(القطريب وحمزة والمديني والعشري وطويلة يجيبون)

عناية جابر
(لبنان)

عناية جابرفي توجهنا الى بعض الكتّاب، روائيين وشعراء، عن اهتمامات تشغلهم، تتعدى او تتلطى خلف اهتماماتهم الروائية والشعرية، وقعنا على نوع من »الشغف« يسكن بعضهم، ويتفوّق أحياناً على »حرفتهم«، ان صح التعبير، المعروفة عنهم. »السينما« شغل الشعراء الشاغل، ومكمن الشعر، وسببه لدى الشعراء أكرم القطريب وعارف حمزة، بينما الفنون كافة، المتداخلة والمتشابكة، هي من اهتمامات الكاتب والروائي أحمد المديني، ليكون الفن التشكيلي، قبلة الروائي محمد العشري ومحجته، حتى انه ليرسم رواياته كما لو كانت لوحات فعلاً. أما الروائي وحيد الطويلة فله حكايته المؤثرة مع الغناء.
سؤالنا كان: »بالإضافة إلى اهتماماتك الأدبية، روائية او شعرية وفلسفية وفكرية، هل من اهتمامات لديك بالموسيقى، الغناء، المسرح، السينما، والفن التشكيلي؟ أيها احب إليك وما تأثيره في كتابتك؟ عن هذا السؤال كانت هذه الأجوبة التي أضاءت على دواخل، كنّا نجهلها لدى اصحابها.
الشاعر السوري أكرم القطريب يرى في السينما فردوسه: »السينما أرض خصبة للشعر والفتنة. كانت ولا تزال صيغة نجاة وإغراء بالنسبة إليّ، عالم مفتوح على كل الاحتمالات، حياة بديلة نراها على الشاشة، على قماشة بيضاء مستوية. حين تعتم الصالة ـ يقول أكرم قطريب ـ ويخرج ضوء ممزوج بالدخان وغبار الكراسي من فتحة صغيرة إعلاناً بقليل. أنفاس مشدودة وعيون متلهفة لرؤية جوليانو جيما على حصانه البني يلاحق الأشرار في صحاري ايروزونا او بروس لي، وهو يطير كالفراشة ويصيح كالنمر صيحته الشهيرة.
شكلّت السينما ـ يضيف قطريب ـ السينما مستقبل العالم. فيها المسرح والرواية والقص والشعر والرسم والمجاز اليومي والفنتازي والتخييل ووجوه حيّة، جميلة وقبيحة معاً. اللعب والتراجيديا والمرح والموسيقى التصويرية والخطوط التي في السيناريو ستتحول بحركة من يد المخرج والممثلين الى عالم آخر أمام العين. عالم لا يصدق، لكنه ساحر وحقيقي. أكرم قطريب الذي يختصر العالم كله، وفنياته وأدبياته بالسينما، يضيف: كلفني فيلم »أبي فوق الشجرة« حينما كنت في بداية مرحلتي الإعدادية، غضب أبي ونومه فوق سقيفة مطبخنا لثلاثة أيام، لانني هربت من المدرسة مع »الزعران« على حد تعبيره، وإن الفيلم على مقاسي الطفولي. السينما أثيرية. متحف لحياة كاملة سواء أكانت ساقطة أم نبيلة.

الثقافة الموسيقية

هوس قطريب بالسينما، موجود في مشاركة الكاتب والروائي أحمد المديني، لكن الموسيقى تسبقه. المديني عن الكتابة بين الفنون الاخرى يقول: »استمتعت نهاية السنة الماضية بقراءة رواية الياباني هاروكي ماراكمي بعنوان: »كافكا على الضفاف«، في ترجمتها الفرنسية بـ٧٠٠ صفحة من طبعة الجيب المكثفة، فهي تأخذ بمجامعك وتنقلك الى عالم فريد، مزيج واقع وخيال، وعندي إن أقوى ما فيها ثقافة كاتبها الموسوعية المتمثلة بخبرته في مختلف الفنون، منها الموسيقى والتشكيل، زيادة الى مهارات حرفية وبيتية، امتعها فن الطبخ.
وجدتني اتساءل ـ يضيف المديني ـ خلال وبعد الانتهاء من قراءة هذا العمل الجبار في تكوينه السردي وشمولية عالمه ورؤيته المأساوية العالية، والإيقاع الجارف الذي يجري في الفصول جميعا مجرى الدم في الشرايين إن كان المؤلف وهو يستفيد من ثقافته الموسيقية يحاول، قصداً او بدونه، اقامة نوع من التوازي بين لغتين (الكتابة والموسيقى) او يمزج تعبيريتهما، ام لعله ينشد لغة ثالثة بخطاب فريد.
القطريب يمضي في وصف حبه للسينما، موضحاً أيضاً ان العجز عن ان يكون سينمائياً، هو الذي أخذه الى الشعر. العجز من ان أكون سينمائيا هو الذي اخذني الى الشعر. وعلى اعتبار ان الشعر أقل تكلفة، لأنه يصاغ من كلمات. نعم، كنت اعتقد ان الشعر يصاغ فقط من كلمات، ولن يكلفني عناء سفر ودراسة وامتحانات أكرهها. كنت واهماً. أدركت الآن انه لم يكلفني سوى حياتي. حياتي فقط.

