كل قراءاتنا الأولى، والتي تليها، والتي نحلم بقراءتها، على علاقة بالتذوق الأوّلي الذي بوساطته، يتسلل شيء منها ـ أي من القراءة ـ إلى كتابتنا نفسها. ففي كل مرة يخط فيها الكاتب صفاً من الكلمات، يكون الوجود نفسه لقراءة ما، لكاتب ما، في الكلمات. مع ذلك هناك من يرى أن قراءة نصوص الآخرين، شعراء وروائيين، ليست شيئا للامتلاك، أو خاضعة بالضرورة لتوظيفها في نصوصنا. فاللغة متاع مشترك، لكن خصوصية الأساليب هي التي تمنح هذه اللغة، قيمة استعمالها المشترك الذي ذكرنا. ولنقل مع ذلك، وببساطة، إنه غالبا ما يكون لكتابة كاتب نحبّه، أي نحب نصه، معنى إن لم يكن ظلالا، في كتابتنا، ليس فقط لأنه كاتب «مهم» بحسب تصنيفه، بل لأننا نغالي في الوفاء للنصوص التي نحبها، بحيث أننا غالبا تحت وطأة تنقية سردنا، ليأتي على شكل ذلك النص الذي نحب، أو فيه على الأقل، شيئا من روحه، وطبيعة مفردته. الحقيقة أن العالم يعج بالكتّاب المهمين. والحقيقة هي أن أغلبهم مهم لأسباب شتى ومعايير فنية كثيرة، أما المحير فهو لماذا لا «تتقدس» إلا القلة فيهم، بالنسبة لنا. أعتقد أن هوى ما، في داخل كل منا، يدفعه إلى لحظة اختيار حاسمة، فيسمّي هذا الكاتب دون ذاك، من دون الالتفات إلى مراجعات قيمية، ليست تصمد أمام الهوى أو الشغف.
الهوى في كاتب ونصه، معرّض أيضا للتبدل والتغير مع الوقت، ومع تراكم القراءات ووفرتها. كاتب كنّا نحب نصه يوما، نرانا مع الوقت، ومع التطلب الذي تُمليه بالضرورة وفرة قراءاتنا وتراكمها، بمقته ونفارقه إلى كاتب آخر ونص آخر يُلبي تطلعنا ونضج قراءاتنا ان صح التعبير. بمعنى آخر، يتبدل هوانا في أغلب الأحيان، وفي أحيان قليلة لا يتبدل هذا الهوى، ويبقى على اشتعاله وعرفانه لكاتب دون سواه. يبقى سرده في ذائقتنا متمتعاً بيقظة خاصة، تجعلنا نُجيب حين نُسأل، ومن دون تردد عن: أي الكتّاب أحب إليك؟ فنقول هذا الكاتب دون سواه، أو هذا الكاتب بالدرجة الأولى، يليه فلان وآخر من الكتّاب سواه. عن أي من الكتّاب كان له تأثير في ذائقتك؟ ولماذا؟ وما هي عناصر كتابته التي شدتك عاطفياً وفنيا؟.
كريم عبد السلام: كلهـــم مهمــون
الشاعر المصري كريم عبد السلام حملت إجابته الكثير من الأسماء والأسباب: «كاتبي المفضل، كاتب بأسماء كثيرة وتقنيات متجاورة لا يمكنني أن أضع أيا منهم أو منها في تراتبية محكومة بأفعل التفضيل. كما أن شاعري المفضل شاعر ممتد عبر الزمن بأسماء عربية وأعجمية لا رابط بينها إلا القدرة على إضافة قطع الموزاييك إلى لوحة الفسيفساء الخالدة المسماة بالفن.
أجد نفسي عائدا كل حين إلى الزخم الروحي والقدرة الفريدة على تشريح الداخل الإنساني لدى دستويفسكي، دون تعارض مع الانهمام بالإنسان لدى تشيكوف، أو كابوسية بول أوستر التي تحلق على أدمغتنا في عالم ينتهي ويضمحل، أو بورخيس الذي استطاع التعبير ببراعة عن المغالطات التي نلجأ إليها بالفصل بين الوهم والحقيقة، بين الواقع والخيال، في تيار الحياة المنثور الذي يجرفنا. لا أستطيع ان أضع هذه القمم أعلى أو أدنى من الاستعراض الحاشد أعمال جارثيا ماركيز او ملحمية نجيب محفوظ أو شغف يوسف إدريس في الوصول إلى اللحظات القصوى للضعف الإنساني، أو بساطة يحيي حقي المذهلة او قدرة الغيطاني على استحضار النص التراثي، او طاقة العنف الوحشية وقد صارت كلمات عند زوسكيند، او رهافة كاواباتا أو البناء المعماري الشاهق المسكون بالتراجيديا لدى هيرمان هيسة او المحنة كما عبر عنه إميل حبيبي.
