحد. ولكن يتراءى الشعر من بعيد كفجر لن يطل بوجهه أبداً، متخطياً تلك الحواجز الثابتة للموت والحياة في اتجاه ما ليس بمقدور هذين أن يبلغاه وقد أصابهما الترهل والضجر.
نصوص بالجملة
قد تقترب هذه التصورات أو تبتعد من النصوص الشعرية لفاضل العزاوي وقد جمعت في مجلدين كبيرين صدرا، مؤخراً عن "منشورات الجمل"، بيروت ـ 2007 بعنوان "الأعمال الشعرية". يبدو، للوهلة الأولى، أننا قد عثرنا، للتو، على هذه النصوص، علماً أنها أبصرت النور، في السنوات الأربعين الماضية، على وجه التقريب. وكانت صدرت تباعاً في شكل مجموعات شعرية بلغت الأربعين كتاباً. ومع ذلك، فإن في نشرها معاً في المجلدين المذكورين دفعة واحدة، ما يجعلها أكثر تعبيراً عن طبيعتها وأكثر اقتراباً من الفضاءات الشعرية لصاحبها. والأغلب أن الشكل، في هذه الحال، يعيد الاعتبار الى المضمون على نحو لم يكن متوافراً عندما صدرت هذه النصوص في مجموعات متناثرة. يصبح بمقدورنا أن نتجوّل بعيداً، وعميقاً، وفي كل الاتجاهات التي تنطوي عليها تحولات فاضل العزاوي وهو يصنع عالمه الشعري. يغدو أكثر انكشافاً أمام سلسلة المرايا التي تعكس إحداها ظلال الأخرى. أو تنقلب عليها، أو لا تعترف بها على الاطلاق. نقرأ الشاعر "بالجملة"، وكنا فعلنا ذلك "بالمفرّق" من قبل. نترصده وهو يحمل معوله يحفر عميقاً في التربة بحثاً عن لغة ينقذها في اللحظات الأخيرة. ندرك أيضاً كم حاول إسعافها ليوقظها من غيبوبتها وهي في الرمق الأخير. غير أنها، تأبى في تلك اللحظات الصعبة إلا أن تموت بين يديه. نرافقه طويلاً وهو يلهث بحثاً بين الأنقاض عن جثة اللغة أو بعض أشلائها ليدفنها حيث تستحق أن يكون مثواها الأخير. نهبط معه الى الجحيم حيث تستعر الصورة الشعرية، فيسقط منها ما ليس منها. في تلك النيران المحتدمة على إيقاع النزاع مع مشاهد الرتابة المقززة، نستمتع بمنظر اللغة وهي تتخفف من ثيابها السميكة لتعود كما كانت في الأصل شفافة كالروح المتلألئة.
جسد اللغة عارياً
في المجلدين معاً، نتلمس جسد اللغة لدى فاضل العزاوي كما لم نفعل من قبل. نلحظ بدءاً من النصوص التي تعزى الى ستينات القرن الماضي، كيف راحت هذه اللغة تتكون في رحم الرؤية المستجدة الى الحياة والموت والعالم. بدت، في تلك الأثناء، معنية بكل الأشياء من دون استثناء، طفلاً تقوده عيناه الى لمس ما يقع عليه نظره ليتأكد منه بنفسه. ليصبح ملكاً له بالدرجة الأولى. عينان لا تخشيان شيئاً على الاطلاق. لا تنفران من شيء أبداً. ذاكرة جائعة الى الامتلاء، الى التشبع بالشيء وظلاله، الى محاكاته في حركته الداخلية وهي تدور دوراناً منقطع النظير حول نفسها تمهيداً للانتقال بتدفقها الذاتي الى غيرها. عينان تريان الشيء وما يحدث وراءه وفي خلفياته وعلى هامشه. نلحظ كذلك. تتبع الشاعر الدائم للصورة وهي تقترب من غيرها. ثمة في تلك النصوص ما يحمل على الاعتقاد بأن العزاوي بدأ مبكراً لعبة بدت الأكثر استساغة له، وهي ضرب اللغة باللغة نفسها. أي جعل اللغة تنفي نفسها بنفسها. تحكم على نفسها بالموت، أو الانهيار في أحسن الأحوال ليتسنى للشاعر بعثها من جديد. على هذا الأساس من التوتر اللغوي المحموم بدت نصوصه الأولى سريعة في القبض على الأشياء. المشاهد، في هذا السياق، لعنف في تقلبها الداخلي، وتسارع في موسيقى الايقاع، تلتهم جزئيات الأشياء، بدقائقها وتفاصيلها الصغيرة والكبيرة. تستطعم نكهتها، تتحسس أنفاسها، تستشعر غاياتها قبل أن تصادرها بقوة الى مختبر المصنع الشعري.