أحمد المديني على علاقة ورغبة بالسينما، لكنه يطلبها كإطار جامع للفنون كافة: »بالنسبة إليّ ـ يقول المديني ـ فإني ومنذ صباي متعلق بالسينما، بأفلام المغامرات، ولاحقاً بأفلام البحث الجمالي والمصائر المركبة، كما في الرواية، وأعد الموسيقى جزءاً من تكويني، موسيقى جميع الشعوب والثقافات املك منها خزانة تضاهي مكتبتي، شأن العلاقة المتصلة بالفن التشكيلي والفنون البصرية عامة. اظل هاوياً في هذه العلاقة ما دام همي الأساس هو تورطي في مضمار الكتابة الأدبية، الى جانب شغف الحياة. أظن أخيراً أني احرص على سماع كلماتي، وإيقاع نصوصي، ورسم صور تعابيري ورؤاي، ضمن تشابك خلاق تتفاعل فيه تلك الهوايات ذاهبة بأداة اللغة نحو التصعيد الامثل لما يطمح له الكائن من وجود كامل وجمال اكمل.

من الإجابات المهووسة بالسينما ايضا، ثمة اجابة الشاعر السوري عارف حمزة، كما لو هي المدخل الى الشعر، او هي مفضية إليه لا محالة. عارف يرى في السينما وسيلة لإعادة شحن القلوب والمخيلة، ويقول: »عادة ما كانت تشدني السينما إليها. في البداية كانت تشدني، لأنها كانت تبدو كفعل آثم. لأن السينما الوحيدة في الحسكة، سينما القاهرة، كانت لا تعرض سوى الافلام الجنسية التجارية. في العيد، ونحن ما زلنا نتمرغ في المراهقة وخيالاتها وروائحها، كنت آخذ، كما بقية اصدقائي، علبة دخان كاملة من نوع تافه ويحقق بالضبط التحذير الذي كتب عليه، مع اننا لم نكن مدخنين، وندخل الى السينما وقت إطفاء الأضواء، كي لا يعثر علينا احد ويشرشح سمعتنا في الحيّ.

كنا نخرج ـ يضيف حمزة ـ من السينما قبل اشعال الاضواء بعد ان يكون كل واحد منّا قد دخن العشرين سيجارة في اربع ساعات، واستنشق أبخرة الشهوة وآهاتها واحاديثها واحلامها المتكومة في المقاعد. كنت أحضر الفيلمين بالطبع. وكنت اتلصص على المقاعد الاخرى. الى الأيدي والأعناق. الى الحرقة في المفاصل والكتفين... كانت السينما بالنسبة إليّ، وما زالت الى الآن، تماثل رغبتي في اقتناء كتب السيرة الذاتية.

