عندما تتخلّى التفاصيل والأشياء الصغيرة، أو التافهة، أو المهمّشة، عن أمكنتها المنزوية في ما وراء الرؤية، تستيقظ من غفوتها المزمنة. تنقلب على نفسها المنسية، تتحرك في كل الاتجاهات. تدبّ فيها الروح فجأة لتجعل منها كائنات تتوثب الى الخروج من بيئاتها المتوارية عن الأنظار. ناظم السيّد يستكشف هذه المنظومة الواسعة من تلك الأشياء الضئيلة في الحجم والتأثير، ثم يستدرجها الى دائرة الرؤية الشعرية. يستنهضها من عزلتها الأبدية. يفك أسرها من القيود الثقيلة التي أثقلت كاهلها وأصدرت بحقها أحكاماً مبرمة من النفي الدائم الى عالم الأشباح. ينزلق في هذه التجربة الممتعة، رغم صعوبتها، في مجموعته الشعرية الصادرة حديثاً عن "دار رياض الريس للكتب والنشر"، بيروت 2007، بعنوان "أرض معزولة بالنوم".
51 نصاً شعرياً يفتقر كل منها الى عنوان قد لا يتلاءم مع نسيج أي منها في الأساس. نصوص بلا عناوين قد تمارس عليها هيمنة من الخارج من شأنها أن تكبّلها أو تفرض عليها رقابة هشة لا تحتاج إليها أبداً. وقد لا تطمئن إليها في الوقت عينه، باعتبار أنها تخاطب فضاء منفتحاً على كل الاحتمالات. ويبدو أن الشاعر يعي هذه المسألة على نحو يتوخى إطلاق هذه التفاصيل والأشياء الصغيرة من قمقمها. فالعنوان قمقم آخر في حدّ ذاته. نمط آخر من الأسر. نفي للصورة الشعرية الى أمكنة لا تستجيب، بطبيعة الحال، لتوق هذه الأشياء والتفاصيل "المقهورة" الى الانعتاق من حالة الجمود القاتل الذي يتلبّسها على الدوام. على هذه الخلفية من تغلغل الشاعر من خلف الكواليس متخطيا الحواجز العنيدة للمشهد الكلي لسيناريوهات الحياة اليومية، ينتقل بنصوصه الرشيقة مباشرة الى حيث تمتنع العين، في العادة، عن رؤية الأشياء وهي تتحرك في دائرة الظلال. هناك في ذلك الفضاء الداكن المختبئ في الزوايا حيث الانغلاق الكامل على المدى الآخر للمشهد، تتحرك الرؤية الشعرية بصمت. تعيد الى هذه الأشياء والتفاصيل جدواها الحقيقية في استكمال ما فات الصورة الكلية من ظلال مرهفة هي بأمس الحاجة إليها. قد يخيل إلينا، للوهلة الأولى، أن ناظم السيّد مزمع على إنارة هذه الأماكن المظلمة لتنضم الى حلقة الضوء. والأرجح أنه يبتغي أمراً آخر مناقضاً تماماً. إنه يستهدف، والحال هذه، إفساح المجال لدائرة الظلال لتتوسع الى خارجها. لتقفز بدورها الى دائرة الضوء. لتحقق امتداداً ينسجم مع طبيعتها المتحركة الكامنة في أعماقها. أليس الصمت، في هذا المجال، أكثر قدرة على الانتشار والتمدد من الصخب الذي يتلاشى أو يموت فور انتهاء الضجيج. الظلال في هذه النصوص تتأهب للاستفاقة، لقيامة سريعة من تحت أنقاض الإهمال والإحساس بالابتذال. الأغلب أن الشاعر يتوغل عميقاً في هذه الأمكنة التي تقع عليها العين ولا تراها، فتصبح في نهاية المطاف غير مرئية مع أنها تختزن في جوفها نبْضاً حيوياً منفتحاً على احتمالات مدهشة.
من الإنزواء الى الضوء
في أحد نصوص الكتاب، يورد الشاعر قائلاً: (لماذا هذا الشباك الرمادي رمادي. ثم لماذا هو خشبي من الأساس. والستارة التي تتدلى كجسم بحري رخو لماذا. والشجرة البعيدة البلهاء. والنافذة المكتبئة لماذا لا تفتح يديها وتقفز الى الشارع. تنتحر يعني. والنبتة الخضراء تكبر في غفلة من العابرين. وآثار الرصاص على الجدار تركها شاب موهوب. وفي الأسفل الشارع السهل يقنع المارين بعبوره. والشرفة المطرودة أبداً من البيت تجلس وتنتظر...). نلحظ بوضوح أن مكوّنات هذا النص هي من الأشياء المرذولة إذا صح التعبير. منزوية بصمت في سكينتها الدائمة. تعاني وجودا ناقصا. أقفل المشهد الكلي عليها فأقفلت على نفسها. واكتفت بمهمة المراقبة من بعد. بدءاً من الشباك والستارة مروراً بالشجرة البلهاء والنافذة المكتئبة والنبتة الخضراء وصولاً الى الجدار المثقوب بالرصاص والشرفة. تفاصيل تغرق في تفاهتها. تنكفئ على نفسها بضجر. لا تلفت الأنظار لأنها كائنات دونية على الأرجح. ومع ذلك، تنهض من غفوتها. تنقلب على ذاتها المترهّلة إذا جاز التعبير. تدرك، وفقاً للإيقاع الذي يتسرّب في النص، أن ثمة فرصة ثمينة لتسترجع إحساسها بأهميتها من دون أن تضطر الى مغادرة ظلالها.
