تعلو باضطراد، شكوى المبدعين (الشباب بشكل خاص) من تقصير النقد الأدبي عن مواكبة نتاجاتهم. الشكوى العالية، لا يعنينا صدورها من ذوي النتاجات ذات الطابع الكمّي الهش، بل من أصحاب النتاجات والنوعية، التي ترى في المقاربات النقدية لأعمالهم، مرآة حاضنة تظهّر عبر النقد ما ينعكس في هذه الأعمال من جمال أو عيب. النقد الجاد، بما هو إضافة معرفية إلى المنتج الأدبي (رواية، قص، فلسفة، فن، شعر، وخصوصاً ما اصطلح على تسميته قصيدة النثر المعاصرة بما تثيره حتى اللحظة من أسئلة وشد وجذب، والمعنية أكثر من ندرة مقاربتها النقدية). النقد يندر أو يغيب، أو تقصر مصطلحاته ومفرداته وماهيته بشكل عام، عن اللحاق والتواصل مع ما تفرزه الساح الأدبية العربية، أو هو (النقد) في أضعف حالاته، يأتي ترويجياً خاوياً، وتسويقياً مهللاً، بفعل الشللية المتشكلة راهناً، أو أكاديمياً علمياً في أحسن الظروف، لكن مراوحاً في ماضويته ومصطلحاته المكرورة، العاجزة عن تجاوز نفسها نحو آفاق جديدة معاصرة، تمليها مآلات الكتابات الحديثة.
عن تقصير أو عدم تقصير (الأمر مطروح للمساءلة) النقد عن مواكبة كل جديد في الإبداع عموماً، وعن النقاد الذين استطاعوا الارتقاء بعدتهم النقدية إلى مصاف الكتابات المعاصرة ومحاكاتها، سألنا الباحثة والناقدة الأدبية اللبنانية رفيف رضا صيداوي، والكاتب والمترجم العراقي حسين الموزاني، والكاتب القاصّ والشاعر المغربي محمد بنميلود، وكانت هذه الإجابات.
شهادة وفاة
لرفيف صيداوي رأيها المتفائل إلى حد، بحضور النقد ومقارباته شتى الصنوف الإبداعية: «للإجابة عمّا إذا كان النقد قد تخلف أم لم يتخلف عن مواكبة النتاجات الأدبية عموماً، لا بد من توضيح أن النقد هو علم وفن في الوقت عينه، وأن غايته تكمن في مواكبة النتاج الأدبي من شعر وقصة ورواية وغيرها من الأجناس الأدبية، وإلا بطلت وظيفته. تلك الوظيفة التي تتمثل بموضعة النتاجات في سياقها الاجتماعي بكل ما ينطوي عليه هذا السياق من مظاهر وصراعات وتناقضات وسيرورات تسهم في إعادة تشكيل المادة الأدبية نفسها، من حيث المضمون والشكل. وكثر هم النقاد والناقدات من المغرب والمشرق والخليج العربي الذين لم يتميزوا فقط بتطوير عدتهم النقدية ومواكبة النتاجات المعاصرة، بل تميزوا بقدرتهم على التبصر بالنتاجات الأدبية، مستعينين بمناهج ونظريات غربية تارة، وبالتراث تارة أخرى أو بكليهما، وبتقديم معرفة إبداعية بهذه النتاجات المعاصرة وبالمجريات من حولها، الأمر الذي ميز نقدهم بالمعاصر. إذ أن مصطلح «المعاصر» أو «الحديث» يكتسي معناه أساساً من رؤية الناقد ومن طرق مقاربته للنص الأدبي. إلا أن المشكلة تكمن في أن هذه الإبداعات النقدية، شأن النتاج الإبداعي نفسه، بقيت مرتبطة بنتاج أصحابها من دون أن ترتقي إلى تشكيل تيار مبدع من شأنه أن يشكل إضافة معرفية في مجال النقد الأدبي العالمي. ومن هنا يكمن أساس المشكلة من وجهة نظري، والتي تنسحب على حقول العلوم والمعارف الإنسانية كافة في عالمنا العربي».