المشروع الإبداعي؟

الروائي المصري محمد العشري، ينحو بهذا العشق السينمائي الى منحى مغاير، وان كانت الفنون كافة تتداخل وتتشابك على صعيد الصور، رسما وكتابة وسينما وموسيقى وما الى ذلك. محمد العشري يستهل اجابته، بعشق آخر وينتهي بهذا العشق تحديداً: »الفن التشكيلي له مكانة خاصة في روحي، لانني بدأت حياتي الابداعية مبكرا بممارسة الرسم. في المراحل الدراسية الاولى، اذكر في المرحلة الاعدادية كنت شغوفا بالقراءة في الفن التشكيلي، وبدأت طريقي بالتعرف على الكتّاب من خلال ذلك الاهتمام. في حصة الرسم ـ يتذكر العشري ـ كان الزملاء والزميلات يهيلون عليّ »كراساتهم« بعد ان يخرج المدرّس بالطبع، لارسم لهم. المدهش انني كنت احب ذلك، وأرسم لكل زميل او زميلة الموضوع نفسه بطريقة مختلفة. هناك موقف لا زال محفورا في الذاكرة من بداياتي في المرحلة الثانوية، حين طلب مدرّس الرسم في احدى الحصص ان نرسم لوحة عن الثورة، ورسمت الموضوع بسهولة في دقائق، واذ بالمدرّس يمر عليّ، ويأخذ ما رسمت من امامي، ويحدق فيه طويلاً، ثم أخذني من ذراعي وذهبنا الى مكتبه »مرسم المدرسة« ووجدته يعلق رسمي على الحائط، وسألني: هل تعرف »غويا«؟ لم أعلق، لأنني لم اكن اعرف ذلك الاسم في ذلك الوقت، ووجدته يخرج كتابا ويفتحه على صفحة بها لوحة تنطبق تماما على ما رسمته، وقرأت اسفل اللوحة »إعدام الثوار« للفنان الاسباني فرانسيس غويا. من يومها صارت صداقة بيني وبين مدرّسي الفنان كمال أحمد، الذي أمدّني بالكثير في مجال الفن التشكيلي.

هذا ولع العشري في الفن التشكيلي، لنعود ونقرأ في اجابة عارف حمزة، تدخل السينما في الشعر، وتأثيرها في قصائده ومجموعاته: »عندما أراجع ما كتبته في مجموعاتي الشعرية الاربع، وفي المخطوطين الاخيرين، استطيع ان اعرف أي الصفحات التي كتبتها متأثراً »بالافلام السينمائية«. هنا »آلام السيد المسيح« وهنا »صمت الحملان« وهنا »سينما بارادايس« وكذلك »المصارع« و»الساموراي الاخير« و»قلب شجاع« و»احتلال الجنة« و»من أجل حفنة من الدولارات« و»الرقص مع الذئاب« و»العراّب«...
عندما كنت أتوقف عن الكتابة ـ ينهي حمزة اجابته ـ كنت أقرأ اكثر وأشاهد الافلام اكثر، فأرى نفسي عائدا للكتابة بشكل جنوني. ان مثل هذه الاشياء، القراءة والافلام هي أدوية فعالة لاعادة شحن قلوبنا ومخيلتنا.
محمد العشري بدوره، يسقط حبه للرسم، على الكتابة الروائية: »استمرت ممارستي للرسم خلال المرحلة الجامعية وحتى نهايتها، من خلال الاشتراك في النشاط الفني الجامعي، والمشاركة في المسابقات الفنية، وحصلت في تلك السنوات على عدد كبير من الشهادات »١٦ شهادة تقدير) والميداليات، قبل ان اتحول الى كتابة الشعر، ومنه الى القصة والرواية، التي انتهيت إليها كمشروع ابداعي اعكف عليه، وان كنت استفيد كثيراً في رواياتي بالرؤية التشكيلية التي تكونت لديّ، ولا زالت تظهر ملامحها في كتاباتي، بوعي او بدون وعي، ففي روايتي الاولى »غادة الأساطير الحالمة« رسمت فصولها بما يعادل ٣٦ فاصلة روائية، كل فاصلة في مشهد يعبّر عما اود كتابته، قبل ان اكتبها.

لحظة ذروة

تبقى أخيراً، إجابة الروائي المصري وحيد الطويلة التي شئنا لها ان تبقى اجابة خاتمة، بما هي مونولوج الطويلة، المتداخل والمتشابك وغير القابل على الاختراق، والمخلص الوفيّ الأمين لرغبته القديمة في ان يكون مغنياً، ومغنياً فحسب، يقول وحيد الطويلة:

في الصغر ارتطمت به مرة واحدة، تعرفت على مطربي المفضل، مصطفى اسماعيل، قارئ القرآن.
هو مطربي المفضل حتى الآن، رغم وجود زياد رحباني، والعتبة المخصصة للسيدة فيروز.
عبره، عبر هذا الفيضان المتوحش تعرفت على الموسيقى، عرفت هذا الارتفاع المتدرج والصعود المفاجئ الى ذروة الذرى، ثم التمطي عبر القوس، والهبوط الحنون الى القاع، الى ما تحته، او الى نقطة السطر مرة اخرى.
ليصرخ رجل يجلس تحت ساق الشيخ ويقول: يا عيني على الرجز.
من هنا بدأت الموسيقى، ليس عبر الصوت، بل عبر هذه القراءة التعبيرية التي تشد خيوط الموسيقى من أبعد نقطة، قراءة تعمل بتألق المقامات.

