في الطريق البعيدة الى التيه، تنقلب الحقائق على نفسها، تتصادم بعنف، تحدث جلبة مزعجة، تتعرى من التباساتها، تسقط كأوراق الخريف وهي ترتدي موتها. الطريق طويلة والصحراء قاحلة ما خلا التماعات ضعيفة لأشباح هشّة فقدت مهاراتها في إثارة الصدمة المرعبة. الدرب وعرة موحشة تقشعر لها الأبدان، غير أنها قدر محتوم لا راد له، يتسلل فجأة من تحت أنقاض الصمت، من ثقب مفتوح في جثة الحياة. والأرجح أنه يحمل على كتفيه جثته المهترئة منذ الأزل، كلما هم بدفنها أحجم عن ذلك. في هذا العبور من التيه الى التيه، من الحياة التي تتقيأ أشكالها الرثة الى الارتحال نحو ضفاف لم تتكون أشكالها بعد، يستفيق الشعر من خموله القديم، من سباته العميق ليمارس هوايته المفضلة: استنباط الحلم من شتات اللغة الآيلة الى الموت. الذاهبة الى حتفها المؤكد وهي تحتفل بتحولها التدريجي مادة صخرية بكماء تحس ولا تنطق. في أروقة التيه تتحرر اللغة من كوابيسها التي تستلقي الى جانبها في سرير واحد. تفك ارتباطها مع أسيادها القدامى الذين تعاقبوا عليها، ثم باعوها لأول تاجر في سوق النخاسة.
توظيف الحواس
تبدو هذه التصورات بعضاً من الايحاءات المتدفقة من النصوص الشعرية الجديدة لزينب عساف بعنوان "بواب الذاكرة الفظ" الصادرة حديثاً عن (دار النهضة العربية) في بيروت. والأغلب أنها من نسيج تلك الصور التي تلتقطها الشاعرة، وهي تعبر بجرأة الحوافي الخطرة لتلقي بنفسها في جوف التجربة. ثلاثة وثلاثون نصاً ترصد فيها عساف تلك اللحظات الحاسمة وهي تعبر الى حيث تصبح الحقائق المتداولة والمشاهد المتوقعة والأحاسيس العقيمة ضرباً من المهزلة المبكية التي تبعث على الغثيان، وفي أحسن الأحوال الموت من الضحك. توظف حواسها على نحو مرهف لمداهمة الأحداث والوقائع والتداعيات بالجرم المشهود إذا صح التعبير. تقبض بيد قوية على المشهد في خلفياته المكتومة، والأرجح في سراديبه الضيقة قبل أن يتكون في أشكاله المألوفة. تبحث، فوراً عن سره الكامن في جوانبه الخفية قبل أن يضيع الى الأبد. على هذا الأساس، تبدو هذه النصوص وكأن بعضها يستكمل ما فاته في بعضه الآخر. فالشروع المتعمد في الانتقال الى ظلال الأشياء وهي تفقد ملامحها في المتاهة سرعان ما ينسحب على كل ما تراه العين وتسمعه الأذن. تصبح التجربة، في هذه الحال، كلية بالمطلق. بالمثل يصبح الشعر، في هذا السياق، مستنفراً بالمطلق أيضاً. فهو ذو طبيعة نهمة الى إعدام الأشياء في مهدها قبل أن يصنعها من جديد.
لا فرق جوهرياً بين أن تذهب زينب عساف الى متاهات الأشياء المتناثرة في زواياها البعيدة وأحياناً المجهولة، وبين أن تستدرج هذه الأشياء الى متاهتها هي. الاثنان وجهان لعملة واحدة في هذا الاطار. الأشياء عندما تتخبط في ظلالها الخفية بحثاً عن تناغم مفقود، تصبح هي نفسها المستدرجة الى متاهة الشاعرة وهي تسعى الى جمع شتاتها على قاعدة الحلم المتكون في رحم المتاهة. التجربة صعبة، معقدة، ومرهقة قد تسبب اضطهاداً لصاحبها أو إحساساً مؤلماً بالذنب أو الاحباط ما لم يكن الشعر مهيّأ لمعالجة هذه اللحظات القلقة. عساف تنفذ بمهارة الى قلب المعضلة جاعلة منها اختباراً مثالياً لقدرة الشعر على إعادة اختراع الانسان وهو يبحر عكس التيار ليصل الى المتاهة قبل فوات الأوان، ليجعل من الحلم غريزة إضافية لا تتوخى فهم الأشياء، أو قراءتها على نحو آخر، بل إعادة تشكيلها في سياق مشحون بالنبض يعيد الى اللغة شيئاً من الروح. في هذا الاطار المحموم بجعل الحلم حافزاً على الحياة، تكاد عساف أن تقترب أحياناً من مفاهيم هي أقرب الى التجريد منها الى الشعر. غير أنها سرعان ما تخضعها لنار الشعر فتزيل عنها ما علق بها من قشور قد يفهم منها أنها محاولة مصطنعة لإقحام الفكر في الشعر. لا تقدم عساف على سقطات مجانية كهذه. والأرجح أنها على دراية ملحوظة بإنقاذ معادلاتها الشعرية من مغبة الوقوع في محظورات كهذه.
