سؤال واحد، توجهنا به الى كتّاب، روائيين وشعراء: عزت القمحاوي، علاء خالد، أمجد ريان، علاء حليحل. السؤال ليس بجديد، ويبحث في المؤثرات الجامعة، او المختلفة التي تستفز حاجة كل مبدع الى الكتابة، وتستنفر طاقات كامنة، او نائمة فيه الى حين.
ثمة ذلك الحافز اللغز، السري في حياة دواخلنا العميقة، ويقبع بعيداً عن قابليته للتعبير، قانعا بالعمل كخلفية متريثة، لكن منتبهة للانقضاض على شيء ما، حافز ما، علاقة ما، مشهد او صورة لكي تبدأ تعمل، وتريق ماء عذوبتها. من دون »ذلك الشيء« تبقى شاشة الكومبيوتر فارغة، والورقة بيضاء نجلس حيالها خائبين من عدم قدرتنا على خط حرف واحد. ثمة ذلك الاحتياج الى »اشارة ما« لتتراص الكلمات، والى نوع من الجوع الروحي الى البوح تحركه اشارة مبهمة، تختلف من كاتب الى اخر، لكنها ملهمة لكلماته، يروح يروض بها اشياءه الغامضة في ذروة هجومها، اشياء غير قابلة للكبح وقد أفلتتها أخيراً، شياطينها.
من جواب الروائي المصري عزت القمحاوي، حصلنا على حكاية قصيرة قد تصلح ـ يقول عزت ـ لتلمس الجواب عن سؤال حوافز او مؤثرات الكتابة عنده: »كنت قد انقطعت عدة سنوات عن رؤية ابن احد اصدقائي، في مرحلة التخارج بين طفولته وشبابه، وعندما رأيته في دورة للغة تساوينا فيها على مقعد الدراسة وجدته يسألني من دون مناسبة ومن دون ان يسبق اسمي بـ»أونكل«: قل لي يا عزت، هو أنت وصاحبك (يقصد أباه) ما تعرفوش حد طبيعي أبداً؟! قالها بتلقائية، ثم عاد يشرح ليخفف مما رماه في وجهي ببساطة، كيف انني وأباه بلا اصدقاء من خارج دائرتنا، تكون لهم اهتمامات عادية. وقد فتحت مكاشفة صديقي الجديد الذي حرمني من »الأنكلة« بقرار منفرد منه باب السؤال، حول الدوافع التي تجعل فئة من الناس تستهلك اعمارها من اجل تقديم خدمة لم يطلبها منها احد!
يتهيأ لي ـ يضيف عزت ـ ان هناك دافعاً وحيداً للكتابة، وهو ترميم عطب نفسي دفين، والعطب هو الخجل غالبا. الخلل يشترك فيه الكثير من الكتّاب، حتى اولئك الذين يبدون متنفذين وواثقين من انفسهم، لا نخربش القشرة الرقيقة لصلابتهم حتى نصل فوراً الى الجوهر الهش.
حوافز مختلفة
الحقيقة ان عزت لم يكن وحده الذي استهل جوابه بحكاية دالة، فالشاعر أمجد ريان فعل الامر عينه حين قص علينا بدوره حكايته، التي تشعل هي ومثيلاتها رغبة الكتابة عنده: »في احدى المرات، كنت في شباك القطار عندما توقف امام قرية صغيرة، واذ بطفلة لم تتجاوز التاسعة، نحيفة هزيلة تنتمي الى المعدمين من ابناء بلدي، كان نصف جسدها السفلي داخل مياه الترعة التي تعج بالبلهارسيا والانكلستوما، ويداها تنشغلان بغسل وتنظيف المواعين (الاطباق وأدوات الطعام) وفجأة تركت الطفلة ما في يدها من اطباق، ونظرت لي بابتسامة عريضة، واخذت تشير لي بكفها، كأنها تودعني، وأنا متأكد انها في هذه اللحظة انما تتضور جوعاً، وان صورة القطار، وركابه، شكلا لها حلما من احلام الخلاص المقهورة دائما، وعندما سار القطار ظللت اكتب حتى محطة الوصول. معنى الكتابة عندي ـ يضيف ريان ـ متحرك واسباب الكتابة متحركة لذا من الصعب ان تستمر محفزات بعينها تدفعني لاكتب، ولكن في كل يوم، بل وفي كل ساعة تتغير هذه المحفزات وتتولد من بؤر مختلفة وتتبادل، حتى صرت في وضع لا احسد عليه الان، فكل شيء يقع في مجال بصري، او في مجال ذاكرتي، او في مجال حلمي بالمستقبل يمكن ان يحفزني للبكاء وللكتابة.