الكاتب والمترجم حسين الموزاني، أكثر «ضراوة» في رؤيته إلى النقد الأدبي العربي ويرى فيه انعكاسا لوضع اجتماعي شامل. الموزاني أحالنا بداية إلى تعبير للناقد الألماني المعروف مارسيل رايش لانسكي في ان مهمة الناقد، تحرير شهادة وفاة العمل الأدبي، يقول الموزاني: «بلا شك أن هناك شيئا من الغموض يحيط بمصطلحي النقد والناقد معاً، فهما مترجمان عن واقع ولغة يختلفان تماماً عن الواقع واللغة العربيين. والتعبير الصحيح في هذا السياق هو «التقييم» و«المقيّم»، وهذه واحدة من الإشكاليات المعقدة في ميدان الأدب، لأن عبارة المقيّم تنطوي على الموضوعية وربما الترفع، أي ان الناقد لا يكون أكثر من حاكم أو محلل أو مفسّر للنص. وحسب تعبير الناقد الألماني المعروف مارسيل رايش رانسكي ـ يضيف الموزاني ـ فإن الناقد لا علاقة له بقتل العمل الأدبي، بل ان مهمته تقتصر على تحرير شهادة الوفاة. وسأكون راضياً ومطمئن النفس للغاية لو رأيت شهادات الوفيات يحررها النقاد العرب في كل موقع وزمان، وتشخيص أسباب الوفيات هذه، ولكنني أخشى في الوقت نفسه من أن نكون نحن العرب اليوم في أشد الحاجة إلى من يحرر لنا شهادة وفاة نقد النقاد أنفسهم. فصحيح ان الظرف ينضح بما فيه، أو أن على قدر أهل العزم تأتي العزائم، لكننا نرى أيضاً بأن النقد العربي يعتمد غالباً أساليب لا علاقة لها بمهمته الجوهرية القائمة على المراجعة والتقييم وإضاءة العمل الفني، بل تراه يقصر نشاطه أحيانا على حجم علاقة الناقد بالمنقود، فيحصر نقده في السؤال التالي: ما هو مقدار المنفعة الشخصية التي سأجنيها إذا ما تناولت هذه الرواية أو ذلك الديوان أو تلك المسرحية؟ فيصبح النقد الأدبي حينئذ مقايضة تجارية وهوس بالربح والبحث عن أجوبة سريعة لأسئلة من قبيل: هل سأحصل على دعوة من هذا البلد الذي امتدحت كاتبه؟ وهل أستطيع مستقبلاً زيارة هذا البلد الذي انتقدت كاتبه؟ وإلى أي مدى يشعر الكاتب الآخر بحساسيته الجغرافية أو الطائفية الجمعية إذا ما تعرضت بالنقد السلبي لعمل أدبي أنتجه مواطنه؟ يضاف إلى ذلك بالطبع صعوبة النشر وانتشار الكتاب وتوزيعه في العالم العربي. ويكون لسان الحال في نهاية المكان هو تحريف المثال ليصبح: على قدر أهل الدفع تأتي المدائح!
تحدي الكم
رفيف صيداوي تضيف بأن الإبداع النقدي الذي وصفته بالفردي لم يتحقق إلا عبر مواكبته النتاج القديم والمعاصر في آن. أما تجاوزه لبعض النتاجات المعاصرة فلا يرتبط برأيي بالإهمال أو بالتغييب بقدر ما يرتبط بحالة الفوضى التي تسود حركة الانتاج الأدبي الراهن الذي غلب فيه الطابع الكمي على الطابع النوعي. فثمة كمّ هائل من النتاج الأدبي الروائي والقصصي والشعري، خصوصاً لدى الأجيال الشابة الذي يسوق لاعتبارات كثيرة منها الاتجاه التجاري لبعض دور النشر العربية، وسهولة الترويج للنتاجات مقارنة بفترات زمنية سابقة، لا سيما مع انتشار الانترنت والمدونات وغيرها من تقنيات التواصل الالكترونية الحديثة، ناهيك بالقراءات الصحفية للنصوص الأدبية المرتبطة بأذواق أصحابها وانطباعاتهم الذاتية، والشللية، وموضة الجوائز الأدبية ومعارض الكتب التي تغدو ـ نظراً للفساد الذي يخترق كل البنى السياسية والاجتماعية والثقافية في مجتمعاتنا، بمثابة سيف ذي حدين. ففي ظل هذه الاعتبارات جميعها قد لا تكون مشكلة النقد الأدبي قائمة في متابعته أو عدم متابعته للنتاجات المعاصرة، بل في التحدي الذي يواجهه في ظل هذا النهر المتدفق من النتاج وما يوازيه من معايير جمالية وأدبية لا علاقة لها بالإبداع بل بما تبثه معظم وسائل الإعلام بأشكالها كافة. كما يكمن التحدي في قدرة النقد الأدبي على الاستمرار في الاحتكام إلى المعايير العلمية والقيم الفعلية للإبداع في مواكبة هذا الكم من النتاج المعاصر. ولئن كان هذا النتاج الأدبي، على اختلاف أجناسه ومستوياته، هو المرجعية الأساسية للنقد، فإن النتاج المبدع، والمبدع فقط، هو القادر على إثراء النظرية النقدية وإعادة تشكيل مفاهيمها وأدواتها. ولأن النقد الأدبي الجاد غالباً ما يلجأ إلى معاييره الخاصة التي يفرضها التخصص العلمي والتي تفترق عن تلك التي يفرضها الاتجاه التسويقي والتجاري السائد في المحاولات المجتمعية كافة، قد يبدو تجاوز النقد الجاد للنتاج الهش قصوراً عن مواكبة النتاجات الأدبية.
ثمة اتفاق الى حد، بين صيداوي والموزاني على علة واضحة تشوب النقد في متابعاته، وإن اختلفت النبرة عند كليهما. وقبل الوقوف على ما أضافه الموزاني في إجابته عن سؤال النقد، نقرأ للكاتب المغربي محمد بنميلود مساهمته معنا في هذا الشأن، يقول بنميلود، أو يرى على وجه الدقة ان النقد قيمة ضرورية وبالتالي مساءلته يجب أن تكون قاسية، لمّا عليه تطوير نظرياته الخاصة، وعدم البقاء حبيس نظريات مستوردة.