الحقائق معكوسة
تكتب في نص بعنوان "أوردة": (أنا الفراغ الذي احتله جسد يوماً، لو رأيت نسختي الأولى لما احتجت الى الموت، مذ قطعت أوردة النوم صرت غيمة لا تمطر إلا على غسيل يجف، مذ قطعت حبال النوم لم يعد يربطني بالفراش سوى حبل أحلامي الطويل...). تبدو هذه الأسطر المقتطفة من النص المذكور نموذجية في الكيفية التي تستخدمها عساف لبلوغ المتاهة. ومن ثم الخروج منها وقد أصبحت أكثر استعداداً لخوض التجربة في متاهة أخرى. ثمة رغبة حقيقية في هذا النص لاختبار الأشياء وقد أفرغت من محتواها التقليدي. فهي الفراغ الذي يستدعي جسداً يحتله.
وهي الموت في نسختها الأولى. وهي الأرق الذي طرد النوم من الجفون. الحقائق معكوسة، على الأرجح، ولأن الأمر كذلك،فإن الرؤية الشعرية تقتضي صياغة من نوع غير مألوف. إنها الميل الجارف الى البحث عن البدايات الأولى حتى قبل أن تتشكل في حيّز الواقع. والأغلب، في هذا السياق، أنها استدعاء قوي للأشياء عندما كانت لا تزال ظلالاً باهتة مرتبكة في ما إذا كان لديها القدرة على الظهور على مسرح الوجود. الفراغ هو الأصل، هو سر الأشياء جميعاً. هو الموت القابض على الأشياء. هو الكائن الذي يحيا بموته لا بحياته. هو الظل المهيمن على الظلال جميعاً. ومع ذلك، تفاجئه عساف وهو يحنّ الى نصفه الآخر. في هذه اللحظة بالتحديد، يتدخل الحلم ليجعل من هذا التوق الى شكل آخر من الوجود أمراً ممكناً. الشعر يلتقط هذا التحول في حركته الداخلية. يصوره بالعين المجردة وهو يخون هويته ليكتسب هوية جديدة. الفراغ، في ما هو الموت، يتنكر لهويته. يطلب جسداً لنفسه لعله يرتقي به من حالة الى أخرى.
ومع ذلك، فإن هذا الفراغ الذي امتلأ بالجسد يحن، من جديد، الى هويته الأصلية. تكتب عساف في نص بعنوان "بواب الذاكرة الفظ": (هذا الحنين الى لا شيء، الى فراغ يشبه سقطة بلا قعر، الى أيام لم تمر وأخرى لن تأتي، أيها الألم مرحباً، دعك من هذه الحيل القديمة، أميزك من بين ملايين الأحاسيس لأنك أجنحتي المغروسة في التراب، لأنك فكرتي عن الموت...). في الحلم الآتي من البعيد الى عالم المتاهة، تتفكك الأشياء. تتحرر من قانون الجاذبية. والأغلب تحن الى مادتها الأولى. لعل بزينب عساف، وهي تفعل ذلك، أن ترتد الى البدايات الأولى عندما كانت فراغاً يتوق الى جسد. ليس في هذا المعنى، على الأرجح، ما قد يعتبر نزعة غريزية الى العودة الى الرحم الأم المتمثل في الموت. إنه، على الأغلب، إحساس عميق بالحاجة الى أن ينطلق الحلم من تلك البدايات النقية ليتزوّد بالقدرة على الصمود في صحراء المتاحة المالحة. يكاد هذا الاحساس المفعم بالفجر القادم أن ينطبق على سائر نصوص الكتاب: من بينها مقطع من نص بعنوان "القمر أول النفق"، تورد فيه عساف قائلة: (لا أراني إلا صدى لكائنات أخرى، يد بديلة، ربما أحبك، كما أفتح نافذة الصباح بعد مأتمي، وتعشقني كأني جواب عن أسئلتهم. هدئي من روعك أيتها السنوات، لا بد أن يأتي فصل من كتاب على قدميه ويركض حتى يدمى كمعصم مفتوح هو هنا الفجر الذي طرحه الليل عند بابي...). عساف لا ترى نفسها إلا تعبيراً عن صدى لآخرين قبلها، وهي تفتح نافذة الصباح على مأتمها هي. ومع ذلك نلحظ أن الليل يسفر عن الفجر الموعود.