الحركة النابضة هي، على الأرجح، أبرز ما يميّز هذه النصوص. حركة لا تهدأ. تستنفد نفسها حتى الرمق الأخير. تحرق طاقتها بالكامل لتختصر المراحل قبل السقوط في المتاهة الكبرى حيث تنعدم الأشياء جميعاً، ثم تظهر من جديد دفعة واحدة. أكثر ما ينسجم مع هذا النبض السريع، استخدام الشاعر لكلمة الريح في منظومة واسعة من الايحاءات. والأرجح أن هذه "المفردة" بما تنطوي عليه من قدرة على التمرد على قانون الجاذبية، وتفلت من الايقاع البطيء، وسرعة الانقضاض على الهدف، بدت علامة فارقة في النصوص المشار إليها. راح العزاوي يفتح آفاقاً تلو الأخرى في فضاءات هذه الكلمة مأخوذاً بقوتها الفذة على التغيير على نحو لا يجارى.
يقول في نص عنوانه "الريح الريح الريح":
أكره أن أسقط في معركة التاريخ
ها هو ذا الانسان
يهبط من ماضيه ويسقط في النسيان
الريح الريح الريح
لن تفزع أشرعتي بعد اليوم
فإني إني أخبركم أني نفسي الريح الريح الريح
الريح صنيعة الريح
بغض النظر عن إحساس الشاعر العربي في تلك الأثناء بحاجته الماسة الى الريح لاستعجال التغيير واستباق الرؤية وصنع التاريخ، فإن لدلالات هذه الكلمة في شعر العزاوي أبعاداً أخرى. والسبب في ذلك، أن طبيعة الصورة الشعرية وهي تنتقل كالسهم في اتجاه الحلم، يتعذر عليها أن تفعل ذلك بأدوات تقل شأناً عن الريح الهائجة التي لا تعترف إلا بقوانينها هي. لم يتخلّ العزاوي عن هذه الأداة الرشيقة في سائر خارطته الشعرية أبداً. أدرك مبكراً القيمة الايحائية القصوى لصورة الريح وهي تتشكل، على الدوام، في ذاكرته، جاعلة كل شيء متحركاً في فضاء الحلم المفعم بالحيوية. غير أنه، من ناحية أخرى، صاغ صوره الشعرية على غرار الريح نفسها، وقد تقمصها أحياناً كما يرد في النص السابق.
نصوص من نسيج الريح، على الأغلب، في هبوبها وهيجانها وانكفائها كذلك. نراها تهدأ، كما الريح، ثم لا تلبث، من دون سابق إنذار، أن تثور على نفسها، ومحيطها، وكل ما يعترض طريقها، ومن يقف في وجهها. يكتب العزاوي في نص متأخر نسبياً بعنوان "الشاعر يكتب وصاياه":
من هذا الطارق باب حياتي
من هذا الصاعد من بئر الأيام
قل لي من أنت وماذا تطلب مني
ما من أحد يعرف عنواني في هذا الوادي النائي
إذ أصرف أيامي ضجراً بين رجال غرباء
ماضين الى مدن أخرى منسياً حتى من نفسي
فاذهب ودع الشاعر يكتب للريح وصاياه
وللنار كتاب النار.