الكاتب والقاص والشاعر الفلسطيني علاء حليحل يرى في الكاتب (ة) دوماً، شبها بصياد ينتظر قوت يومه من القصص التي تمر بجانبه، فعليه اصطيادها في لحظتها وإلا ضاعت منه الى الابد، لتقع في يد صياد اخر. الكتابة هي مهنة الكذب بامتياز، وعليه فإن القصص التي تحيط بنا، والتي تحفزني على الكتابة كل يوم من جديد، هي الاصل وهي الجوهر، بمبالغاتها وكذبها. نحن مجرد أدوات ـ يقول حليحل ـ مهمتنا اقتناص روح القصة وكتابتها من جديد، بمفردات وآليات تجذب القارئ وتحفزه بدورها على اقتناص ملذاته من النص الادبي. كل ما حولي يحفزني على الكتابة (وهذه سعادة عظمى). وصلت الى هذه الحالة بعد ان تيقنت من انني ككاتب لست اهم من الواقع ولست اهم من الناس التي اكتب عنها. يجب على الكاتب ـ يضيف حليحل الذي يتفق هنا مع الاجابة/ الحكاية التي رواها القمحاوي عن ابن صديقه: ألا تعرفون احداً عادياً؟ ـ ان يفتح عينيه ملء الدنيا كل يتعلم وكي يحافظ على تواضع ما، بينه وبين نفسه، بأن الناس تكتب آلاف القصص يومياً، افضل بكثير مما يمكن ان يبدعه بين جدرانه الاربعة.
السعي وراء القصة ـ يضيف حليحل ـ القصة الجيدة، هو سعي لانهائي، ولكنني افضل ان ابحث عنها قربي، في بيئتي المحيطة. فالمكان الذي يعيش فيه الكاتب هو قوته المطلقة: التفاصيل اليومية التي تتراكم لتصبح عالماً متيناً، الامزجة التي تتراكم لتصبح شخصيات جذابة، الطرائف والنوادر والقصص المؤلمة التي تتراكم لتصبح حبكة، الولادات الجديدة، الميتات الجديدة، الازمات التي لا تنتهي، الفرح، الحزن، البؤس، الشهوة، التدين، البحث عن المال، العثور عليه، عدم العثور عليه، البحث عن مكانة، الاستسلام، المقاومة. اي مواد ـ يتساءل حليحل ـ اكثر من هذه يمكن ان يطلبها اي كاتب كي تحفزه على الكتابة؟
وظيفة المبدع تصبح مهمة ان تطرق باب إنسان يسكن بجانب البحر من 30 سنة، وتلفت انتباهه ثانية الى صوت البحر. أنا ابحث عن صوت البحر الخافت، المنسجم في ضجة التراتبية، كي اعيده الى المقدمة. هذه مهمة شاقة واحيانا شبه مستحيلة: ان نتناول العادي، الطبيعي، المبتذل، ربما، ونعيد له هيئته، حضوره وقوته الطاغية. ففي النهاية جل حيواتنا نعيشها في العادي والمبتذل والقصص العاصفة لا تكون الا في هوليوود. ألا تستحق القصص التي حولنا التفاتة منصفة؟
سؤال علاء حليحل الذي ختم به اجابته، يقابله نوع من الاعتراف، او الطقس الكتابي عند عزت القمحاوي يدخلنا فيه الى عالمه: »أنا الذي فشلت أمه ومن بعدها حبيبته الهشة مثله، في جعله يمشي مباعداً بين كتفيه، اجلس وحيداً في الليل مع الكيبورد والشاشة المضيئة كي اعوض كل خسارات النهار، وبينها اوقات المتعة التي لم اقتنصها بدفاع الخجل. اكتب ـ يقول عزت ـ لكي اكون مرئيا، وكأن الكتابة ممارسة لطقوس دين »الظهور« الذي اعتنقه في السر، بينما اجاهر بعقيدة التخفي التي تنتمي الى حدود قدراتي الخاصة، اكثر من انتمائها لطبيعة الكائن البشري. ولكن الايمان وحده لا يكفي، بعدها تأتي الدوافع التي تأخذ بيدي الى الكتابة، ويمكن اجمالها في دافعين اثنين، اولهما الاحساس بالامان ـ حيث لا استطيع ان اكتب في وجود تهديد بعمل او حزن او سفر او احداث عامة جسيمة ـ وثانيهما الاحساس بالخفة، الذي قد يأتي بعد مغازلة لطيفة او سهرة حلوة او قراءة كتاب او مشاهدة فيلم جيد.