بين الموت والحياة
قد يساء فهم هذا التداخل الدائم بين الموت والحياة في نصوص زينب عساف. وقد يتبادر الى أذهان بعضهم أن ثمة غلبة لأحدهما على الآخر، بمعنى أن هذه المجموعة تجد خلاصاً محتماً أو اعتباطياً لها في التماهي مع الموت. الأغلب أن لا شيء من هذا القبيل في الفضاء الأشمل لهذه النصوص، وان كان ثمة التباس متعمد من قبل الشاعرة في هذا المجال منعاً لأن يصبح القول إفصاحاً تبسيطياً عن المغزى العميق المقصود. الموت، في هذا السياق، ليس إلا ظلاً داكناً أو ساطعاً من علامات الحياة. وعلى نحو مشابه، ليست الحياة إلا ظلاً للموت قبل أن يتوق هذا الأخير متمثلاً في "الفراغ" الى الحياة متمثلة في الجسد. ليس بمقدور الحياة أن تتبرأ من ظل الموت. كما ليس بمقدور هذا الأخير أن يتنكو لظله الكامن في الحياة. تجمع الشاعرة بينهما في سياق الحلم الباحث عن نفسه في صحراء المتاهة ليصبح الاثنان في هذه الحال ظلين يتكاملان ولا يتنافران باعتبار أنهما يخضعان، في مجرى الحلم، لإعادة تشكل دائمة. الحياة قد تتحول موتاً يبحث عن ظله في كينونة الوجود. والموت قد يتحول حياة تبحث عن سرها الكامن في الفراغ. الاثنان كلاهما موت، وكلاهما حياة. لا فرق بينهما إلا كمثل الفرق بين النور وشعاعه. تكتب عساف في نص بعنوان "سباحة" (أنظر الى أيقونة الخلق في باطن يدي وأضمها كأنني لن أذهب أبداً، كل ليلة تعود إليّ الميتة غاضبة ولا تعرفني، الحياة نقطة في نهاية الأفق لا تقترب منها سفينة، أما نحن، من نجهل السباحة، فنخدع أنفسنا بتأملها عن الشط، ثم حين يأتي الغروب نخدع أنفسنا مرة أخرى: أتيت، عشت، ورأيت). الخلق، كما نلاحظ، بما هو حياة وموت يتراءى في باطن اليد الناتجة عن اتحاد الفراغ والجسد. الميتة التي تعود الى الشاعرة، ليست إلا هي نفسها عندما كانت فراغاً فقط أي موتاً لم يتشكل بعد. الشاعرة تحمل موتها، ويحملها موتها في آن. إنها قصة الخلق الذي يتأرجح بين الموت والحياة، بين الظل والظل، بين الحلم والحلم، باعتبار أن كليهما من المكونات الرئيسية... لحركة الحلم وهو يسعى الى الدخول في المتاهة تمهيداً للخروج منها.