ومع ذلك، توحي هذه الأشياء التي استعيدت لتوّها الى دائرة الضوء، أن الشاعر لا يرغب فقط في إزالة غبار الإهمال عنها، بل يسعى الى استنطاقها وإحضارها بقوة الى نطاق الصورة الشعرية لتصبح هي وحدها، على الأرجح، نقطة الارتكاز في لعبة الحلم. في إعادة تشكيل الذاكرة وهي ترتّب أوراقها وتضع أولوياتها وتقيم علائقها مع المحيط الأقرب منها والأبعد عنها، يكتب ناظم السيد في نص آخر: (أشياء كثيرة تقع في البيت. منفضة مثلاً. قميص في الخزانة. صابونة في البانيو. ملقط غسيل. أسماء ليس لها أصحاب. أغان وكؤوس. سنوات بكاملها. والسجادة تلهو بنقوشها. والزجاج يحدّق بالداخل المظلم. والطاولة التي لا تجيد إلا الجمباز. والشفقة على كل ما يتحرك. أشياء تقع. لا تنكسر. تبتعد فقط...). لا يختلف هذا النص عن سابقه إلا بانتقال الرؤية من الشارع الى داخل المنزل. في هذا الأخير، تبدو التفاصيل، رغم ضآلتها، أكثر اقتراباً من الشاعر وتماساً مع ذاكرته. إنها أشياؤه الخاصة التي تدور في فلكه وتحتل حيّزاً واسعاً في منطقة الظلال التي يهرب إليها الشاعر كلما أحس باشتداد وطأة الحصار عليه. نلحظ في النصّين أن الشاعر يضع حدوداً فاصلة بين المكان في إطاره العام من جهة، وبين هذه التفاصيل في إطارها الضيّق من جهة أخرى. الرؤية البصرية تتولى هذا الفصل القسري بين الإطارين ليظهر أحدهما بينما يغيب الآخر. يستخدم ناظم السيّد هذه التقنية المدروسة ليستخلص مشهداً مستحدثاً طاغياً بظلاله خافتاً بأشيائه المألوفة والمبتذلة.
غير أن هذا المشهد المستحدث لا ينطوي فقط على العزل المذكور بين التفاصيل المهملة ومثيلاتها الأخرى الأكثر بروزاً وإشاعة كمنظر الشارع في إطاره العام في النص الأول، ومنظر المنزل بخطوطه العريضة في النص الثاني. لا يكتفي ناظم السيّد برسم الحدود الفاصلة بين هذه وتلك. يتقدم خطوة إضافية في اتجاه هذه التفاصيل المبعثرة على قاعدة جعل كل منها كياناً مستقلاً قائماً بذاته. يعيد الاعتبار الى مشروعيتها في النص الشعري. يتحوّل كل من هذه الأشياء التافهة الى معنى لا تستقيم الرؤية من دونه. فالزجاج والكؤوس والسجادة والطاولة تتسلّل الى خارج منطقة الظلال لتصبح قادرة على التحكم بشيء يسير من جغرافيا المنزل. يغيب المنزل في ملامحه العريضة. يصبح ضرباً موحشاً من الفراغ. يحلّ مكانه أشياؤه الصغيرة التي تشبه النواة التي تتكوّن منها كل الأشياء في العالم. ليس في هذه الرؤية ما يدعو الى الاعتقاد أن استدراج هذه التفاصيل الى دائرة الضوء هو نمط من الإضافة العددية الى الصورة الشعرية. الأمر يتخطى ذلك على الأرجح الى كشف عميق عن طبيعة هذه الأشياء وقدرتها على المساهمة القصوى في إغناء المكان والزمان واستكمال ما ينقص هذين الأخيرين في الحياة اليومية وفي تعبيراتها الشعرية. على هذا الأساس، يصبح بمقدور السجادة أن تلهو بنقوشها، والزجاج أن يحدق في الداخل المظلم. حتى لو انكسرت هذه الأشياء، فإنها لا تفقد ماهيتها ولا تتخلى عن شخصيتها، إنما تبتعد قليلاً عن المشهد العام ريثما تعيد تشكيل نفسها من جديد. يبدو أن نصوص هذا الكتاب "أرض معزولة بالنوم"، تهتم بإيقاظ الأشياء النائمة واستثارتها لتهجر أمكنتها في منفاها، وتقترب حثيثاً من دائرة الضوء، من دائرة الفعل. لتغادر ظلالها الداكنة نحو ظلال أكثف، نحو وجود أرقى.
المستقبل
السبت 15 أيلول 2007 -