أيهم الأول؟ هنري ميشو بغرائبيته المدهشة أم شعراء الهايكو أصحاب النظرة العميقة إلى العالم أم غنائية لوركا الشجية أم أبنية سان جون بيرس الشاهقة أم عين شيمبورسكا النافذة أم التزام بريخت الساخر والعنيف أم أناشيد محمود درويش العذبة أم التفاتات سركون بولص المدهشة أم تراجيدية السياب أم روحانية صلاح عبد الصبور أم ولع فروغ فروخ زادة بالموت داخل الحياة، أم براعة أودن التي يحمل منها شيموس هيني الكثير؟
أيهم المفضل لدى؟ النحات سيوران أم الحالم الآسر كفافيس أم المتمرد توفيق صايغ أم صاحب الأرواح المتعددة فرناندو بيسوا أم الرائي المعذب برؤاه بدر الديب؟
الحق أن لا أحد منهم مفضل لدي، كلهم خصومي وكلهم نجحوا في الاضافة إلى لوحة الفسيفساء الكبيرة المسماة بالفن، بطرق وأساليب متباينة أشد التباين».
عارف حمزة: خوليــو كورتاثــار
للشاعر السوري عارف حمزة، جمهرة من الكتب والكتّاب الذين تدخلوا في حياته وجعلوها ـ على ما يقول ـ تسير في مسارها الخاطئ. «هناك ظلال دائمة لكتّاب أقاموا طويلا وللأبد، لدرجة أنني كلما انتبهت عدت لتلك الظلال. هذا ما حدث من قبل صموئيل بيكيت ووليم فوكنر ويوكيو ميشيما وكنزابورو أوي وسيلفيا بلاث وغالب هلسا.. ولكن كان أكثرهم مؤرقا لي هو خوليو كورتاثار. لدرجة أنه ما زال لحد الآن يزورني في مناماتي وقد شاخ أكثر من الصورة التي احتفظ بها له. أعجبني في رواياته وقصصه وكذلك في مرضه الأبدي وسيرته الغريبة.
حتى هذه السطور، يتكلم حمزة في اهتمامه، بشخص كاتبه بحياته ومرضه وتطور ذلك المرض وانعكاسه على كورتاثار. العلاقة بين الكاتب وقارئه، تبدأ من النص، مرآة اهتمام حمزة وسواه من القراء بكتابّهم. من دون نص كورتاثار، ما كان لحمزة ان يهتم برجل مريض، طال مرضه أم قصرت مدته. النص هو العلاقة، جذر الحب وجذر الكراهية أيضا، والكتابة أولا وأخيرا، هي فن التواصل والتباعد بأشكالهما كافة.
ما جذب حمزة الى كورتاثار، اعتماد الكاتب في كتابته على عيش الأرجنتين، بأمكنتها وشخصيتها وعاداتهم.. «في باريس ـ يضيف حمزه ـ التي حفرها كورتاثار بقدميه رغم جسده الخفيف. كان صارما في قصصه ودكتاتورا يتلذذ بمصائر تلك الشخصيات الراضية بما يفعل. حتى أن عناوين مجموعتين قصصيتين كانت تحمل تلك الرائحة من الحرائق «كل النيران النار» و«الأسلحة السرية». صحيح أنه اشتهر بروايته الضخمة «لعبة الحجلة»، التي وضع فيها أكثر امكانيات اللعب في الرواية حتى أنه تدخل في طريقة قراءتها من قبل القراء كلعبة ليست بريئة منه، إلا أن قصصه بقيت أكثر قرباً مني لكونها تحفر في مكان أكثر صعوبة من كتابة الرواية. لا يمكن إغفال أي حرف من القصة التي تجري كفيلم رعب لذيذ. ويمكن أثناء القراءة سماع الأصوات والموسيقى والكلمات.