لم يجد الشاعر، في النص، خيراً من الريح لتبث وصاياه، وتشتتها أيضاً. يكتب وصاياه للريح التي ستظل تحملها من مكان الى آخر من دون انقطاع. الوصايا تصبح من نسيج الريح وطبيعتها المتحركة. تتحوّل، على الأرجح، ريحاً في حد ذاتها. الشعر هو الريح في هذا النص، والعكس صحيح أيضاً. نص نموذجي، في هذا السياق، دلالة على عدم الثبات والاستقرار لدى العزاوي في علاقته مع الرؤية الشعرية. يبدو هذا النص بوصلة حقيقية تشير الى توجه الشعر نحو الريح، وتوجه الريح نحو الشعر. قلما نقرأ نصاً للعزاوي، في المجلدين، يخلو من حركة الريح ونبضها، من صقيعها وسخونتها، من بطشها ورائحتها، من سكينتها واضطرابها. ألم يقل هو نفسه بأنه الريح بكل أشكالها وتداعياتها.
هوية ضد الهوية
يخيّل إلينا أننا، على قاب قوسين أو أدنى، من معرفة الهوية الشعرية لفاضل العزاوي بعد أن جمع نتاجه في مجلدين ضخمين. بمعنى أنه بات بإمكاننا أن نضع النقاط على الحروف، وأن نقبض على الشاعر متلبساً بهوية لم يعد بمقدوره أن يتنصل منها. هذا، على الأرجح ما قد يوحي به المجلدان باعتبارهما يشكلان إدانة قاطعة له، على هذا الصعيد. ومع ذلك، ينجو الشاعر بنفسه من هذه التهمة. كل الوثائق التي خلفها العزاوي وراءه، في هذين المجلدين، لا تكفي لحمله على الاعتراف بارتكابه هذه المعصية. قد تبدو نصوصه الأولى مضللة، في هذا الخصوص. ونصوصه المتأخرة أكثر تضليلاً. لا هذه تضفي عليه هوية شعرية محددة، ولا تلك توفر لنا أدلة دامغة لوضعه في قفص الاتهام. والنتيجة أن هذين المجلدين قد زادا الوضع إرباكاً. لا شيء يشير الى تقوقع الشاعر في القمقم واطمئنانه الى الأهداف التي حققها. فإذا بدت نصوصه الأولى محلقة في فضاء المشاهدات المبعثرة لالتقاط ماهيتها واحتمالات تشكلها، وموتها واستيلادها واستخراج الظلال منها. فإن نصوصه المتأخرة تنفلت من هذه الغريزة الجائعة الى اكتشاف العالم في حركته الداخلية، الى غريزة أكثر ظمأ لاكتشاف الذات في حركة العالم الأوسع. ليس ثمة انقلاب للنصوص الأولى على الثانية، ولا الثانية على الأولى. والأغلب أن إحداهما لا تسعى الى التكامل مع الأخرى أو الاكتمال بها. كما أن كلاً منهما لا يشكل امتداداً تلقائياً للآخر. صحيح ان إحداهما لا تنفي الأخرى، وليست مهمتها أن تفعل ذلك. إذ ليس بمقدور الشاعر أن يتنكر لبداياته التي شق فيها طريقه نحو الحلم. ثمة أمر آخر أكثر أهمية يبرئ الشاعر من تهمة الاستئناس اللذيذ بالهوية الشعرية الجامدة.
النصوص المتأخرة
في نصوصه المتأخرة، يبدو العزاوي أكثر احترافاً بالتعامل مع اللغة في طبقاتها السفلى. قد يعزى هذا الأمر الى ارتداده الحاد الى فضاء الذاكرة بعد أن تشبعت بمشاهدات العالم. لم يعد ثمة فرق، في هذا الاطار، بين الذاكرة والعالم، ما دامت اللغة، وهي تمارس حفراً ذاتياً في أرضها الوعرة هي لغة التواصل بين الاثنين. كلما أزال الشاعر طبقة من الأساسات المتوارثة للغة، اقترب من ضفاف الرؤية وبان له الحلم أكثر انصياعاً على التشكل في صوره المستجدة. وكلما اجتاز عقبة أو مطباً أو مصيدة على طريق الرؤية، بدت اللغة أكثر مرونة للتعبير عن الغريزة الشعرية. في قصائده المتأخرة، نلحظ تناغماً حقيقياً بين اللغة وأشكالها التعبيرية والرؤيوية. ومع ذلك، لا نلحظ تهدئة للقلق المزمن الذي يصاحب الشاعر منذ بداياته الأولى. لا نعثر على مخرج ينقذ الشاعر من الضياع في صحراء المتاهة. ولو خيّل إليه أنه وجد هذا المخرج لانتفت لديه الحاجة الى استخدام معوله ليظل يحفر في جوف الرؤية واللغة معاً.