السيَر
الشاعر علاء خالد يأتي الكتابة من الموسيقى، والسير، والتأمل، والصمت: »افضل ان ابدأ الكتابة وهناك رصيد طازج من الشحن الذاتي. مرات عديدة كنت استمع فيها للموسيقى، وعند انحناءة معينة في اللحن اجد جملاً مكتملة تكتب في عقلي او على الورق، بدايات قصائد او جمل شعرية تأتي بلا سياق، كأن الموسيقى باتساع عالمها هي سياق لتلك الجمل المنبتة.
في قصيدة قديمة لي ـ الكلام لخالد ـ كنت استمع للموسيقار برودين، وانتابني شعور باليأس العميق، كتبت: »كل الهزائم تأتي من الموسيقى، وبالاخص برودين«. لم اجد معادلاً لهذا الانهيار الذي خلفته موسيقى برودين في نفسي سوى نسب الحالة لها. الموسيقى في تلك الحالة كانت تمس وتتسلل لطبقة عميقة في نفسي تسلط عليها الضوء الشديد وتكشفها وتعريها، متخطية اي حواجز، كأني كنت أرى مستقبلي عبر الموسيقى، لانها أفق مفتوح بلا زمن. وكأني من الواجب عليّ ان اعترف امامها.
الشاعر أمجد ريان لا تحفزه مؤثرات محددة ثابتة باستمرار: »تحفزني افكار او احداث بعينها، وبعدها بأيام تفقد هذه المعطيات قدرتها على التأثير تماما، لتبدأ معطيات عكسية في التأثير عليّ وتحفيزي!! فقد اتأمل امرأة فقيرة عائدة من السوق تحمل أكياساً من بلاستيك قديم ممزق، تمسك أكياسها بحماسة، بينما تحمل طفلها النائم وفي عينيها اصرار وحزم، فأجدني منفعلا ومتحمسا للكتابة بشكل غير عادي. او قد أرى ستارة حمراء قرمزية في ركن من حجرة هادئة، فيها أثاث نظيف راق ناعم السطح، فتلتهب رغبتي في الكتابة، وهناك سبب اخر يمكن ان يحفزني للكتابة، وهو احساسي بالسعادة عندما اكتب من ايماني المطلق بأن الكتابة هي الملاذ الاول والاخير لي ولوطني ولانتمائي الآدمي كله.
قد انظر في أعلى دولاب الملابس فأرى ـ الكلام لريان ـ اجهزة قديمة غير مستخدمة وادوات لم يعد لها اي دور، انها »كراكيب« عديمة الفائدة، ولكننا نحتفظ بها بإصرار في بيوتنا، وعندما اتذكر ان المسألة لها صلة بالحنين للماضي، وللشعور بأمان وهمي، احس انني اريد ان اتوجه الى مكتبي على الفور لاكتب.
الصمت
لأمجد ريان محفزاته، ولعلاء خالد ما يضيفه على محفز الموسيقى على الكتابة: »شيء اخر يشحن وجودي بافكار وسياقات من الاحاسيس، الا وهو السير. ولكن السير يأتي بأفكار لها صفة الكلية اكثر من تأثير الموسيقى. لا تنبثق الافكار او الجمل الجميلة اثناء السير، ولكنها تتسلل وتتوالد داخل سياق هذا المجهود البدني المنظم. السير لا يأتي بأفكار شعرية، ولكن بأفكار مركبة لها حس فلسفي غائر، سرعان ما ادونها في الورق الذي احمله في حقيبة السير. السير ـ يردف خالد ـ يستدعي ذاكرة متحركة، بذور افكار تتكاثر مجرد الجلوس عليها مرة اخرى، لانها ابنة سياق متشابك ومتحرك وديناميكي، بعكس الجمل التي تبعثها الموسيقى، تأتي مكتفية بنفسها وغير قابلة للتكرار او لضمها بجملة اخرى من نفس نسيجها.
هناك حالة ـ يقول علاء خالد ـ تدخلني للكتابة بدون تعمد، عندما اسهو، لأفاجأ بنفسي غارقا في شريط من التأملات. ليست التأملات هي المهمة في هذه الحالة، ولكن الكتابة كأداء هي سياق اخر منظم.
يهيئ الصمت تلك اللحظة المناسبة للانتقال لذلك السياق. اهمية الصمت انه ليس مثيراً خارجياً، بل احد أفراد مسيرة الوعي الذاتي، لذا هو يسحبك لعائلته، لاعماق غير خطرة، لانه في النهاية يريد ان يحافظ على وحدة هذا الوعي الذي ينتمي إليه. تدخل في بهو الصمت كأنك تدخل من باب لتجد هناك ليلاً مضيئاً تتساوى فيه الاشياء بإضاءة واحدة، بدون تركيز شديد للضوء عليها كما يحدث في حالة الموسيقى، او بإخفائها في الظلام. الصمت لا يطرق باب اللاوعي.
السفير
سبتمبر 2008
إقرأ أيضاً:-