راوي مرنيسي: بسام حجار واغوتا كريستوف
راوي مرنيسي، كاتب شاب من المغرب، يرى في آغوتا كريستوف كاتبته المفضلة. راوي مرنيسي في رسائل متبادلة بيننا، كان كتب لي عشقه بشعر بسام حجار، وبادلته الكتابة عن عشقي أنا أيضا بشعر حجّار. إجابته التي تلقيتها وأوردها هنا، بانت لي الصلة واضحة في ميله إلى خصائص كل من كتابة حجّار، وكتابة أغوتا كريستوف، كاتبة المرنيسي المفضلة: «أحبها لأنها صنعت» عالما كاملا بمفردات قليلة بلغة ليست في الأصل لغتها. واحبها لأنها رغم شقائها وما عانته من هجرات متلاحقة، حافظت على قدرة استثنائية على تلمس العالم من حولها والتمسك بما هو بسيط وحقيقي، وكتبت. كتبت شقاءها في معمل ساعات بنيوشاتل في سويسرا، وكتبت كيف يصير العالم أكثر وحشة حين لا نعود نقرأ وكتبت عن النفي والوحدة. ايمري كيرتش الهنغاري الآخر الذي أمضى عمراً قبل ان يجد لغته هو أيضا مثال عن هذا البحث المحموم عن لغة تضاهي الحياة وترويها. لغة تصل الى قارئها. لغة حزينة وآسرة.
بدأت أغوتا كريستوف شاعرة بالهنغارية (فقدت قصائدها الأولى أثناء انتقالها من هنغاريا) ثم فجأة ـ يضيف مرنيسي ـ فقدت لغتها. لم تعد تحب شعرها. صارت امرأة أخرى. استمرت تكتب بالهنغارية شعراً ما عاد يشبهها. ثم توقفت. تعلمت الفرنسية مع اولادها في كتبهم المدرسية. مرت سنوات درست خلالها الفرنسية من المعاجم. ثم كتبت رواية بالفرنسية بلغة تقول هي انها جافة وموضوعية. بالطبع ليست كذلك. هذه اللغة صارت لغتها الجديدة التي أعطتنا بها رواياتها والتي جعلتها الكاتبة التي يحتفى بها اليوم حول العالم. لغة اغوتا كريستوف هي اكتشافات منفية لامكانات اللغة الفرنسية في أقصى بساطتها وعذوبتها، ورواياتها برأيي من أهم ما يكتب بالفرنسية اليوم. لغة عارية تتجاوز العيش وتفاصيله لتذكرنا ببديهيات ان تحيا وتشقى وتحب.
يسرى مقدم: ساراماغو وميثيما
الكاتبة والباحثة يسرى مقدم، تجد صعوبة بداية، وفي تحديد أسماء بعينها لكتّاب ترسو ذائقتها عندهم، أو تشير لهم بالاعجاب، وتعترف بتأثرها بهم. مقدم ترى في أن مخزون القراءة عند القارئ «المحترف»، المخزون الوفير والمتأني والنهم في آن، يرخي بظل من التعسف في اختيار اسم بعينه. اختيار إسم ـ تقول مقدم ـ اختيار متعسف. الجواب على سؤالك، يكون إبن الحالة التي تحضرني الآن تحديدا، والتي تسمي ساراماغو وميشيما في خضم إجابتي. ساراماغو وميشيما يعنون لي في حالتي الراهنة التي أعيشها، وتسميتهما معا، هي انتقائي الشخصي للتعبير عن حالي المعبر عنها من خلالهما. مناخي النفسي يؤشر الآن إلى ميشيما وساراماغو رغم الاختلاف والفارق، والخصوصية لكل منهما. أتذكر ميشيما او أذكره لك الآن بحب، من حضوره القوي في حالي الراهن المشغول والمهتم بـ «الخصوصية» العامة، والذاتية، المهددتين بالوحشية التي تغرق العالم.
اختياري هنا، اختيار ذاتي وليس مثاليا.
ساراماغو ـ تضيف مقدم ـ يظل حاضرا عندي من خلال كتابه: «كل الأسماء» الذي يتكلم فيه عن الكائن الثالث الذي يجمع بين طرفي او ثنائي علاقة العشق، او أي ثنائية انسانية، او طبيعية، لا تنجح بدون الاصغاء لهذا الكائن الثالث اللامرئي، المجرد.
علي جازو: ريلكـــه
علي جازو في إجابته: «أعدم أسباب التفضيل. التفضيل مزاجي وشخصي لا يعدو نوعا من اعلان مهذب للود والصداقة. ليس تقييما ما أراه من أسباب الاعجاب. الكتّاب ـ منغرسين في كلماتهم ـ أقرب لموتى محبوبين مرافقين، ومفقودين. فقدانهم يضاعف من تأثيرهم. ويبقى تفضيلهم على بعض أمرا مربكا ومحيرا. كاتبي ـ داخل حدود الحب الغائمة المضاعفة هذه ـ شاعر وحيد. انني مسحور بريلكه. مسحور بقراءته، وأحب ألا تنقطع هذه القراءة، ولا تخلص الى أمر محدد.