إن هذا التداخل بين الحياة والموت، يتسرب الى مناخات النصوص جميعاً من دون استثناء. مرد ذلك، على الأرجح، الى اندفاع عنيف نحو التقاط الصورة الشعرية في تحولاتها الأولية قبل أن تتجسد مدلولاتها في هذا المشهد أو ذاك. إذا كان الموت سبباً حقيقياً لإعادة تشكيل اللحظة الشعرية في بدايتها، هي تتململ في حالة الفراغ (المشار إليها في السياق آنفاً)، فإن إثارة هذه المسألة على مستوى الفضاء الشعري العام في الكتاب، مردها، في الوقت عينه، الى التقاط التحولات المذكورة وهي تنتقل بالصورة الشعرية من حالة الفراغ الى حالة الجسد. أسوة بالفراغ الذي يتأهب لملاقاة جسده، تتشوّق اللحظة الشعرية الكامنة في الفراغ لملاقاة جسدها في إطار الحلم المتكوّن في المتاهة ومن ثم الخروج منها. الموت، في هذا الاطار المتصاعد، ليس إحساساً مطلقاً بالزوال أو العدم العقيم. إنه، على الأغلب، مشدود الى نزعة الاكتمال بالجسد بما ينطوي هذا الأخير على كل أسباب الحياة. وبالمثل، فإن الحياة، في سياق النصوص، ليست انفصالاً نهائياً عن الموت، أو نقيضاً له. إنها الحنين الى البدايات التي كانت حتى قبل أن يتشكل الموت بالحياة، والحياة بالموت. على هذه الخلفية المشبعة بفكرة الخلق الشعري هذه، تتجرأ عساف على خوض تجربة المتاهة بمقتنيات فكرية تتحول صوراً من داخل الذاكرة بعد أن يفتتها الشعر ذرات ليعيد جمعها من جديد.
صور افتراضية
يعزز هذا التأرجح المقنع بين الحياة والموت، بما ينطوي كل منهما على ظل الآخر، ميل عساف الى الابتعاد عن القناعات الثابتة، واستبدالها بالاحتمالات أو الصور الافتراضية باللغة المستخدمة اليوم على نطاق واسع. تكتب في نص بعنوان "نوم": (تستيقظ صباحاً وتناضل كي تنتزع رأسك من حفرة النوم العميقة، ربما تخلف وراءك حياتك الحقيقية، ربما تستيقظ الى نوم آه كم كلمة أوقعت في الفراغ الفاصل بين نوم ويقظة كانت لتنقذ حياتي بالتأكيد. آه كم سعدت بجر القدر من رسنه قبل أن أسمع صوت المنبه، أجرع ليترات من الماء وحين أقنع نفسي بأن النوم باب يفتح يرن على بلاط الغرفة صوت مفتاح).
الصورة الشعرية، في هذا النص، مركبة على الأرجح، لا تستقر على حال. عساف مترددة بين النوم واليقظة، بين الحلم والحقيقة. أي من هذه أكثر انسجاماً مع طبيعة اللحظة الشعرية المتحولة؟ إذا افترضنا أن النوم، بما هو استغراق في اللاوعي، هو أقرب الى الموت وبالنتيجة أكثر انسياباً الى حالة الفراغ، فإن اليقظة هي أكثر اقتراباً الى ظل النوم باعتبار أن هذا الأخير هو جزء لا يتجزأ من مكوناتها الرئيسية. لذلك تترك عساف الأمر الى تحولات الصوة الشعرية كي تعبر عن نفسها في هذه اللحظة الحرجة. لا حد فاصلاً بين النوم واليقظة، بين الاستيقاظ والاغفاء. تجليات متعددة لحالة واحدة من تحول شعري معني بالكشف عن الاحتمالات في تعبيراتها المختلفة.
هذه النزعة الاحتمالية إضافة الى ذلك الحضور للموت في الحياة، والحياة في الموت، والقلق الناتج عن العودة الدائمة الى البدايات وهي تراوح بين الفراغ والجسد، وقراءة اللحظة الشعرية في تحولاتها المتحركة على الدوام، هي العناصر التي تستدعي عساف الى اختبار تجربة المتاهة. وهي، أيضاً، التي تغريها بإلقاء نفسها في فضاءات التيه لتبلغ، في نهاية المطاف، آخر النفق الطويل للخروج من دائرة المتاهة. ولكن... هل ثمة خاتمة للمتاهة؟ الأرجح لا. لأن الشعر نفسه هو المتاهة الكبرى التي تتفرع منها سائر المتاهات. إنه المأزق الأخطر الذي لا خلاص منه إلا باختراع مأزق آخر. إنه الشيء ونقيضه. معادلة لا نهاية أبداً لحلقاتها التي لا تحلو لها الاقامة إلا على حافة الهاوية.
المستقبل - الاثنين 22 تشرين الأول 2007