في حوار إذاعي، كان الشيخ يتحدث عن ان هذه الآية بها فرح فتحتاج لمقام الـ(سيكا)، واخرى بها شجن او تمهيد لطلعة اخرى فتحتاج للـ(بياتي) ـ (المقام وليس الشاعر).
وكبرت الموسيقى الى الحد الذي انتفخت أوداجي فيه وأكاد ادعي ان محمد عبد الوهاب المعلم تعب طويلاً ليسرق روح بليغ حمدي ويلحن اغنيتين لا يستطيع احد بسهولة ان يتبين لاول وهلة لمن الغنيمة (نبتدي منين الحكاية).
استمع الى الجاز كحالة من حالات الاحتفاء بالحياة ولمصاحبة الفتيات، لكنني مفتون بقدرة زياد على تسريبه في مقامات أخرى، وأجمل.

في جمل نجيب سرور الكثير من الموسيقى ـ لولا الحزن ـ الذي دفع بها إلى مقام العديد، تعلمت منه هذا الإيقاع الداخلي.
اظن لولا الموسيقى لما كان عندي هذا الولع ـ الهوس أحياناً ـ بأن اصنع الإيقاع ثم اكسره داخل الجملة الواحدة.
هل ذهبت خلف فيلليني وبازوليني وبعض قفزات لسينما فرنسية، لماذا أدوخ خلف أفلام فرادى من كوبا وايران وفلافل ميشيل كمون واسد فولكار وسكر بنات وطيارة من ورق وغيرها.
اكاد اعترف بأنني لم احلم قدر حلمي ان اكتب السينما كلها من اول جملة الى الموسيقى والمونتاج ـ خاصة المونتاج ـ.
هل كل هذا التقطيع والفلاش باك والزوم والمرايا وادارة (الممثلين) داخل النص ولعاً فقط؟ خاصة المونتاج ـ هل كان يجب ان أكون مونتيرا بالتحديد؟
هل كل هذه الألوان التي ادعي انني اسكبها سعيدا داخل النص تعني شيئا، اكاد لا اريد ان اترك لوناً حتى الرائحة، خصوصا الرائحة.
أكاد اصرخ لاخترع لونا جديدا يضاف الى علبة الألوان، في الملابس، في الجلد وتحت الجلد، هل كل هذا التشهير على سطح الكتابة يشكل هيجاناً متماهياً مع مثيله في اللوحة.
لم أحسد احداً غير الرسامين، اشعر دوماً أنهم كائنات الله الاولى.
لكنني لست كل هذا، أنا مغن يا سيدتي.
بوغتت عندما عرفت أن محمد نوح وهو مؤلف موسيقي مصري لطيف لم يسمع بتجربة زياد من قبل، غنيت مقطعاً، كنت في الاستوديو خاصته، أدخلني الى غرفة الغناء... بصوت أقل عمقا وخشونة من صوت زياد، واقل نداوة من صوت جوزيف صقر غنيت.
هل هذا هو السبب الذي دعا صديقي الشاعر الكبير عبد المنعم رمضان لان يقول انه شعر ان رواية ألعاب الهوى قد تقرأ بصوت عال، وان قصة ما هي قصة صوت بالدرجة الاولى كأنك ترتلها او بالاحرى تغنيها، وانني أروح بين العدودة والامثولة والموال داخل النص، كأنني اروي عطشي أنا لا عطش الشخصيات او كأنني أغنيها هي كي ترقص داخل النص.
مرة، في سهرة، غنى علي الحجار موشح (كادني الهوى)، غناه كأن احداً لم يغن على الأرض قبله، وغنى أخي رائعته (زهرة النعناع) ووصل الدور عندي بحجة الديموقراطية، لكنني غنيت اغنية قديمة لطوني حنا مشفوعة بموال زهري من أحراج صوته.
ساعتها ـ وأنا اعرف ان ختامي لم يك مسكاً ـ قالت السيدة التي كانت تجلس في الطرف البعيد بتنورة كرمشها دخول الليل الى منتصف منتصفه، خذ هذه البطاقة واذهب لفلان في فندق كذا، وأكملت بابتسامة: وتأهب للغناء يومياً.
ساعتها أدركت أنني المغني الفاشل.

السفير
19 يناير 2009