نقد النقد
الحديث عن النقد هو نقد بالضرورة. هذا المجهر الذي يكبر الإبداع لنراه كما هو في الحقيقة. ليس كمادة حلمية. بل كموضوعية لها شكل ووزن ووجود مادي قابل للتفكيك والتركيب.
من هذا المنطلق تبدو قيمة النقد ضرورية وأساسية كاستكمال جماعي للعملية الإبداعية الفردية التي قد تكون مثلا رواية أو قصة أو عملا شعريا وهذه الأصناف هي أكثر ما يهمني هنا. لكن النقد سيخضع هو أيضا بالضرورة للمساءلة القاسية باعتباره تدخلا في الإبداع. هذا إذا تحدثنا بصفة عامة.
أما في ما يخص النقد العربي للنتاجات الإبداعية العربية. فستكون مساءلة النقد قاسية أكثر. فالنقد العربي لم يطور أية نظريات نقدية خاصة به. بل ظل حبيس نظريات مستوردة. وهي لم تعد صالحة في الحقيقة لتتبع آثار الإبداع العربي الحديث. الذي يضرب في أراض جديدة. وفي هذا عدم استيعاب للحساسية العربية التي مهما صبت في العالمية فهي تظل انعكاسا لشروط ثقافية ونفسية خاصة. وهو في نفس الوقت عدم استيعاب لروح الإبداع التي لا تثبت على حال.
أيضا قد نطرح السؤال المناسب التالي: هل يفترض في الناقد أن يكون مبدعا هو الآخر. أم يكفي ان يكون الناقد مطلعا وملما بالنظريات والأدوات النقدية. في الحالة الثانية ستكون النظريات النقدية مجرد وحوش مخيفة. كما يقول الياس أبو شبكة. وفي تصوري سيكون الإبداع هو الضحية الوحيدة لهذه الوحوش.
لكن. بالإضافة إلى ذلك قد يكون هناك مشكل آخر تقني. قد لا نحسبه بالكامل على النقد وهو دور النشر التي تقدم المادة الأولية للناقد. فما تقدمه هذه الدور والطريقة التي تتعامل بها والتي تخضع في الغالب لشروط السوق. تنتج لناما قد نسميه بالحلقة المفقودة بين مبدع حقيقي وناقد حقيقي.
لكن هذا كله لا يعني توقفا ما في الكيف إذا كان العطب واضحا في الكم. بل هناك إبداع عربي حديث قوي واستثنائي يأتي من أماكن غير متوقعة. وهناك نقاد مبدعون يفرقون جيدا بين الغزالة وظلها. وفي الغالب لا ينطلق هؤلاء النقاد من مسلمات نقدية جاهزة، بل ينطلقون من روح الإبداع ذاتها. لابتكار حيل جديدة للإمساك بغزالة الإبداع الزجاجية الحذرة، حيث ما سيهمنا دائماً هو الكيف وليس الكمّ».
أخيراً الموزاني يضيف جديداً هنا على استهلاله الإجابة عن سؤال النقد: «إن النقد الأدبي هو أيضا انعكاس لوضع اجتماعي شامل، بل هو الانعكاس اللاواعي المطلق لهذا المجتمع. ونحن نرى الآن انتقال المجتمعات العربية التي تبلغ نسبة الأمية في بعضها أكثر من سبعين في المئة، نرى انتقالها من عصر القراءة، الشديد القصر أصلا، إلى عصر التلفزيون، بمعنى أن هذه المجتمعات تحولت إلى مجتمعات متلفزة، مما يعني نهاية عصر القراءة.
وبما أن الأدب هو محاولة حثيثة لإخراج الإنسان من حيوانيته ونوازعه الشريرة، أو ترسيخ أحاسيسه الجمالية والأخلاقية في أفضل الأحوال، فإن الناقد يكون بحاجة إلى أدوات فنية متعددة تجعله قادرا دائما على جس نبض الملامح الإنسانية والفنية والإبداعية للعمل الأدبي ومجتمعه. وعليه أن يكون على دراية تامة بمهنته ومهمته الاجتماعية وسلامة ضميره الإنساني. والمكان الوحيد الذي يوفر له هذه المعرفة الحرفية هو الجامعة ذات التعليم الحر والمنفتح على ثقافات العالم، هذا في حالة توفر الموهبة الأصيلة في ذهنية الناقد، يعني فيما إذا كان قارئا متميزا ومتذوقا منذ طفولته وصباه.
ويحضرني في هذا المقام أسماء نقاد على غرار محمد مندور في كتابه عن «النقد المنهجي عند العرب» ومصطفى سويف في تحليله للأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر وتلميذه عبد المحسن طه بدر في بحثه عن جذور الرواية الفنية في مصر، وهؤلاء كلهم كانوا نتاج الثقافة المصرية عندما كانت ثقافة أصيلة غنية بالإبداع والمبدعين.
السفير
17 مارس 2010