الأرجح أن أعمال فاضل العزاوي تبلغ ذروتها في نصوصه المتأخرة، ليس على سبيل المقارنة مع مثيلاتها المتقدمة أو المفاضلة بين هذه وتلك. تقنية ساذجة هي تلك، أو عقيمة، التي تستخدم معياراً نقدياً صارماً في قراءة النصوص لشاعر بعينه أو لشعراء آخرين. ليس في الأمر شيء من هذا القبيل. الذروة، في هذا السياق، قد تشير بشكل أو بآخر، الى تشظي الأدوات الشعرية نتيجة "للاعتداء" المتكرر على اللغة بغية ترويضها وفك طلاسمها وحملها على أن تقول ما لا ترغب في قوله إلا بعد استدراجها الى منطقة الرؤية وإخضاعها للامتحان العسير. نلحظ ذلك بشكل واضح، على الأغلب، في كثرة النصوص التي توحي بمعاناة ثقيلة ومجحفة لدى الشاعر وهو يسعى الى إيجاد البديل الشعري الملائم لهول المتاهة التي ألقى نفسها في جحيمها. لعل المقصود بهذا التصور، الاستعداد الغريزي المسبق للافادة من حالة الارباك والضياع لمواجهة المتاهة بعدة لغوية متجددة تلقائياً تستجيب بالفطرة الشعرية لتجدد المتاهة من وضع صعب الى آخر أكثر صعوبة.
العودة الى المتاهة
لا يعني هذا الرأي، بالضرورة، أن المتاهة في نصوصه الأولى بدت أكثر استجابة لتجاوزها. على النقيض من ذلك، توحي المتاهة في أعماله الأولى بأنها حصار للذات والعالم معاً على خلفية التحولات السياسية والانسانية الكبرى التي كانت تداهم بقوة الوطن العربي تحديداً، والعالم بشكل عام. بدا الوصول الى الحلم، في أعماله الأولى، ضرباً من التجرؤ على إعادة تشكيل أحداث ومفاهيم وايديولوجيات سريعة التغيّر في أجواء يسودها الغموض والاحباط إذا صح التعبير. في نصوصه المتأخرة، يخرج الشاعر من شبكة الدروب الفرعية والدهاليز في اتجاه المتاهة الأقرب الى مزاجه بعد أن بدا له أن التسوية مع الذات هي وحدها التسلل من المتاهة بالحلم. يقول في نص بعنوان "هبوط فاضل الى العالم": (ذهبُ حياتي نثرته في طريق المستقبل ورائي، رفضت أن أستلم براءة ذمتي من العالم. في هذا الليل سأرفع كفي كنذير بحياة أخرى، أصعد صخرة هذا المنفى، التقط الجمرة من موقد تاريخي، أقذفها في عتمة أيامي وأسير في الشارع وحدي كي أبلغ نفسي).
المتاهة، في هذا السياق، هي التوحد الكامل مع الذات. ضرب من المغامرة الموحشة لإعادة تشكيل العالم والذات على إيقاع مشاهد لا تنتمي الى العالم بقدر ما تنسجم مع الرؤية المتفردة بديلاً من عالم يتجاذبه الموت والحياة في فضاء من الضجر والتثاؤب. تصبح المتاهة، في هذه الحال، ارتحالاً مستمراً الى فجر البدايات الأولى، الى نورانية اللغة قبل أن تصاب بالخرف المبكر.
المستقبل
الاثنين 9 تموز 2007