مؤخرا ـ يضيف جازو ـ عثرت على منفذ لتفادي جمال ريلكه الصعب، والبقاء بصحبته في آن. أترك صفحاته قريبة. أقرأ قصيدة او اكثر. أعود لقراءة نفس القصائد، اضافة إلى غيرها، دون ترتيب. ريلكه مدهش وحميم وصامت. يزرعني في الصمت كما لو يضع روحي في وجهي، كما لو أنه صديق جالس امامي ويتحدث بفم من غناء مرير، من حجر منحوت. الشوق الذي لا يجف لملاك لا يصرخ ولا ينسى حاجة التمسك بمأوى صراخ عميق. الرحابة التي لا تتكلم الا عبر قوس قلب هائل. الرحابة التي هي الفكر والتأمل، البناء والنحت. وحده الصمت يمكن أن يتكلم بهذه الطريقة. يحضر الصمت وموسيقى خفية، موسيقى مصاغة من مادة الحدائق. كتابة ريلكه تعيدنا إلى أنفسنا ـ وهي كتابة نزع للنفس من تخوم ذاتها ـ بقوة راسخة ورحابة كبيرة. يبدو أنه كتب مطلا على العالم من خارج كل قيد. القصيدة التي تظل تنحت حضورها. العين التي تحول الرؤية الأليفة الى فكر حاد، والنظر الذي يغرق بالفكر الى لوحة مركبة. يدفعني ريلكه الى سؤال دائم: من اين تأتي القصيدة؟ هل هي صورة تبحث عن كلام لائق، ام انها كلام سائل عن صورة بلا لسان، ام هي محض اصغاء؟؟ مع ريلكه أرى وأسمع وأتكلم.
لطفي خلف: شاملو ودرويش وأمجد ناصر
يقول لطفي خلف بأن الدنيا تعج بكبار الكتاب الذين حفرت كتاباتهم سطورها عميقا في أخاديد ذاكرة المتلقي، فجعلته يعيد قراءة نصوصهم المرة تلو المرة دون أن يشبع منها أبدا ودون ان يمر ذكر اسماء اصحاب تلك النصوص، دون كيل المديح والثناء عليهم او التندر وإثارة النقاش حولها.
الشاعر الايراني ـ يقول خلف ـ أحمد شاملو مثلا أذهلتني كتاباته رغم فقداننا للكثير من وهج روح النص الذي يترهل بالتأكيد بعد عملية الترجمة والتي اعتبرها صناعة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فالنص بلغته الأم كالوردة الطبيعية التي تختلف تماما عن الوردة الصناعية، وهناك الكثير من الكتاب الأجانب الرائعين الذين كتبوا أدبهم بحروف من ذهب فدخلوا تاريخ الأدب ليس من باب بلادهم فحسب مثل رامبو وسارتر والبرازيلي كويلو والقائمة تطول. بالنسبة للكتاب العرب، فرغم اعجابي بالسياب والنواب ونزار وصلاح عبد الصبور وبعض أدباء المهجر العمالقة، إلا أنني وجدت ان من بين كتابنا المعاصرين الذين طرقوا باب الحداثة كثيرا من الرائعين مثل عباس بيضون وأمجد ناصر وآخرين.
الكاتب الذي وجدت فيه ضالتي بحق هو شاعرنا الراحل محمود درويش فما كتبه درويش شعرا في القضية والثورة ليس من أجل أن ينال لقب شاعر الوطن والقضية ويصبح رمزا منفردا ومميزا وينال أوسمة الثورة، إنما فجّر ثورة في الشعر، وصلب المتلقي على خشبة الانتظار، ليشعر بلبن الكلام يسيل على شفة المتعطش منا للمطالعة، فهذه الأسباب كانت تشدني لقراءة كل جديد له. عجن درويش صلصال شعره بماء النكبات الفلسطينية المتتالية، لم ترفعه القضية وحدها الى المستوى الكوني الذي وصل اليه، بل النفق ودروبه الوعرة بسهولة ويسر وعن طيب خاطر لأجل عيون فلسطين، كذلك الاختزال والتكثيف حيث قال على سبيل المثال في «محاولة رقم 7»: تكاثر تر النهر يمضي إليك». الجماليات التي يطرحها صور عذبة واستعارات وإمساك من وسط العصا بين الأصالة والحداثة، فتراه ملتصقا بالتراث حد الجنون، طارقاً في ذات النص وذات الوقت باب الحداثة بقوة ويسر وأريحية تامة.
السفير- 14 – 10 -2009